المحتوى الرئيسى

التاريخ يبيض نفسه!

07/16 09:26

... في كتابه المهم (روح الثورات) يخصص المفكر الفرنسي جوستاف لوبون فصلا كاملا بعنوان (مظالم الثوره الفرنسيه) يحكي فيه عن 187 محكمه ثوريه اقيمت خلال الثوره، منها 40 محكمه كانت تحكم بالقتل وتنفذ احكامها في مكان الحكم حالا، ولم تكن كل تلك المحاكم دليلا علي وجود قوه مسيطره في الدوله، بل علي العكس في حين كان الثوار مشغولون باعدام رموز الماضي، نشات جيوش من اللصوص والقتلة كانت تجوب البلاد وتنهب العباد. يقول لوبون وهو يصف تلك الفتره «في الثورات يكون المتعصبون اقليه، واكثريه الاعضاء في مجالس الثوره الفرنسيه كانوا مطبوعين علي الحياء والاعتدال والحياد، ولكن الخوف هو الذي كان يدفعهم الي السير مع القساه المتطرفين»، وهو يري ان هؤلاء المحايدين الذين لا يملكون جراه الوقوف امام الصوت العالي لا فرق بينهم وبين المتطرفين من حيث الخطر، فقوه هؤلاء تعتمد علي ضعف اولئك، ولذلك يسيطر علي الثورات دائما اقليه حازمه مع ضيق عقل تتغلب علي اكثريه متصفه بسمو المدارك وفقدان الخلق لكنها صامته ومحايده».

... في موضع اخر يتحدث لوبون عن فئه ثالثه من الناس تظهر ايام الثورات ولا يهمها سوي الاستفاده منها، وهو يصفهم بوصف نستخدمه نحن ايضا في ايامنا هذه «الراكبون علي الثوره»، قائلا ان عددهم كان عظيما في اوائل الثوره الفرنسيه، «لقد ركب علي الثوره الفرنسيه محامون عاطلون عن العمل واطباء مبتذلون وكهنه معتزلون واغبياء خاملون وغيرهم ممن لم يبتسم لهم ثغر الدهر»، والعجيب ان هؤلاء كانوا يقومون بتشجيع المتعصبين بشده بل وكانوا يشاركونهم في اعمالهم العنيفه ويصورون لهم انهم بممارسه العنف سينتقلون الي درجه اعاظم الملوك.

ثم يتحدث لوبون عن مباراه في التعصب الثورى حدثت بين اثنين من رموز الثوره هما دانتون وروبسبير، «دانتون كان محرضا ذا صولات وجولات وكانت نتائج خطبه القاسيه تحزنه في الغالب، وكانت درجته الثوريه رفيعه ايام كان خصمه المستقبلي روبسبير في الصف الاخير من الثوار، لقد جاء وقت كان فيه دانتون روح الثوره الفرنسيه، ولكن ضميره الذي كان يوجعه احيانا لما يراه حوله من مخازي، جعل روبسبير يتغلب عليه بل ويسوقه الي المقصله، كان سر تقدم روبسبير هو اعتماده علي اهل النقائص ومقترفي الجرائم. لم يكن فصيحا كدانتون لكنه كان صاحب سحر شخصي خصوصا علي النساء وكان سوداوي المزاج ضعيف الذكاء عاجزا عن فهم الحقائق ماكرا مداجيا معجبا بنفسه اعجابا لم يفارقه طول حياته معتقدا ان الله ارسله ليوطد دعائم الفضيله، وكان ينقح خطبه طويلا وقد ادي حسده الخطباء والادباء الي قتلهم، وكان يستخف بزملائه وكان دائما يشعر انه محاط باعداء ومتامرين. ولذلك اقر قانونا يسمح بقطع الرؤوس بالشبهات، فقطع في باريس وحدها 1373 راسا في تسعه واربعين يوما. ربما يجعلك هذا الكلام تكره روبسبير بشده لكنني متاكد انه سيجعل بعض الشباب الثوري يحبه بشده ويتمني ان يكون مثله يوما ما، ولهؤلاء اضيف معلومه بسيطه هي ان روبسبير لم يمض وقت طويل حتي تم قطع راسه هو وكبار اعوانهم البالغ عددهم 21 رجلا بنفس الطريقه التي قام بها مع خصومه، فالعنف وحش مجنون اذا اطلقته لا يمكنك ابدا ان تسيطر عليه.

الثمن الافدح لم يكن هو الذي دفعه دانتون او روبسبير، بل كان الذي دفعته البلاد باسرها، حيث استفحل امر الفوضي وحن الناس الي رجل يعيد اليهم النظام، يقول لوبون «قبضت علي زمام فرنسا فئه قليله مكروهه فصارت ثلاثه ارباع البلاد ترجو ان تنتهي الثوره ليتم انقاذها من ايدي هذه الفئه المكروهه التي بقيت مده طويله علي راس الامه التعسه بما تذرعت به من الوف الحيل والوسائل ولما اصبح بقاؤها حاكمه لايتم الا بالارهاب اخذت تقضي علي من كانت تظن انه مخالف لها ولو كان من اشد خدم الثوره الفرنسيه اخلاصا»، ولما عمت الفوضي بحث الناس عن رجل قوي قادر علي اخمادها فكان نابليون بونابرت هو الحل ومن اجل ما وعد به الناس من امان بلع الناس الاستبداد وتغاضوا عن كثير مما حلموا به.

لذلك يتحدث جوستاف لوبون في كتابه كثيرا عن المشاكل التي يمكن ان تحدث عقب الثورات اذا لم تُحسن اداره البلاد، واذا لم يتولي حكمها من يدرك ان الناس عقب الثورات محكومون بنفسيتهم اكثر مما هم محكومون بالانظمه التي تفرض عليهم، وهنا يستشهد بالفيلسوف العظيم مونتسكيو الذي يقول «كان الناس احرارا في ظل القوانين فصاروا يرون الحريه في مخالفه القوانين، واصبحوا يسمون ماهو حكمه سخافه وماهو مبدا عسرا.. يظهر في الحكومه الشعبيه جبابره صغار فيهم مافي الجبار الكبير من النقائص ومتي اصبح امرهم لا يطاق قبض علي زمام الحكم جبار واحد فخسر الشعب كل شيئ. لذلك وجب اجتناب ماتجر اليه الديمقراطيه من المغالاه في المساواه المؤديه الي الحكم المطلق فالي غزو الاجنبي للبلاد». وهنا ينبهنا لوبون الي انه في احوال فوضويه مثل هذه تاتي الي الحكم دائما اداره استبداديه تقوم بمنح منافع لاجزاء كبيره من الشعب لكي تتمكن من البقاء، وهو مافعلته حكومه الديراكتور الاستبداديه التي منحت ابناء الطبقه الوسطي والفلاحين ماكانت الطبقات العليا مستوليه عليه من الوظائف والاموال وجعلتها بذلك من اعظم انصارها، طيب عزيزي الثائر هل يذكرك ذلك بحكم مماثل جاب لنا الكافيه ستين عاما، ام انك فقط تهوي ترديد شعار (يسقط حكم العسكر) دون فهم يجعلك تسقطه فعلا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل