غياب أعمدة الحكمة
الاستاذ الدكتور احمد مصطفي ابوزيد: عمود اخر من اعمده الحكمه في العالم العربى يغيب. وسط هذه العواصف التي تجتاح حياتنا، وسط البرق والرعد والامطار المحبوسه خلف غيوم داكنه: اتلفت حولي فادرك ان عموداً اخر قد رحل. اختفي رجل علمني: الحرف، والمعنى والقيمه، والاخلاق، غاب كانه سار الي البحر او ابتلعته العاصفه. «احمد ابوزيد»: اهم استاذ انثروبوليجي عربي «علم الإنسان» رحل في الاسكندريه: 29 يوليو 2013: هو من مواليد 3 مايو 1921.
رحل احمد ابوزيد عن 92 عاماً بعد ان تزرع في كل انحاء العالم العربي: معرفه، وابحاثاً، وكتباً، وقيماً، واخلاقاً، ومجلات، ومعاهد بحثيه، بعدد ايام العمر المديد الخصب، الذي احتشد بالعمل وبالوطنيه وبالايمان، بالوطن والفكر والمستقبل.
اول كتاب علمني القراءه في مجالات الفلسفه، وعلوم الاجتماع كان كتاب الاستاذ ذو الغلاف الازرق «دراسات في الانسان والمجتمع والثقافه». اثار الكتاب في عقلي مئات الاسئله، وفتح عشرات المشاكل. اهم ما اذكره الان من الكتاب: انه علمني ان ابحث بنفسي، وان افكر بحرية، ايامها شاهدت الاستاذ للمره الاولي وهو يعبر المكتبه العامه في الجامعه باحثاً عن مرجع او قاموس: مسرعاً وسط المناضد المليئه بالطلبه، بقامته الطويله وخطواته الرشيقه التي تشع فهما وذكاء وعيونه لا انساها كما لا انسي غلاف الكتاب الذي صاحبني اياماً، لكي استجمع اسئلته، وما يثيره من قضايا.
هو مؤسس علم الانسان العربي. حصل علي الدكتوراه في اكسفورد 1956، وكان عليه بعد العوده ان يؤسس للعلم الجديد، يقيم له قسماً خاصاً في كليه الاداب، ينفع الناس بمعناه واهميته. وقبل التعريف ببعض كتبه وترجماته من المهم ان تعرف انه بدا عمله بـ13 شهراً قضاها في دراسه المجتمع والواحات الخارجيه، ثم انتقل لدراسه المجتمع البدوي في شمال سيناء. وبعد ذلك انتقل لدراسه ظاهره الثار في ابوتيج. واول دراسه انثروبولوجيه خارج مصر كانت في سوريا عن مجتمع «العلويين» ثم عاد لمصر لكي يقوم بدراسه مازالت ممتعه ومهمه عن «الصبر كقيمه اجتماعيه في مصر».
الكتب الاساسيه هي: المفهومات، الانساق، المعرفه وصناعه المستقبل. والترجمات تفوق الحصر في هذا العلم الجديد: اهمها كتاب عن «تايلور» وكذلك اشتراكه في ترجمه اهم مرجع في علم الانسان كتاب: «الغصن الذهبي» كما اصدر في مصر مجله: تراث الانسانيه وظل يراس تحريرها حتي اغلقت في المذابح الثقافيه التي اعقبت النكسه.
في الكويت قام الدكتور ابوزيد بدور مهم كمستشار لمجله عالم المعرفة وظل ينشر فيها مقالاً حتي اخر حياته وكذلك اهتم بدراسه الاقليات في الشمال الافريقي «ليبيا- تونس- المغرب- والجزائر» ضمن اهتمامه بدراسه تكوين هويته الثقافه العربيه كما قام بتاسيس مركز تابع لمنظمه العمل الدوليه في جنيف.
دور المثقف المصري في دوله الكويت: موضوع يثيره تطور حياه وعمل الدكتور ابوزيد: فمنذ الدكتور أحمد زكي اول من راس تحرير مجلة العربي الي اجيال: د. فؤاد زكريا، واحمد بهاء الدين، ومصطفي نبيل، ومحمد المخزنجي، والمنسي قنديل «في مجال الصحافه وحدها»: هذا الدور يستحق دراسه خاصه فهو وجه منير في العمليه التي لا تلقي ترحيباً دائماً وهي هجره العقول والعماله. فقد قام هؤلاء الافذاذ بانقاذ انفسهم من مناخ مرعب كان يسيطر علي مصر، وعملوا هناك بقدر كبير من الحريه ساعدهم كل بطريقه مختلفه علي تطوير نفسه، واضافه اضاءه ونور في بلد رحب بهم وقدم لهم امكانيات لم تكن موجوده يجب الا ننسي هنا «الدكتور الراعي- الدكتور عصفور».
الدكتور احمد ابوزيد، والدكتور فؤاد زكريا قدما هناك: عالم الفكر وسلاسل عالم المعرفه وهما في اعتقادي من اهم المنشورات العربيه خلال العقود الاخيره.
من اخر الافكار المهمه التي اشار اليها الدكتور احمد ابوزيد في الفكر والثقافه العربيه ان افكار التنميه والبناء كانت تولد في العالم العربي قبل «العولمه/ الشرق الاوسط الجديد/ حرب العراق/ 11 سبتمبر» كانت الافكار عندنا تولد من التمرد والرغبه في تغيير الواقع ولكنه لاحظ بعد الاشياء السابق ذكرها: ان اغلب افكار الاصلاح، ومحاولات التنميه، والتجديد اصبحت تتم بشكل او اخر: طبقاً لتعليمات او نصائح او ايحاءات امريكيه «فهم يعرفون مصلحتنا اكثر».. وبذلك تحول الاصلاح الي تحرير، والتنميه الي تهيئه مناخ صالح للاستثمار، واختفي او تلاشي معني الابداع وراء النقل والتقليد.
كتابه «هويه الثقافه العربيه» يبدا من اختياره لتعريف واحد لكلمه الثقافه من ضمن اكثر من 200 تعريف متداول في العالم يختار الاستاذ تعريف الثقافه علي انها: «هي ذلك الشكل المركب الذي يشمل المعرفه والمعتقدات والفن والاخلاق والقانون والعرف وكل المقدرات والعادات الاخري التي يكتسبها الانسان من حيث هو عضو في مجتمع، ومقوماتها ثلاثه: اللغه والدين والتراث».
وعن الدين والنظر للديانات المختلفه يقول الاستاذ:
«اذا كان القرآن الكريم ينص علي ان المسلمين هم خير امه اخرجت للناس، فانه ينص في الوقت ذاته وفي سوره البقره علي انه لا اكراه في الدين، وعلي الرغم من كل الهجوم الذي يتعرض له الاسلام، ونبي الاسلام في الكتابات الغربيه فانه لا يخطر علي بال مسلم ان ينال بسوء احد الانبياء والرسل الذين جاء ذكرهم في الكتاب».
«فن القول» كما يقول شيخنا أمين الخولي سوف يبقي الي جانب القران الكريم فخر اللغة العربية، وفي «فن القول» علي الثقافه العربيه ان تصون حريه الابداع: الذي يتكون من افكار مضاف اليها تصورات جديده مبتكره، ومن مهام الثقافه العربيه للحفاظ علي هويتها: ايقاف الاستيراد «وهو طبعاً غير الترجمه والاطلاع» والاهم رفع التعارض المفتعل بين الابداع والاعتبارات الدينيه.
بالنسبه للاقليات يري ابوزيد ان صيانه حقوق الاقليات هي اثراء حقيقي للثقافه الام. ويورد قصيده مهمه لشاعر من صقليه يقول: ان شعب صقليه مستعد لان يفقد كل شيء: البيت/ والطعام/ والاسرّه التي ينام عليها: ولكنه لا يزال غنياً:
عندما يفقد الشعب لغته.. يضيع الي الابد!
لم ار الاستاذ بعد ان رايته في مطالع الصبا.. الا منذ سنتين او اكثر قليلاً كان جالساً امام البحر في الاسكندريه في شرفه خاليه، والي جواره احد حوارييه. كنت ماراً من بعيد، واظنه كان صامتاً لا اري لماذا تذكرت ابيات بدر شاكر السياب من قصيده «مطر»:
Comments