المحتوى الرئيسى

حكايات من حضور الغياب

08/09 10:37

«الموت لا يوجع الموتي، الموت يوجع الاحياء»

خلال احدي زيارات محمود درويش الاخيره الي القاهره طلب مني الصحفي الحصيف سيد محمود ان اتدخل مع محمود درويش ليجري معه حديثا للحياه اللندنيه، وبعد ان نجحت في التغلب علي تردده قلت له: نحن نعرف بعضنا منذ اكثر من ثلاثه عقود ونصف العقد وكنت اراك بشكل شبه يومي علي مدي عقد كامل في باريس واهتماماتي الثقافيه جعلتني اجري للاذاعه التي كنت اعمل بها احاديث مع كثير من كبار الشعراء والكتاب.. ونظمت لك عشرات الأحاديث مع الصحافه الفرنسيه والعربيه ولكنني اكتشف الان انني لم اطلب اجراء اي حديث معك.

اجابني: هذا طبيعي فنحن نعرف بعضنا اكثر من اللزوم.

وها انا يا صديقي محمود، ايها العصي علي الغياب.. لا اعرف عما اكتب بعد خمس سنوات لم تغب فيها عني وعن اصدقائك الكثر، ففي كل لقاء انت دوما هنا، فانت في الـ«هنا» والـ«هناك» وفي الان ذاته.

فهل احكي قصه لقاء مع ابي سلام، اميل حبيبي، طال اكثر من اربع ساعات في مطعم باريسي كنت فيه تحدث البطريرك الشيوعي بلهجه نقد عن مواقف الحركه التي انتميت انت ايضا اليها، وايضا عن انحيازاته الادبيه والثقافيه.

ام تراني احكي حيرتك السياسيه بعد توقيع إتفاقية أوسلو، وحيرتك امام حماسي الذي وصل الي حد بحث احتمالات عودتي الي أرض الوطن. كنت كالعاده تري ما لا نري وتنصحني باسما بان استمر في ري النباتات علي بلكونه شقتي الباريسيه. ورغم انك كنت تعرف وتقول ان لذه الوطن معنويه اكثر منها حسيه فقد قررت العوده وقرر الاسرائيليون ان عودتك ستكون الي غزه ولكنك في النهايه استطعت ان تقيم في رام الله.

وعندما كنت اسالك ما دمت تعرف مدي اوسلو فلماذا تعود؟ كنت تجيب: عيب ان ابقي في المنفي ولي وطن. هكذا كان محمود الحريص علي الاستقامه الاخلاقيه، فعندما كنا ندعي من بعض الاصدقاء الموسرين لقضاء ايام علي الشاطئ اللازوردي كان يرفض كل هذه الدعوات بحجه ان هذا لا يليق.

كان يحب القائد الفلسطيني ياسر عرفات الذي «يمشي بين قطرات المطر ولا يبتل». كان معجبا ببراجماتيته، ولكنه مع ذلك كان يحتار في بعض مساحات هذه الشخصيه العريضه.

بعد اجراء عمليته الجراحيه في باريس في 1996 حيث كانت الازمه، دعاني الي قضاء اجازه في تونس في بيت استاجره علي شاطئ البحر. ذهبنا يوما للقاء عرفات فوجدنا عنده رجل الاعمال الفلسطيني المعروف حسيب الصباغ الذي كان يعرض علي ابوعمار وساطه لحل الخلاف مع الرئيس حافظ الأسد، وكان يحمل اسئله من القياده السوريه احس الفلسطينيون ان بها مساسا بالكرامه الوطنيه. ابتسم عرفات الذي لم يكن متحمسا للوساطه: الم اقل لكم؟ عندها اقترح محمود ان يرد علي الرسالة دون الاجابه علي الاسئله. وكلفه عرفات، هو وياسر عبدربه، بكتابه الرد الذي بدا بعباره: يسعدنا ان نتقدم من القياده السوريه.

عندما سلم محمود الرساله لعرفات نظر عرفات الي وهو يقرا.. يسعدنا! يسعدنا! اتري يا نبيل لقد كتبت ردا من «امهات» الادب رفضه الاخوان، وها هو صاحبك يقول «يسعدنا»، فقال له محمود اسف جدا اخ ابوعمار بامكانك ان تشطب «يسعدنا» وتضع مكانها «يؤسفنا».

تابعنا سويا وعلي شاشه التلفاز من شقتك الباريسيه احداث ربيع اوروبا الشرقيه وشاهدنا القبض علي تشاوتشسكو واعدامه مع زوجته. وعندما كنت اشاهد اعدام معمر القذافي خلت انك تقف الي جانبي بالتاكيد كنت ستري الخلاف بين الاعدامين وكنت ستهديني الي هذا الخلاف بعباره قصيره ثم نكمل «لعبه» النرد.

كنت تحب كثيرا تفاعل جمهورك السوري مع قصائدك، ماذا كنت ستقول وانت تتابع ما يحدث الان هناك؟ كنت لربما ستعيد عباره قلتها قبل ذلك عام يذهب واخر ياتي وكل شيء يزداد فيك سوءا يا وطني، او لربما كنت ستعيد تساؤلك الرهيب: من يدخل الجنه اولا؟ من مات برصاص العدو او من مات برصاص الاخ؟

ايها المحمود الباقي، اثارك في باريس باقيه راسخه. لقد احببت فيها عبق الثقافه.. اتذكر كم كنت سعيدا وكم كان القاؤك رائعا في اجمل قاعات السوربون ذات القبه المزركشه بالتاريخ الناطق الحاكي.

مررت بالامس من ميدانك، ميدان محمود درويش ــ شاعر من فلسطين ــ في قلب باريس الذي افتتح قبل ثلاثه اعوام بعبارتك الشهيره نحب الحياه اذا ما استطعنا اليها سبيلا، ميدانك يجاور قلعه اللغة الفرنسية، الكوميدي فرانسيز. ومن ميدانك توجهت الي الحي اللاتيني واكلت وجبه في مطعمنا المفضل والقيت السلام علي فندق ماديسون ثم صعدت الي ميدان الولايات المتحده حيث كانت شقتك الصغيره بجوار سفاره مصر التي سكنها الكونت دو روشفوكو.

تذكرت لقاءاتك في بيت الشعر في الحي السابع وحواراتك مع الشاعر جنوب الافريقي بريتنباخ، وفي مطعم امام مسرح الاوديون تذكرت انطباعاتك عن لقائك الاول مع صديقك الشاعر والمفكر ورئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان.. اتذكر ما قلته عنه، ومن المؤكد انك لاحظت وجوده في رحلتك الاخيره الي رام الله... هل تعرف ماذا قال عنك وعن لقائكما الاول؟

قال دو فيلبان: كان اللقاء الاول مع محمود درويش في صالونات الكي دورسيه متناهيه الفخامه، هناك حيث كان احتساء الشاي بالنعناع علي حافه النافوره كافيا، فلا الديكورات الباهره ولا الملائكه المنحوته تستطيع اضافه شيء لهيبه هذا الرجل منتصب القامه في اطار الباب. ان له ضوء نجمه حزينه.. ببعض الكلمات والقليل القليل من الحركات يشدد علي امكانيه عدم تجزئه السلام وعلي ان الارض تبتغي حضور الاخر وقبوله.

كم كان يفاجئنا محمود درويش بمعرفته الواسعه بالأدب الفرنسي رغم انه لم يتحدث الفرنسيه سوي ما يلزم منها للحياه اليوميه. كان شديد الاعجاب بالشاعر سان جون بيرس وبستيفان مالارميه، شاعر القرن التاسع عشر الذي احدثت قصيدته «رميه الزهر لن تبطل المصادفه» ثوره في عالم الشعر. عندما كتب محمود درويش اخر قصائده لاعب النرد، كتبها لان النرد، هوايه محمود درويش المفضله، هو ايضا لدي علماء الرياضيات الاصل وراء نظريه الاحتمالات. لقد كتبها وهو يتردد بشان اجراء العمليه الجراحيه التي اودت بحياته: انا لاعب النرد اربح حينا واخسر حينا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل