المحتوى الرئيسى

هيكل ومدرسته نقش على حجر فى العلمين (2-5 )

09/23 01:47

لم يخطر بباله، وهو يوشك أن يستكمل أعوامه التسعة عشر، أنه أمام لحظة فارقة فى حياته كلها تطبع ما بعدها فى رحلته الصحفية والسياسية، وأن الكلمة التى نطقها تواً: «أنا رايح» بدأت معها أعمق تجاربه كنقش على حجر استقر عميقاً من الصغر لسبعين سنة تالية.

بمجازفات السن، الصبى فى سبتمبر (١٩٤٢) قبل أيام من بدء حرب العلمين قرر أن يدخل تجربة تغطيتها عند الخطوط الفاصلة ما بين الحياة والموت. كان قد التحق فى العام السابق بصحيفة «الإجيبشيان جازيت» مع ثلاثة زملاء آخرين من أعمار صغيرة متقاربة هم: «رمسيس نصيف» و«مايكل فلتس» و«يوسف صباغ»، والأخير من أصل فلسطينى.. فكر رئيس تحريرها «هارولد إيرل» أن يعرض على «الأولاد الأربعة»، والحرب بدأت نذرها على مقربة من الإسكندرية على الساحل الشمالى، أن يرسل إلى هناك مراسلين شباناً يتابعون بعيون مصرية وقائعها، فما كان يُنشر فى صحيفته التى تكتب بالإنجليزية منقول كله عن وكالات الأنباء العالمية، وما كان يُنشر فى الصحف المصرية التى تصدر بالعربية منقول بدوره من المصادر ذاتها.

ثلاثة من «الأولاد الأربعة» بدت على وجوههم علامات حيرة، وحيرة النظرات تحولت إلى إيماءات تردد قبل أن يكون الاعتذار صريحاً، فقد اشترط «إيرل» أن يحصلوا على موافقة خطية من أولياء أمورهم قبل أن يدفع بهم إلى خطوط القتال، وهذه مسألة يصعب تصور أن توافق أسرهم عليها، غير أنه أعلن استعداده للسفر بلا تردد أو تفكير، على عكس ما دأب عليه بعد أن استكملت شخصيته خبراتها الأساسية، وجازف بقراره دون موافقة والده، وتمكن بطريقة ما من إقناع خاله بأن يوقع على موافقة خطية بالسفر إلى مواطن الحرب.

قبل أن يسافر مباشرة جلس إليه رئيس تحرير «الجازيت».. وكان ما تلقاه من إرشادات حاسماً فى مسيرته المهنية. قال «إيرل» باقتضاب: «لا ترسل أخباراً، حاول أن تستقصيها وتكتشف خباياها بقدر ما تستطيع، لكننا لا نتوقع منك أن تنافس مراسلى الصحف والوكالات الدولية، الظروف لن تمكنك من أن ترسل ما تحصل عليه فى برقيات، والحل الوحيد أمامك، وهذا ما نطلبه منك ونكلفك به، أن تدون ملاحظاتك على ما ترى فى ميادين الحرب وسير معاركها، وأن تسجل انطباعاتك على ورق أولاً بأول على وقع ما يجرى أمامك.. وعندما تعود حاول أن تضبط صياغاتها دون أن تفقدها حيويتها وطزاجتها التى كانت عليها، فالمادة المكتوبة على صياغتها الأولى فى وقتها أكثر حياة مما يُكتب بعدها».

بعد سبعين سنة، وتجاربه المهنية اتسعت إلى آفاق مفتوحة، قال: «ثبت بالتجارب أن هذه القاعدة سليمة، وسليمة تماماً».

فى تجارب السياسة والصحافة والحياة فإن للمرة الأولى سحراً خاصاً وأثراً لا يُمحى، قد لا تكون ناضجة تماماً لكنها تنطوى على سحر الاكتشاف الأول.

عادة التدوين استقرت داخله، لم يفارقها يوماً واحداً، وتحولت باستطراد الحرص عليها إلى غريزة أساسية عنده، فكل شىء يدون، أخبار يريد أن يستقصى خلفياتها، ومعلومات يريد أن يحققها، وصياغات أولية لأخبار محققة، ومعلومات مؤكدة منسوبة إلى مصادرها، وما يرد على ذهنه من أفكار وتصورات يضعه على ورق.

فى البدء كانت الكلمة.. وما بعد الكلمة يبدأ التدوين، فـ«الذاكرة خوانة».. و«من المهم للغاية أن تضع على ورق أهم ما يجرى أمامك من أحداث».. «هناك قيمة معنوية مضافة لما تدون وتكتب.. إنها مشاعرك، وهى مسألة تخصك وحدك ولا تلزم غيرك لكنها تكشف أمامك عندما تطالع الورق- بعد وقت يطول أو يقصر- الطريقة التى نظرت بها إلى الحدث وقت أن سجلت ما لديك من معلومات وملاحظات، وقد تحتاج مراجعتها وتأملها من جديد، قد ترى أنها كانت صائبة أو جانبها الصواب بحقائق أخرى تكشفت أمامك فيما بعد، لكنك كنت فى لحظتها على النحو الذى كتبت».

«لم أنشر كل ما كتبت على ورق، وهذا طبيعى، استخدمته أحياناً بصورة مباشرة مع ضبط الصياغات، وأدخلت بعضه الآخر فى سياقات ما كتبت من روايات تاريخية، ورأيت فى بعضه الثالث أن وقته للنشر لم يأت بعد».

عنده قدرة خاصة على احتمال إغواءات النشر فلكل قضية وقتها.. هكذا احتفظ لربع قرن بست مقالات كتبها فى صورة رسائل إلى الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» فى أوائل الثمانينيات عند مطلع حكمه دون أن يلمح فى أى وقت لاحتمال أن يدفع بها لمطبعة. «مبارك» طلب من مستشاره السياسى الراحل الدكتور «أسامة الباز»، وهو يدرك عمق الصلة بينهما، إعادة أصول مقالاته التى أرسلها إلى مجلة «المصور» إليه راجياً ألا تُنشر الآن، فالظروف لا تحتمل على ما قال الرئيس الأسبق، بينما أبدى رئيس تحرير المجلة الأستاذ «مكرم محمد أحمد»، وصلته به وطيدة هو الآخر، حماساً للنشر وتحمل مسؤوليته. بقبوله عدم النشر، لا فى مصر ولا خارجها، أعفى الجميع من الحرج.. لكنه عاد بعد ربع قرن قرب نهايات حكم «مبارك» ليتخذ قراراً آخر.

ذات مساء سألنى إن كان ممكناً أن أمر عليه للتو، وما إن وصلت إلى مكتبه على نيل الجيزة حتى وضع أمامى رزمة كبيرة من الأوراق المطبوعة قائلاً: «أريد أن أنشرها الآن».. طلب أن أبدأ فى قراءتها، كان حجم الأوراق يؤشر إلى أن القراءة قد تستغرق ساعتين، قلت: «لا يصح أن أستغرق فى القراءة وأنت جالس تنتظر»، قال: «انس ذلك، وتذكر أنك صحفى، وأمامك أوراق لم يطلع عليها أحد منذ نحو ربع قرن».. وأخذ يرقب انفعالات الوجه ويدرك بحسه أى موضع أثار اهتماماً، يسأل ويستقصى الرأى.. سألته: «لماذا فكرت فى نشرها الآن؟».. قال بلا تردد: «هذا وقت النشر ولا وقت بعده، فإما الآن أو لا تُنشر أبداً».. ومضى الحوار إلى خطته فى النشر وتوقعاته لردود فعل نظام «مبارك» الذى بدأ يدلف إلى نهاياته.

تجربة العلمين بدت عميقة، أكثر مما تصور هو وقتها، وأكثر تأثيراً فى حياته مما قد يتصور أحد آخر.. إنها الدرس الأول فى السياسة والصحافة والحرب تلقاه فى الخنادق ووسط المخاطر، وقد أفضت تجربته إلى آثار جوهرية فى تكوينه الصحفى.. أهمها وأعمقها عادة التدوين والعناية بالأوراق التى يكتبها، يستفيد منها فى كتابة قصصه الإخبارية، لكنه لا يمزقها، يضعها فى أرشيف مرتب يسهل العودة إليه كلما احتاج إلى استعادة تفاصيل لم يستخدمها أو استعادة الأجواء التى عاشها فى المرة الأولى. يستخدم ما كتب فى سياقات ما يروى، لكنه يحتفظ بالأصل، بمشاعره هو وقت كتابتها، وفى الأوراق الخاصة ما يكشف عن طرائق التفكير، وفيها أسرار أخفاها كاتبها وأحكام لم يفصح عنها، وكان قد قرر أن يترك أوراقه الخاصة على النحو الذى كُتبت به أول مرة لمن يأتى بعده من باحثين ومؤرخين وصحفيين يدققون فى الأصول الخام ويطابقونها بما نُشر فعلاً فى مقالات وكتب. وهذه مسألة ليست باليسر الذى تبدو عليه، فالأوراق الخاصة سر صاحبها، وقد تستخدم ضده: لماذا أغفل نشر معلومات وردت فيها.. وكيف تباينت الصياغات الأولية مع ما هو منشور، ومدى تأثير الانحيازات الشخصية على الصياغات والرؤى والرواية كلها. هو يدرك ذلك تماماً، لكنه قرر أن يترك كل شىء للتاريخ يحكم بما يحكم به.

فى زحمة الانشغالات المصرية بما يحدث فى ميادينها التفت إلى سجالات أمريكية صاخبة حول «أوراق بوب ودورد»، أشهر الصحفيين الأمريكيين المعاصرين، التى باعها بـ(٥) ملايين دولار، وهى الأوراق التى صاغ على أساسها كتابه الأشهر «كل رجال الرئيس» عن تجربة سقوط الرئيس الأمريكى الأسبق «نيكسون» بعد فضيحة «ووتر جيت» المدوية، بدا لباحثين فى الأوراق ومنقبين فيها أن ثمة تناقضات ومعلومات جرى التلاعب بها قوضت أسطورته. لم يكن مرتاحاً لفكرة «بيع الأوراق الخاصة»، لكنه كان مستعداً أن يواجه الاختبار ذاته.. بلا إغراء مال أو إغواء بيع واثقاً أن التنقيب فى أوراقه وأصول تفكيره ينصفه فى التاريخ.. لكن الأوراق راحت فى «حرائق برقاش».

تجربة التدوين الأولى أكسبته التفاتاً خاصاً للقصص الجانبية وخلفية الأحداث والأجواء المحيطة بها. هو من مدرسة الخبر وسؤاله الدائم: «إيه الأخبار؟».. أكثر ما يحرص عليه أن يصل إلى خبر جديد حيوى ومؤثر فى حركة الأحداث قبل غيره، وعندما يسمع بخبر يتابعه ويستوثق من مصادره المتعددة ويحاول أن يحيط بأسرار جديدة فيه، حتى التسعين من عمره يعمل ويتصرف بالروح التى كان عليها عند مطلع عشرينياته فى العلمين، التى علمته تجربته فى حربها أن الخبر لا يتوقف عند حدوده الظاهرة. لم يكن يرسل لصحيفته أخباراً لكنه حاول بقدر خبرته فى ذلك الوقت أن يستكشف خلفياتها وما وراءها.. والتدوين أداته الأساسية فى بناء قصصه الصحفية، فـ«التفاصيل الإنسانية والأجواء المحيطة أساسية لا غنى عنها».. كان ذلك ما هو مطلوب منه فى العلمين لكنه استقر معه من مرحلة إلى أخرى.

فى تجربة العلمين وبعدها استقر عنده أن «ضبط السياقات هو الأساس فى صياغة القصص الإخبارية الموسعة والتحقيقات الاستقصائية وفى الكتابات السياسية المستطردة».. لكن «التأكد من سلامة المعلومات وتسلسلها ودقتها عبر مصادر مطلعة يسبق إحكام الصياغات التى تتوج بجماليات اللغة وإتقان الصنعة ما هو صحيح ودقيق ومؤكد».. وأنه «لا قيمة لقصة إخبارية مهما بالغ صاحبها فى فنياتها ما لم تكن مستندة إلى معلومات صحيحة وأخبار تأكدت سلامتها.. ولا اعتبار لمقال سياسى ما لم يؤسس رؤيته على بنية معلومات محققة فى موضوعه».

من عادته عندما يراجع نصوصاً كتبها أن يقرأها مرتين.. الأولى يتأكد فيها أن السياق منضبط بلا فجوات تعيق حركته.. والثانية ينظر فى صياغاتها ودقة تعبيرها عن المعلومات التى أوردها والوثائق التى كشفها.

ربما يعاود القراءة لمرة ثالثة لإحكام البناء الدرامى، فهو «روائى كامن» و«شاعر مقموع».. وذات مرة رسمه الفنان الكبير «جورج بهجورى» كأنه عقل أشبه بآلة جبارة تنتج أفكاراً ورؤى وتصورات، و«جورج» مغرم بـ«الأستاذ»، رسمه كثيراً دون أن يلتقيه مرة واحدة، قال لى معلقاًً: «لست على هذه الصورة، فنصف ما أكتبه أدب».

ربما تكمن الحقيقة فى منزلة ما بين المنزلتين، فهو صارم فى عقلانيته لكنه رومانسى بالروح، يحفظ عن ظهر قلب دواوين المتنبى وشوقى ويستعيد أبيات الشعر كأنه يتنفسها، فلكل موقف بيت شعر يستدعيه من الذاكرة يعلق عليه ويبدى رأيه فيه.. واستعادة محفوظاته الشعرية من وسائله لتدريب الذاكرة أن تأبى على نسيان ما جرى.

فى تجربة الحرب استكمل حسه الدرامى الذى تولد عنده فى طفولته الباكرة من قراءات والدته بصوت مسموع فى كتب السير الشعبية كل مساء.. و«الحروب دراما هائلة فى حياة البشر فيها الأمل والرجاء واليأس والإحباط.. فيها الموت والحياة على تجاور، فيها تباشير النصر ووجع الهزيمة، تفاصيلها الإنسانية وتحولاتها الصاعقة أقرب إلى التراجيديات الكبرى، بعض أبطالها تبلغ شهرتهم عنان السماء وتزين ستراتهم العسكرية بالنياشين وبعضهم الآخر تستنفد بطولاته وتضحياته رمال الصحراء المتحركة»، كما أخذ يروى ذات مساء فى بيته على نيل الجيزة عن تجربة العلمين وأثرها فى حياته المهنية.

تجربة الحرب فى العلمين بدروسها العميقة دعته تالياً إلى مواقع حروب أخرى من صقلية التى ذهب إليها مع الجيش الثامن البريطانى بقيادة «مونتجمرى» وبعدها معه إلى فرنسا.. لم يكن الصحفى الشاب قريباً من الفيلد مارشال البريطانى، لكنه فى الستينيات توطدت العلاقات الإنسانية بينهما، وذهبا معاً إلى موطن الحرب والذكريات فى العلمين وتبادلا رسائل شخصية التهمتها نيران جهولة فى «برقاش».. وتابع تغطياته إلى مواقع جديدة للحرب فى كوريا وفيتنام والبلقان.. وأخيراً فلسطين التى شاءت مقاديره أن يرى خلال تغطيتها الصاغ «جمال عبدالناصر»، وهذه كانت نقطة تحول كبرى فى حياته كلها.

سأل ذات مرة: «ما هى العبقرية؟»، لم يكن يتحدث عن نفسه، والحوار الذى قطع سياقه بسؤال العبقرية كان عن شخصيات صحفية وسياسية لها أدوارها المقدرة.

أجاب على سؤاله بنفسه معتمداً تعريفاً للمؤرخ الهولندى «هنريك فان لون»: «كمال التقنيات وشىء ما آخر»، أن يكون كل شىء دقيقاً ومتقناً يتوخى الكمال بقدر الاستطاعة الإنسانية، لكن التقنية المكتملة وحدها ليست عبقرية، فـ«التكنوقراطى» و«الصنايعى» عنده التوجه ذاته للوصول إلى أعلى ما يستطيع من تقنية مكتملة. هى ضرورية بذاتها وملازمة للإبداع الذى يتجاوز المألوف والمعتاد، لكن العبقرية تستند بالإضافة إلى اكتمال الصنعة إلى شىء آخر، لا تستطيع أن تعرفه أو أن تمسكه أو أن تحيط بأسراره، ولكل شخصية استثنائية «شىء ما» يتخطى تقنياتها غير قابل للاستدعاء المعلب وغير صالح للنظريات الجاهزة.

له أسلوب عمل يرتبط بشخصيته، فلكل شىء مواقيت تضبطه وقواعد تحكمه وطقوس تحترم، ساعته البيولوجية منضبطة على مواعيدها، يستيقظ فى الخامسة صباحاً، وفى الظهيرة يسترخى على سرير دون أن يغمض له جفن، فاستدعاء النوم يصعب عليه وقوة الاعتياد تحكمه، وموعد النوم ما بين التاسعة والعاشرة مساء، وإذا ظل مستيقظاً بعده فللضرورات أحكامها.. وفى بعض الأوقات تستدعى حاجته للراحة أن يأخذ وقته فى النوم لفترة إضافية لكنه لا يستطيع: «الأمر ليس بيدى».

عبقريته فى أسلوبه، تقنياته «تعب عليها» وطورها من مرحلة إلى أخرى، حاول بقدر ما يستطيع أن يصل بها إلى شىء من الكمال، أو أن يكون مستوى إنتاجه المهنى والفكرى متسقاً مع حجم ما بذل فيه من جهد، فهو رجل لا يدخر جهداً فى عمله، يكرس وقته كله لاستقصاء المعلومات والتدقيق فيها قبل أن يضعها فى سياق.. وغريزة التدوين عنده القاعدة الأساس لكل ما كتب وأنتج على مدى عقود بالإضافة إلى تقنياته فى قراءة الوثائق والخرائط والصور، لكن شيئاً ما آخر صنع عبقريته.

بتراكم الخبرات والتجارب بدأ يرتب أوراقه الخاصة فى مجموعات نوعية لكل مجموعة سماتها وطبائعها.

الأولى تضم مواعيده الأسبوعية يوماً بعد آخر.. وقد وافقت شخصيته واحتياجاته أوراق مطوية ألوانها زرقاء رآها فى إحدى المكتبات اللندنية لـ«التذكّر» عليها ثبت بأيام الأسبوع لتسجيل مواعيد اللقاءات عليها، فهو منضبط فى مواعيده، ولا يلتقى عادة إلا بمن يعتقد أن له قيمه، والموعد لا يتجاوز الساعة بالدقيقة والثانية، إلا إذا كان تخطيطه أن يمتد لوقت أطول، فيما بعد طلب من إحدى المطابع المصرية الكبرى أن تطبع أوراقاً مماثلة دون حاجة إلى جلبها من العاصمة البريطانية.

فى كل سنة (٥٢) أسبوعاً، ولكل أسبوع مواعيده المسجلة على ورقة «تذكّر»، تودع كل مجموعة سنوية فى «رابطة واحدة».

من طبائع الأمور أن تمزق أوراقاً سجلت عليها مواعيدك بعد أن تنقضى فى نفس اليوم أو اليوم التالى، وأن تلقى بقاياها فى أقرب سلة مهملات.. إلا هو لم يفعل ذلك أبداً على مدى سبعين سنة.

غريزة التدوين تأصلت فيه وإدراك قيمة الورق المكتوب استولت على أسلوبه فى التنظيم والعمل.

كان بمقدوره طوال الوقت أن يستعيد نصوصاً عمرها عقود والأجواء التى جرت فيها، أن يحصى بدقة متناهية عدد المرات التى التقى فيها مسؤولاً ما أو صديقاً مقرباً أو رجلاً عاماً، فى أى يوم من أى عام ولأى وقت وبأى موضوعات جرى النقاش فيها، فالأوراق مكتوبة ومرتبة، كل ش»ء موثق ويمكن الرجوع إليه.. سألته ذات مرة إن كان ممكناً أن نراجع سوية عدد المرات التى التقينا فيها على مدى أربعة عشر عاماً متصلة بلا انقطاع وفيما تحاورنا وماذا سجل من ملاحظات استرعت انتباهه أجاب واثقاً: «نعم.. باستثناء المرات التى التقينا فيها ببرقاش، فأنا أعتبر نفسى هناك فى إجازة لا أسجل مواعيد لقاءات أو أودع ورقاً فى أرشيف».

فى أوراق مواعيده الأسبوعية إشارات لحجوزات فى سينما «راديو»، كفيلم «فيفازاباتا»، الذى شاهده مع «جمال عبدالناصر» عندما كان يمكنه أن يرتاد دور العرض السينمائى فى السنوات الأولى لثورة يوليو (١٩٥٢).. وإشارات أخرى تكتسب قيمتها من الزمن الذى يليها، ففى أوراق مواعيده أسماء كبر اسمها فيما بعد ولم يكن لها شأن عندما التقاها لأول مرة، تقريباً نسيها، لكن مراجعة الورق تكشف وتبين وتدعو لتذكر شىء من اللقاءات العابرة. قال لى ذات مرة فى نهايات عصر «مبارك»: «لقد اكتشفت اليوم أن زكريا عزمى عندما كان رائداً فى الحرس الجمهورى حضر فى الشهور التى تلت حرب أكتوبر لمكتبى فى الأهرام طالباً تدخلى فى موضوع ما رآه حساساً عند الرئيس السادات، نسيت القصة كلها، فقد كانت عابرة، لم أسجل موضوعها على الورق، لكننى كتبت اسمه عليها».. «للورق ذاكرة أخرى قد تكتسب من الزمن معانى لم تكن لها فى وقتها».

الثانية، مجموعة أوراقه الشخصية التى يسجل عليها ملاحظاته وأفكاره وملخصات للقاءات أجراها مع شخصيات فاعلة فى الأحداث ومتداخلة فيها، كل ما له قيمة يسجله على ورق بعد انتهاء اللقاءات مباشرة، يعود إليها ويفحصها ويتأكد من مصادر أخرى دقة ما ورد فيها من معلومات.. ومجموعة الأوراق الشخصية تضم دفاتر سفر سجل فيها لقاءات جمعته مع مصادر من الدرجة الأولى، ملوك ورؤساء حكومات وشخصيات نافذة فى صناعة القرارات ببلادها.. والمعلومات تتفاوت قيمتها من مصدر لآخر بحسب ما يتوافر له من اطلاع، أو بحسب ما يرغب فى أن يتطرق إلى ملفات حساسة: «لا أحد يبادرك بمعلومات جدية إلا إذا كنت فى صلب الصورة فى بلدك، غير ذلك فلن تجد غير المودة والاحترام والكلام السياسى العام»، وبشكل أو آخر فإن حواراته مع رؤساء دول وحكومات أوروبية تعمّد لسنوات ألا يشير إليها لا فى كتاباته ولا فى إطلالاته التليفزيونية حتى لا يثير حفيظة الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» الذى لم يكن يتردد فى إعلان ضيقه بسعة اتصالاته الدولية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل