المحتوى الرئيسى

الثقافة سلطة مستقلة! | المصري اليوم

06/13 22:43

رب ضاره نافعه! فالتجارب العنيفه التي خاضها المثقفون المصريون، والضربات القاسيه التي توالت عليهم، طوال العقود السته الماضيه، واخرها ما تعرضوا له ومازالوا يتعرضون له علي يد السلطه الاخوانيه القائمه وجماعات الاسلام السياسي بشكل عام - هذه التجارب، وهذه الضربات ايقظتهم، وحررتهم من قيودهم، ودفعتهم للمقاومه، واعادتهم للساحات التي استعادوا فيها وعيهم، واكتشفوا من جديد دورهم، وادركوا ان المثقف لا يوظف، وان الثقافه ينبغي لها ان تكون دائماً سلطه مستقله. سلطه اخلاقيه لا يتولاها الموظف بالتعيين او بالانتخاب، انما يتولاها بما اعتبره عباس محمود العقاد نوعاً من التفويض الالهي!

وفي العصور الوسطى كانت النظم السياسيه السائده هي النظم الدينيه، وكان الملوك والاباطره المسيحيون في اوروبا والخلفاء والسلاطين المسلمون يعتبرون انفسهم ظلالاً لله علي الارض، ونواباً له يحكمون الدنيا بتفويض منه، وهذه هي نظريه التفويض الالهي التي استعارها «العقاد» في نقاشه مع مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد، الذي طلب من «العقاد» - وهو عضو في الحزب - ان يلتزم فيما يكتبه بالسياسه التي اقرها زعماء الحزب المنتخبون، فرفض «العقاد» ان يكتب غير ما يري ويعتقد، واجاب «النحاس» قائلاً: نعم. انتم زعماء الحزب بالانتخاب، اما انا فكاتب الشرق بالحق الالهي!

وقد اراد «العقاد» بهذه العباره البليغه ان يقول ان الزعماء السياسيين، او معظمهم، ينظرون في تقديرهم الامور ورسمهم للسياسات للمصالح العمليه والاوضاع الانيه التي تتغير بتغير الظروف، فخصوم اليوم هم حلفاء الغد، وربما انقلبت المصلحه فاصبحت مفسده. اما الكاتب المثقف فيلتزم قبل كل شيء بالقيمه الاخلاقيه كما يراها ويقدرها، ولو تعارضت مع المصلحه العاجله، لان القيمه الاخلاقيه هي الاعلي والابقي، ولان موهبه الكاتب او الفنان المثقف امتياز اختصته به امته التي انجبته، او تفويض منها يتولي به نيابه عنها حراسه قيمها الحيه ومثلها العليا، سواء في ابداعاته الادبيه والفنيه او في اختياراته العمليه ومواقفه.

ومع ان «العقاد» اعتبر سلطه المثقف نوعاً من التفويض الالهي، الذي كان ملوك العصور الوسطي يزعمونه لانفسهم، فشتان بين سلطه المثقف وسلطه هؤلاء الملوك.

ملوك العصور الوسطي طغاه جمعوا في يدهم كل السلطات، وادعوا لانفسهم حقوقاً لله، ووجدوا من العامه والخاصه السمع والطاعه، لان نظم العصور الوسطي وقوانينها واخلاقها وعلومها وادابها وفنونها كان مصدرها الدين، والدين مصدره، او مرجعه، الفقهاء والقسس والكهنه الذين كانوا في معظم الحالات يعملون في خدمه السلطان او يقتسمون معه السلطه، التي قامت علي القهر والتنكيل بالمخالفين.

اما سلطه المثقف فهي سلطه معنويه مستمده من تراث الامه، الذي اتصل فيه تاريخها وتحقق وجودها وتمثلت شخصيتها، ونحن في حياتنا العمليه تستغرقنا همومنا اليوميه ومصالحنا الفرديه المتضاربه، فنحتاج عندئذ لمن يوقظ ضمائرنا ويخاطب عقولنا، ويحيي في نفوسنا الشعور بالقيمه النبيله والانتماء المشترك، ويشجعنا علي مقاومه الطغيان والتخلص من كل صوره، وينبهنا للمصلحه العامه والمطالب الحيويه، التي يجب ان يضمنها الجميع للجميع، وهذا هو ما ينهض به المثقف، وهذه هي مسؤوليته وسلطته التي لم تتحقق له الا حين اصبح حراً مستقلاً.

وفي العصور الماضيه لم يكن المثقف حراً، ولم يكن مستقلاً، بل كان تابعاً للسلطه ناطقاً باسمها، لان هذه السلطه كانت - كما سبق القول - مركزه في قبضه واحده هي قبضه الحاكم وحلفائه واعوانه من الامراء وقاده الجند ورجال الدين، الذين كان عليهم ان يطوعوا الاخرين ويقهروهم ويضمنوا ولاءهم ويحولوهم الي ادوات تزرع للحاكم وتحصد له، وتبني، وتحصنه بالفتاوي، وتؤلف له الرسائل وتقرا النجوم وتنظم في مدحه الاشعار، فان سولت لمفكر او شاعر نفسه ان يناقش او يخالف او يعترض فمصيره هو مصير سقراط او إبن المقفع او الحلاج!

واذا كانت النهضه التي عرفتها اوروبا قبل خمسه قرون قد فتحت الطريق امام المثقف الاوروبي ليتحرر من قيود الماضي ويخرج من ظلماته ويصبح سلطه مستقله، فنحن لم نبدا مسيرتنا في طريق الحريه الا متاخرين، لان ظروفنا اختلفت عن ظروف الاوروبيين، ولم نكمل هذه المسيره حتي الان، وربما تقدمنا في مرحله من المراحل حتي اذا كدنا نبلغ الغايه تقهقرنا في مرحله تاليه حتي عدنا الي حيث بدانا!

والمثقف لا يتحرر بعيداً عن شعبه، وانما يتحرر معه. حين تشتد الازمه وتولد القوي الجديده، ويستشعر الناس حاجتهم للحريه وحقهم فيها، تولد الشراره من حادثه او صرخه او قصيده فتشتعل الثوره ويخرج الناس رجالاً ونساء يضربون ايدي الملوك والرؤساء ايضاً واعناقهم، ويوقفون رجال الدين عند حدهم، ويبنون دولهم المدنيه، ونظمهم الديمقراطيه، ويفصلون بين السلطات، فالنواب يشرعون، والوزراء ينفذون، والقضاه يقيمون العدل. وفي هذا المناخ يتحرر المثقف ويستقل ويؤدي دوره في حراسه القيم والكشف عن الحقيقه ومقاومه الظلم والقبح والخرافه والطغيان، وهذا ما حدث في اوروبا خلال القرون الثلاثه الماضيه مع جون لوك، وفولتير، وروسو، وحدث عندنا بعد ذلك بقرنين او ثلاثه قرون مع الشاعر محمود سامى البارودى، والامام محمد عبده، والكاتب الساخر عبدالله النديم، والفيلسوف احمد لطفي السيد.

لماذا عرفنا الديمقراطيه متاخرين؟ ولماذا نقترب منها ثم نبتعد؟ ولماذا تاخر عندنا ظهور المثقف المستقل؟

الجواب، ان النظم السياسيه عندنا كانت من الاصل مختلفه عن النظم الاوروبيه، وان علاقتنا بالديمقراطيه حديثه منقوله عن الاوروبيين الذين عرفوا الديمقراطيه في عصورهم القديمه واطلقوا عليها هذا الاسم الذي اخذناه عنهم.

لقد كان ملوك اوروبا في العصور الوسطي يستندون لسلطه اخري هي سلطه الكنيسة ويتصارعون معها احياناً، ومن هنا كان بوسع الاوروبيين ان يثوروا علي الملك فيجدوا العون من الكنيسه، وان يثوروا علي الكنيسه فيجدوا العون من الملوك والامراء، حتي جاء الوقت الذي استطاعوا فيه ان يثوروا علي السلطتين وينشئوا دولهم المدنيه ونظمهم الديمقراطيه.

اما عندنا فلم يكن الملك او الخليفة بحاجه الي سلطه دينيه يستند اليها، لانه كان يجمع في قبضته بين السلطتين. الملك في مصر القديمة كان ملكاً والهاً، والخليفه في الاسلام لم يكن حاكماً مدنياً كما تدعي جماعات الاسلام السياسي محتجه بان الاسلام ليس فيه كنيسه. حقاً، الاسلام ليس فيه كنيسه، لكن عدم وجود كنيسه في الاسلام سمح للخليفه بالجمع بين السلطتين، فالحكومه الاسلاميه كانت حكومه وكنيسه في وقت واحد. والخليفه حاكم وامام، وهو ليس مجرد مفوض او نائب عن الله، بل هو «الواحد القهار»، كما قال ابن هانئ الأندلسي وهو يمدح الخليفه المعز:

ما شئت، لا ما شاءت الاقدارُ

ومع ان رجال الدين موجودون في الاسلام فهم لم يكونوا سلطه مستقله، انما كانوا، او معظمهم، يعملون في خدمه الحاكم، ولهذا سموا فقهاء السلطان.

هذا الوضع الذي كانت فيه الخلافة الاسلامية حكومه مقدسه حصن الطغيان في البلاد الاسلاميه واخّر الوصول الي الديمقراطيه التي لم نعرفها الا بعد ان اتصلنا بالاوروبيين الذين عرفوها قبلنا كما ذكرت. فقد نشات الديمقراطيه في اثينا، وانتقلت الي روما، واعتبرها النبلاء الاوروبيون حقاً لهم وحدهم في العصور الوسطي. حتي اذا تطورت المجتمعات الاوروبيه في العصور الحديثة، واشتعلت فيها الثورات علي القوي القديمه اصبحت الديمقراطيه نظاماً وحقاً لكل المواطنين.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل