المحتوى الرئيسى

الصامدون فى حرب ال16 ساعة صيام.. فقط من أجل الثواب

08/05 11:32

العيون متذبذبة، التوتر يصيب مفاصل الجسد فيتراخى، الشفاه متقشفة تحنو فى سبيل قطرة ماء تروى جذورها فتنال لونها الوردى مرة أخرى، الحلوق مريرة، الأنوف تتحسس طريقها صوب روائح الشواء والمقبلات، البطون خاوية، الأعصاب منفلتة، «أهلا شهر الصوم» مقطوعة من أغنية تتهلل لها الأسارير فيما ينتظر البعض تحمل المشقة من وهج الشمس أو طول الفترة بين «الخيط الأبيض من الأسود» و«أذان المغرب»، ربما تمر على الكثير الساعات داخل المنازل أو على المكاتب وسط مكيفات الهواء، غير أن هناك آخرين يتحملون الجهد ضعفين غير عابئين بالألم فى سبيل نيل ثواب الشهر المعظم وبركاته.. فوق الأرض حياة، وتحتها حياة أخرى؛ فيقبع «عبدالوهاب» الشهير بـ«لوكلوك» ورفيق «المجارى»، «طارق»، تتسلل الرائحة النتنة فتصيب أنوفهما، فيكاد جفناهما على الإقفال إلا من رحم ربى، فى الوقت الذى يقبض «على» بيديه على متفجرات يدكها دكا فى حفر مصنوعة بالجبال، يبتعد قليلا ثم يُشعل فتيل الأمان، فينفجر لتبدأ مهمة استخراج الرخام أو البترول، كل ذلك تحت قيظ حرٍ شديد حول بشرته من الخمرية إلى السوداء مرابطا على صيامه صابرا من أجل الجزاء، بينما تنسال قطرات الثلج من الألواح البلورية متوهجة ببخارها فوق كتف عم «حسن» متوجها بها صوب محلات العصائر لترطيب أجواف الصائمين بعد لحظات من صوت المدفع، بينما يجلس «هدهد» أمام 1500 درجة مئوية ينفث فى الزجاج والفوانيس الزجاجية ليضئ حوارى الأحياء الشعبية، فى حين يفضل الحاج «فتحى» -مريض الكلى والقلب- أن ينال جزاءه من «الشافى» رأسا حتى وإن أعياه المرض وتسارعت دقات قلبه.. إنهم «الصائمون على مضض»..

الشفاه جافة، الحلوق مريرة، يجلس محمود عبدالوهاب داخل شركة الصرف الصحى الكائنة بميدان سيمون بوليفار، بعد أن قطع أكثر من ساعة ونصف الساعة فى طريقه من منزله بمنطقة «القلج» الشعبية بالمرج صوب ميدان التحرير، لسانه لا يتوقف عن الحركة، عكس جسده السمين الذى يحركه على مهل، حتى إن رفقاء العمل يدعونه «لوكلوك»، يبتسم فترتسم على وجنتيه قسمات تعود به إلى زمن الشباب رغم عمره الذى تجاوز الخمسين.. رفعت المساجد مكبرات الصوت لتعلن أذان العصر، ومعها تبدأ وردية «لوكلوك» ورفاقه يحاولون إنهاء العمل قبل ضرب مدفع الإفطار، فالشهر الكريم له طقوسه الخاصة، بينما يجلس المهندس عبدالقادر محمود -مسئول الطوارئ- داخل غرفته المتواضعة التى تحوى مكتبا ودِكة خشبية، يؤكد أنه يتلقى شهريا ما يقرب من 500 شكوى من منطقة غرب القاهرة بالكامل.

كانت الشمس جريحة تصبغ الأفق دماً قبل المغيب، فى الوقت الذى يستقل فيه «عبدالوهاب لوكلوك» ورفيق «البيارة» طارق حسن، بملابسهما المتهالكة دراجتيهما صوب منطقة أبوالفدا بالزمالك، بينما يتفحصان من تارة لأخرى الأسياخ الحديدية التى هى كل ما يملكان من أجل تسليك المجارى، يصل إلى منطقة العمل يزحزح غطاء البالوعة فيتمايل يمينا ويسارا حتى ينفتح.. «لا تضع وجهك أعلى البيارة فور فتحها».. إرشادات محفورة داخل عقول عمال صيانة الصرف الصحى بسبب الغازات السامة «لازم تتهوى شوية وإلا هتحصلنا غيبوبة»، يقول «لوكلوك».

«راكب عجلة وشايل سياخ وصايم وشامم ريحة وحشة».. 4 أشياء يُضيف إليهم طارق حسن «التعالى والتكبر من أصحاب الشكاوى فى التعامل معهم»، الأزمة التى يواجهها «عبدالوهاب» هى فى الوقت الضيق قبل الإفطار «بنكون عاوزين نخلص بسرعة».. «التسليك قبل الفتح ولا الفتح قبل التسليك» تهللت أسارير الرفيقين إلا أنهما أكدا أن الأمر لا يحتاج مهارة بقدر ما هو توفيق من الله «ممكن نقعد وردية كاملة نسلك فى بلاعة.. ومتسلكشى.. وممكن واحد تانى يدخل سيخ واحد قوم تسلك.. دى تساهيل».

يُزيل «لوكلوك» غطاء البالوعة، تزكم أنفه هو ورفيقه رائحة المجارى، يشعر بغُصة فى صدره، بسبب إصابته بالالتهاب الرئوى «تعبان من قبل ما أتعين.. يعنى قول من 30 سنة»، يتمنى دائما بأن تكون البئر مغطاة بالمياه «لو كان فاضى الريحة بتكون وحشة جدا.. لكن لما بيكون طافح الدنيا بتبقى أمان»، الصيام بالنسبة لهم فى تلك الأوقات الصعبة عبادة لله لا يستطيعون الاستغناء عنه «ده هو شهر فى السنة» يقولها طارق بابتسامة تنم عن بساطته، بينما يُصر «عبدالوهاب» على الصيام هو الآخر بالرغم من ظروف مرضه، لا يرهقه شىء سوى متابعة الأخبار والأحداث السياسية على الساحة المصرية «الواحد بقاله سنتين مش حاسس بروحانية الشهر الكريم.. ولا بحلاوته».. الهاتف يرن فيجيب عم «طارق» ليأتيه الرد من المهندس عبدالقادر يطلب منهما الذهاب صوب منطقة بولاق أبوالعلا، يلملمان حاجتيهما ثم ينطلقان صوب منطقة «التسليك» قبل غروب الشمس «أصل إحنا لو مشتغلناش.. البلد هتعوم وتغرق»، يقول «لوكلوك» وعلى محياه ابتسامة الوداع.

نيران الفرن تتوهج.. فيُدرك أنها العلامة التى فور رؤيتها يهب واقفاً من على كرسيه، يسير على مهل تجاهها، يخلع قميصه فتظهر ملابسه الداخلية التى هى الأنسب للعمل أمام ذلك الفرن التقليدى الذى تنبعث منه حرارة تصل درجتها إلى 1500 درجة مئوية، يجلس أمامه وبجواره مروحة متواضعة لتلطيف الجو.. تفشل دائماً فى تجفيف قطرات العرق المتصببة من جبينه بغزارة.. شهر رمضان بالنسبة لـ«هدهد» فوانيس وشوارع منورة ولمة جيران، هذا علاوة على جلسة أمام الفرن تستغرق ساعات من أجل تشكيل قطع فنية من عجينة الزجاج، دائماً ما يتذكر كلمات والده فى الخلفية «دى شغلة جنى مش إنسان.. محدش يقدر يستحملها غير الراجل الجامد».. وعندما بلغ العشرين من عمره، حصل على حريته وجلس أمام النار، لما يقرب من ساعتين، لأن الزجاج لا يسيح إلا عند درجة حرارة 1400 درجة مئوية.

10 سنوات فقط هى التى قضاها «حسن هدهد» بعيداً عن ذلك الفرن لأنها كانت سنوات طفولته، و47 عاماً وهو يلازمها.. منذ نعومة أظافره كان يجلس والده الحاج «هدهد» الذى حرص دوماً على إبعاد فلذات أكباده عن نار الفرن التى بالرغم من صغر فتحتها فإنها تجعل دكانه العتيق -الذى يعود تاريخ بنائه إلى عشرات السنين- لا يطاق، وقتها كان يتسلل خلسة بالقرب من الفرن خاصة فى الأوقات التى يلوذ فيها والده بالفرار من نار الجحيم و«يطرى على نفسه شوية بكوباية شاى»، فتأتى فرصة الابن الأصغر لتطبيق ما يراه نظرياً طوال ما يقرب من 12 ساعة يراقب فيها ما يفعله أبوه الذى يخيفه صوته بغتة: «بتعمل إيه يا واد بوظت عجينة القزاز».. وسرعان ما يعرض «حسن» على مُعلمه نتيجة صنع يديه: «إيه رأيك فى الحتة دى».. يرد عليه «نور عليك يا ابنى».

ارتباط وثيق بين نار الفرن و«أبوعلى» فبها يحيا وبدونها يموت يعشق صهدها ويهيم فى صيام الشهر الكريم وهو غائم فى شقائها، لم ينل حظه فى التعليم إلا أن حديثه «ولا أحسن مُثقف» بسبب زمالته لعدد من الفنانين والمبدعين الذى يستضيفهم مرة كل أسبوع: «هناك كان بيقعد معايا محمود حميدة وخيرى بشارة -الله يرحمه- وقصة فيلم كابوريا اقتبسها منى لأنى زمان كنت بلعب ملاكمة فى نادى الجمالية لفيت ودورت وفى الآخر رجعت تانى لنفخ القزاز.. وأبويا كان طالع فى الفيلم والد أحمد زكى»، درجة الحرارة المرتفعة «والريق» الناشف، هو ما يشعر به أيضاً «هدهد» ولكن أشد قيظا أمام النار التى يواجهها الجنى «حسن» أسبوعيا «فى رمضان الشغل بيحلا».

محنياً ظهره.. متثاقلا فى خطاه.. حاملاً على كتفه قطعة كبيرة من الثلج متوهجة.. يجذب بخارها الأنظار.. تراه وقطرات الثلج تتساقط واحدة تلو الأخرى خلفه دون أن يشعر، سائراً فى ذلك الممر الضيق الذى عليه أن يجتازه كل يوم، منكسا رأسه نحو الأرض حافظاً خطاه صوب محل العصير الذى يبعد عنه أمتارا قليلة، وما إن يصل إلى مبتغاه، يرمى قطعة الثلج رمياً على تلك الرخامة البنية ببرود يشابه برود تلك القطعة الثلجية، ثم ما هى إلا ثوان ينظر صاحب «العصارة» إلى قطعة الثلج وإلى الرجل الهرم ويخرج من جيبه 7 جنيهات هى ثمن عرق وجهد عم «حسن» الرجل صاحب الـ 75 عاما، يُقبل الأموال الزهيدة، ثم يعود مسرعا إلى بوتقته التى صنعها كثلاجة تحفظ ألواح الثلج من الذوبان، ليأتى بقطعة ثلج أخرى يذهب بها إلى «عصارة» أخرى قبل انطلاق مدفع الإفطار.

قطرات الثلج المتساقطة، وبخارها اللاذع، يسيل له لُعاب شاب عشرينى يقف على مقربة منها، فى قيظ حر شديد، وصيام يستمر لأكثر من 16 ساعة، يشترى «حسن» -الذى رزقه الله بـ6 أطفال- لوح الثلج بـ5 جنيهات، والعصارات وبائعو العرقسوس والخروب الذين يتناثرون فى الشوارع هم مصدر رزقه الوحيد، ليبيعه مرة أخرى بـ7 جنيهات، ويكون «الجنيهان» هما مكسب «حسن» فى لوح الثلج الواحد، فى زمن تقل فيه بركة المال وتزيد أعباء الدنيا، يؤذن المنادى ويعلن عن صلاة المغرب، يجلس «حسن» أمام غرفته الصغيرة، التى لا تحوى إلا على جلبابين أحدهما مهترئ، والآخر مُعلق على ذلك المسمار الحديدى ويرتديه عندما يسافر إلى بلدته، ثم تجد ألواح الثلج متراصة فى أنحاء الغرفة.. أما سقيفة البيت فهى عبارة عن عيدان من الخرزان متهالكة، لا يشغله طعونه فى السن أو إرهاقه من الإفطار فى رمضان، فهو دائم الصيام «إحنا صعايدة وعيب إننا نفطر وعيالنا الصغار يصوموا».

بوجه ترتسم معالمه بالجدية يقف وسط الجبال عفيا مصابرا، كالمطر تنهمر من جبينه حبات العرق، يتحرك صدره علوا وانخفاضا من أثر المجهود، حاملا عبوات ناسفة قد تنفجر من شدة سخونة الشمس، فيما يظل هو تحت السهام الحارقة لأكثر من 12 ساعة يوميا، باحثا عن قطرة مياه تشفى غليله أو قطعة خبز تقيه شر السقوط مغشيا عليه، غير أن ثواب الشهر الكريم هو ما يجعل طاقته وحماسه مضاعفين «جسمنا هيتعب حبتين.. بس القلب هيبقى مستريح ع الآخر». فى إحدى الشركات المسئولة عن تفجير المناجم والجبال لاستخراج الجرانيت والرخام يستقر عمل «على السيد» -اسم مستعار حسب رغبة المصدر لارتباط عمله بالأجهزة الأمنية- تارة فى سيناء ومرات فى رأس غارب وأخرى فى صعيد مصر «الأماكن بتختلف والمجهود هو هو»، يحاول الرجل الأربعينى أن يتناسى الشرب أثناء عمله «المياه أهم شىء.. الريق بينشف زى الحجر.. بتكون حاسس إن فيه زلطة فى زورك»، يقول «على» بإيمان شديد: إن كل لحظاته مدونة فى سجل لدى الخالق وإن ساعات الصيام ربما تشفع له عند بارئه يوم اللقاء. تنقسم مهنة «على» إلى أكثر من شق، يبدأها بننقل المتفجرات من المخازن إلى مواقع فى رأس غارب أو سيناء «بيبقى معانا ضباط جيش أو شرطة عشان التأمين»، قبل أن يستعد أصحاب المحاجر غرز العبوات الناسفة -عبارة عن فتيل وديناميت وكباسين- فى الأرض ليعاود «على» ورفاقه عملهم بإشعالها والركض بعيدا لمسافة تستغرق ثلاث دقائق من اللهث، يُخرج الجبل خلالها خيراته بفعل الانفجار «الحجارة اللى بتطير بعد التفجير ممكن تموت حد.. مرة كنت قاعد فى عربية بعيد عن موقع شغال فيه أصحابى.. وطوبة صغيرة خرمت كبوت العربية وخدت الموتور ونزلت»، بوجه باسم تضبطه متلبسا بالبهجة كل حين يشير «على» إلى أنه لا يجد أى رفاهة أو راحة خلال ساعات صومه فعمله «تميمته» الشقاء «بنقعد يوم كامل من طلعة الشمس للغروب يعنى على أد الصيام بالضبط.. أصل شغلانتنا متنفعش فى الضلمة.. خطر جدا». فى أحد أيام «رمضان» قبل عدة أعوام كانت الشمس قد أعلنت الحرب على «على» وأصدقاء المهنة فى أحد المواقع بسيناء فوجهوا أعناقهم قبل السماء راجين من الله أن يعينهم على استكمال اليوم، فيما راح أحدهم يسأل عن رشفة مياه فلم يجد وسأل آخر عن كسرة خبز فلم يجد فما كان من صاحب البشرة السمراء إلا أن يداعبهما بالنكات حتى أُذن لصلاة المغرب متممين صيامهم.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل