المحتوى الرئيسى

مصر الحلوة «17»

09/08 01:39

تحدثنا في المقاله السابقه عن «تراجان قيصر»، الذي تولي الحكم خلال 98 ـ 117م، وعن شهرته انه افضل امراء الدولة الرومانية، وبساطته، وادارته الحسنه لبلاده حتي اعاد اليها مجدها القديم، الا ان المسيحيين في عصره تعرضوا لاضطهادات عنيفه قاسيه، واستُشهد الكثيرون. مات «تراجان قيصر» في اثناء عودته الي روما من احد فتوحاته عام 117م. ومن بعده تولي الحكم «هارديان قيصر».

«هارديان قيصر» (117 - 138م)

لم يترك «تراجان قيصر» ابنًا يخلُفه في حكم روما؛ فقام الجيش باختيار ابن عمه «هارديان قيصر»، الذي كان انذاك قائدًا لجيوش بلاد الشام حاكمًا علي البلاد، ولم يكُن «هارديان» ـ كقيصر روما السابق ـ يسعي للفتوحات، والتوسع في حدود الامبراطوريه الرومانيه، بل كان لا يحب الحروب، غير مهتم بالتوسعات، مؤْثرًا السلامه والحفاظ علي حدود بلاده وممتلكاتها.

وقد كان «هارديان» شخصيه غريبه الاطوار، ومتناقضه الاحوال؛ فتاره تجده رعيته حليمًا وتاره اخري غضوبًا، وكان يميل احيانا الي الفضائل وعلي النقيض تمامًا يسعي نحو الرذائل! كذلك لم يكن يُدرك نتائج الامور؛ فقد اكثر من الضرائب والغرامات، حتي اصبح الشعب يئن تحت وَطاتها، وقد اشرك معه في الحكم رجلًا يُعد من اسوا الرجال خُلقًا؛ ما ادي الي غضب الشعب عليه، ووصفوه بالطيش والخلل العقلي!

الا انه وعلي سبيل تناقض شخصيته الشديد، فقد اهتم بتشييد المباني والعمائر الكبيره، وكان معروفًا عنه ميله الي المعارف والاداب والعلوم.

امّا عن تاثير مده حكمه في مِصر فقد كانت ايامه غزيره الخير كثيره البركات الا من حدث واحد وقع بالاسكندريه: فبعد اخماد فتنه اليهود جرت فتنه شديده وعظيمه، بسبب العجل «ابيس»، الذي يعبده المِصريون. فقد ظهر عجل جديد يُشبه العجل «ابيس»، مما ادي الي حدوث الكثير من النقاش، والصراع في شان المكان الذي سيربَّي فيه العجل، وكيفيه ارضاعه، والتحقق من انه العجل «ابيس» معبودهم، وقد ادي هذا الصراع بين طوائف الشعب الي حدوث حرب شديده وعنيفه في كل البلاد، وعندما وصلت اخبار هذه الصراعات الي «هارديان» اسرع بالحضور الي مِصر لاخماد الفتنه، كما انه اسرع بالسعي لازاله الفجوه، التي كانت بين المِصريين واليونانيين، الذين يعيشون بالاسكندريه.

وفي اثناء زيارته مِصر، تفقد ارجاء البلاد، وفرِح به شعب مِصر كثيرًا، حتي انهم سكّوا له العمله باسمه، وبتاريخ وصوله الي البلاد المِصريه! وقد قام بزياره صَعيد مِصر في رحله نيليه، ولم يحدث ما يعكر صفو الرحله الي ان مات ابنه انطونيوس فانخرط في حزن عميق، وقام «هارديان قيصر» ببناء وتشييد العمائر في روما، واهتم فيها بالمعارف والعلوم علي غرار ما فعل في مِصر.

وقد كتب في رساله له عن مِصر يقول فيها: «استقصَيتُ مِصر واحوالها وعوائدها، وكنتُ في بادئ الامر اخُصها بالمدح، واتحاشي ذمها، فتبيَّن لي بعد التامل والنظر انها عِبره لمن اعتبر. فهي طائش لا تدوم علي حال، ولا تنكَف عن المشاغبه والمنافره لا سيما في امور الدين، وما يتولد منها... ان اهل مصر دون غيرهم يميلون الي اختلاف الكلمه، ويسرعون الي الغضب لاقل سبب... مدينه الاسكندريه هي دار الحكومه وقُراها، وهي بلده غنيه كثيره الخير والبركات، وليس اهلها اهل بطاله وكسل، واغلبهم حاكه الكَتان، وهم ميالون الي الصناعه لا يُهملونها، ولا يُضيعون اوقاتهم الا في الكسب، وكلهم عارفون بوَحدانيه المعبود حتي العامه منهم. لو كانت مدينه رفيعه الدرجه في التربيه والمدنيه زياده علي هذه الان، لاصبحت السياده لها علي جميع المدن، ومع ذلك فهي بكثره اهلها وزياده مبانيها واتساع اراضيها تستحق ان تكون عاصمه الديار المصريه؛ ولذا لم امنعها شيئًا من حقوقها، بل منحتُها جميع مزاياها القديمه وزياده؛ لكي تكون امنه مطمئنه».

وقد امر «هارديان» المصريين بحفر خليج من مجري النيل الي مجري القلزم ـ البحر الاحمر ـ ولكنه رُدِم.

وقد اضطهد «هارديان قيصر» اليهود وابادهم، وبني مدينه اورشليم واطلق عليها اسم «ايليا»، وعندما عاد اليهود الي اورشليم بعد بنائها ثاروا علي حكمه، فارسل اليهم جيشًا عظيمًا، وقتلهم وخرَّب المدينه كنبوه السيد المسيح: «هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا»، وامر بعدم سُكني اليهود فيها، واسكن بدلًا منهم اليونانيين.

وقد كان «هارديان» شديد الاضطهاد نحو المسيحيين؛ فامر بقتلهم، وبان تُعبد الاوثان، وايضًا قام بالتضييق عليهم بشده، وجاء الي مِصر وقتل عددًا كبيرًا لا يُحصَي؛ حتي ان احد المؤرخين ذكر انه: «جاء الي مِصر، وكاد يُفني ما بها من مسيحيين مِن كثره مَن قتلهم».

امّا المسيحيون في اورشليم فكانوا يترددون علي موضعي القبر المقدس والصليب للصلاه، الا ان اليونانيين الساكنين هناك قاموا بمنعهم وبنَوا هيكلًا علي اسم «الزهره».

وفي عام 138م قضي«هارديان قيصر» نحبه، وجاء «انطونيوس بيوس قيصر» خلفًا له.

«انطونيوس بيوس قيصر» (138 - 161م)

رُشح «انطونيوس بيوس قيصر» من بعد موت «هارديان» لحكم البلاد، وكان مشهورًا بين امراء روما بكرم النفس، وحسن التربيه، كما كان ذكيًا، كريم الاخلاق، مهتمًا بتحقيق الامن للبلاد وللرعيه.

وقد وجه مجهودًا كبيرًا في اداره البلاد، وتقدم التجاره والصناعه، وكان يهتم بالتدقيق في امور البلاد الاقتصاديه، وفي نفقاتها مبتعدًا عن كل امور التَّرَف والبذَخ، مما ادي الي انتعاش الاقتصاد بروما، حتي انه ذُكر في شانه علي السنه مؤرخي عصره انه: «لو تكفل بالانفاق علي جميع الرعيه بسعه لامكنه ذلك».

اهتم «انطونيوس بيوس قيصر» بتشييد البنايات العظيمه، التي كانت تُعد من اعظم بنايات العصر؛ مما جعل هيبته في اعين ملوك جميع الامم. ولم يكُن في هذا الوقت من يعادله من الملوك في حسن سياسته، وتدبيره امور مملكته.

امّا امور مِصر في ايام حكمه فقد كانت ايامًا هادئه، وكان العدل يسودها فكثُر البناء والتشييد في ايامه الا من بعض ما كان يصدر من اليونانيين القاطنين بالاسكندريه، فقد كانوا كثيري الفتن والعِصيان حتي انهم قتلوا حاكم مِصر. وهكذا تصاعدت الامور حتي جاء «انطونيوس بيوس قيصر» بجيش كبير الي مِصر، ودخل الاسكندريه منتصرًا، واعاد اليها الهدوء، وقد مات هذا القيصر عام 161م ورعيته تَبكيه حزِنًا.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل