المحتوى الرئيسى

مقالات | يكتب: الخرتتة!

06/08 11:16

لا تطلب من الخراتيت ان توسع زاويه رؤيتها ابدا، صدقني يمكن ان تقنع الخرتيت بضروره التحليق بخياله عاليا فقط اذا اقنعت الصقر بضروره الاستقرار الهامد علي الارض، لذلك لا تحاول ابدا تغيير منطق الكائنات، وحافظ علي انسانيتك  من الخرتته، واسال الله السلامه.

كل المراجع العلميه تجمع علي ان الخرتيت مُبتلي بقصر النظر، مما يجعله يهاجم اولا قبل ان يتبين ليكتشف الهدف الذي يهاجمه بعد فوات الاوان، قصر النظر هذا يجعل الخرتيت احيانا حين دفاعه عن نفسه وصغاره ضد المهاجمين يقوم بدهس صغاره والقضاء عليهم بنفسه، بسبب عيب قاتل كهذا لا يستفيد الخرتيت من وزنه الثقيل الذي يجعله من اضخم الكائنات الحية، ولا من قدرته علي الجري بسرعه تقترب من سرعه الحصان برغم انه لا يستطيع مواصله الجري كالحصان.

وربما لذلك يفضل الخرتيت ان يعيش دائما بمفرده في عزله تامه، لكنه مع ذلك لا يفلت من الكائنات التي تلتصق بجلده السميك لتعيش علي ما يوجد به من فضلات، ولا من الطفيليات التي تمتص من جسده ما يعادل اربعه ليترات دم يوميا، وهو ما يسبب له حالات من الغضب الجنوني جلبت له لقب اشد الكائنات الحيه غباءا، وبرغم كل هذا فان حيوان الخرتيت لا يشكل ابدا نفس الخطوره علي البشريه التي يشكلها البشر الذين قرروا ان يتحولوا الي خراتيت بمحض ارادتهم.   

في مسرحيته البديعه «الخرتيت» يحكي المؤلف المسرحي الاشهر اوجين يونسكو عن مدينه صغيره تشهد ظاهره تقض مضاجع سكانها، هي رؤيتهم لعدد من الخراتيت تتحرك في شوارع المدينة، فيظنها البعض في البدء هاربه من حديقة حيوانات قريبه، ثم يتضح ان الخراتيت التي كان يراها الناس ليست سوي انفسهم.

فقد نمت قرون خرتيتيه علي رؤوسهم جميعا بما فيهم الرجل الذي كان يسميه الجميع رجل المنطق، واصبحت جلودهم خشنه سميكه وتحولت اصواتهم الي خوار، ليصبحوا قطيعا من الخراتيت ينشر الخراب في مدينتهم، ولا يصمد في مواجهه هذه الخرتته الشامله سوي مواطن وحيد يصر علي الاحتفاظ بادميته ويرفض ان يتخرتت كباقي سكان مدينته مهما كلفه ذلك من ثمن.

اراد يونسكو ان يقدم في مسرحيته صرخه ضد مخاصمه البشر لحريتهم وفرديتهم ليقبلوا الحياه في صفوف القطيع، ورغم ان المسرحيه ظهرت الي النور عام 1960 الا ان فكرتها كما قرات في مقال للناقد المسرحي علي كامل ظهرت لدي يونسكو قبل عشرين عاما وسط زحف الافكار الفاشيه والنازيه علي العالم، حيث عثر في دفتر مذكرات يونسكو علي مقطع كتبه سنه 1940 يقول فيه «الشرطه خراتيت والقضاه خراتيت وانت الانسان الوحيد وسط كل هذه الخراتيت. كيف يمكن ان يدار العالم من قبل البشر؟ هكذا تسال الخراتيت نفسها. اسال نفسك انت: هل حقيقه ان العالم قد ادير يوما ما من قبل البشر». 

في احد فصول المسرحيه التي نشرتها الهيئه العامه للكتاب ضمن الجزء الاول من الاعمال المسرحيه الكامله ليونسكو بترجمه للدكتور حماده ابراهيم، يقول دودار صديق البطل رافض الخرتته لصديقه بيرانجيه «انت لن تصبح خرتيتا.. هذا امر محقق، فليس لديك الاستعداد ذلك»، ليكشف لنا ان يونسكو في مسرحيته لا يبرئ المتخرتتين من مسئوليتهم عما اصابهم، فقد كان لديهم الاستعداد منذ البدايه ان يسمحوا لمشاعرهم بالتبلد كل علي طريقته الخاصه في الخرتته.

فقد بدا صديقه جان مثلا طريقه الي الخرتته باستنكاره الدائم  لاعتقاد ان البشر افضل من الخراتيت ودفاعه عن حق البشر في ان يتخرتتوا اذا كان ذلك يريحهم معلنا انه لا يمانع ان يكون خرتيتا من باب التغيير ليتحول فعلا الي خرتيت.

اما دودار نفسه فقد بدا طريقه الي الخرتته بالتوقف عن رؤيه العيوب الحقيقيه في كل ما حوله قائلا «الويل لمن يري العيب في كل مجال فهذه سمه المفتشين»، معتبرا ان استنكار بيرانجيه لتحول البشر الي خراتيت عصبيه لا تليق به، وبعد رحله طويله من التبرير لاخطاء المتخرتتين ومحاوله تفسير مواقفهم والتسامح مع ما يسببونه من دمار، ينتهي بدودار المطاف الي ان ينضم الي الخراتيت تاركا صديقه بيرانجيه وهو يحاول التمسك بانسانيته من خلال حبيبته ديزي التي تظهر عليها ايضا اعراض الخرتته شيئا فشيئا عندما تشعر بالخجل من الحب الذي تبدا في اعتباره ضعفا بشريا وشعورا مريضا.

وعندما يعرض عليها بيرانجيه ان ينجبا طفلا لينقذا العالم بحبهما فيكونا ادم وحواء جديدين، تقول له «قد نكون نحن الذين نحتاج الي انقاذ، قد نكون نحن الشاذين عن غيرنا»، قائله له ان من تخرتتوا قد يكونون «هم الناس، فالبهجه باديه علي وجوههم ويشعرون بانهم علي ما يرام في جلودهم، لا يبدو عليهم انهم مجانين، انهم طبيعيون جدا، لقد كانوا علي حق»، يصرخ فيها محاولا اقناعها بخطا ما تقوله، فتصدمه بقولها ان حياتهما معا لم تعد ممكنه، وتنسحب من حياته في هدوء لتنضم الي الخراتيت دون حتي ان تشرح موقفها له.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل