المحتوى الرئيسى

محمد مصطفى موسى: دموع كاسندرا والثورة المصرية

05/25 10:39

شاءت لي الاقدار، ان اشهد فصلاً من الحرب في البلقان، وجانبًا من عمليات التطهير العرقي، ضد مسلمي «كوسوفا»، من قبل نظام ميلوسوفيتش الصربي، ذلك حين اوفدتني «البيان» الإماراتيه، الي هناك عام الف وتسعمائه وثمانيه وتسعين، فلبثت نحو شهر، اعيش في معسكر لايواء اللاجئين، اتنقل بين الحدود المشتعله، اسير علي حافه الخطر، بجوار الموت، الذي كاد يدركني مرتين، منهما واحده حسبت خلالها ان بيني وبين عتبه الحياه، محض خطوه او ادني من ذلك، لولا ان كان للاراده الالهيه كلمه اخري.

وكنت بحكم عملي مراسلاً، التقي اطرافًا من جيش تحرير كوسوفا باستمرار -بالمناسبه كوسوفو تسميه صربيه يكرهها الالبان- واسمع من هذا وذاك، ما ساهم في توسيع مداركي، بتعقيدات البلقان العرقيه والدينيه والجغرافيه والتاريخيه، هذا فضلاً عن اني تسلحت ببعض قراءات مسبقه، عن المنطقه، كي استوضح المشهد قبل ان اجد نفسي جزءًا من فسيفسائه.

وطبيعي بعد انتهاء الحرب، ان اتتبع ما يحدث بالبلقان، ذلك اني ارتبطت وجدانيًا، بالبان كوسوفا، فهم بشوشون بالفطره، لديهم حس دعابه مرهف، وثمه قله منهم درسوا بالازهر او ببغداد، فاتقنوا العربيه، وصاروا من محبي الشيخ محمد رفعت والحصري وام كلثوم وعبدالحليم، وكانوا مجرد ان يعرفوا باني مصري، حتي يتحدثوا عن محمد علي باشا بفخر، من دون ان تخلو احاديثهم من عبارات مجامله رقيقه، علي شاكله: «اذا كان محمد علي الالباني الاصل، قد ساعد المصريين ذات يوم، فالمصريون اليوم يساعدون الالبان».. وكنت اجيب علي المجامله قائلاً: «معسكر الايواء بناه المرحوم الشيخ زايد، وحكومه الامارات، لا الحكومة المصرية»، فيجيبون: كلكم عرب.

ومن عوامل اقترابي الي البان كوسوفا ايضًا، انهم كانوا يجعلون من الخامسه عصرًا، وقتًا «مقدسًا» للقهوه التركيه، وهي من اكثر الاشياء التي كنت افتقدها، في هذه المهمه، كون سكان بلده كوكيس الالبانيه، علي الحدود الالبانيه الصربية، حيث اقمت بالمعسكر، لا يعرفون الا القهوه الفرنسيه، التي لا استسيغها كثيرًا، ولا اتناولها الا نادرًا.

القهوه صانعه البهجه.. طقوس سحقها وطحنها و«تحويجها وتحميصها»، ووضعها علي مواقد صغيره «سِبرتايه» والجلوس ارضًا علي الحصير، امام الخيام لاستنشاق رحيقها السحري اثناء نضجها، ومن ثم الاستمتاع بالرشفات المشتهاه البديعه، وسط سلاسل جبليه شامخه، تتخذ العشب الاخضر رداءً، فيما تكتسي قممها بثلوج، تلتمع في اشعه شمس لطيفه، فتبدو في عظمه ملوك يرتدون عباءات خضراء، وتيجانًا فضيه، كانت متعه خالصه احرص علي استقطاعها يوميًا، علي مدي اثنين وعشرين يومًا من العمل الشاق.. ومع النسيم حريري الانامل، الذي كان يمس الجباه بلطف، كان الجمال مبذولاً بالمجان.

جمال رباني، يتحدي القبح متمردًا بسكينته، علي غوغائيه المتقاتلين، وهمجيه الحرب، واصوات دانات المدافع، وازيز طائرات «الناتو» التي تحلق فوقنا، فنري صواريخها ونسمع زلزله انفجاراتها، اذ تدرك اهدافها.

وكانت ضحكتها ايضًا من مفردات الجمال الرباني.

كاسندرا.. فتاه البانيه، طالبه بالسنه الاخيره بكليه الطب، مستديره الوجه تحقيقًا، لها صفان من الاسنان ينتظمان كاللؤلؤ المنضود، صوتها فيه «بحه» مموسقه مستحبه، شعرها بني فاتح، ليس منسدلاً «بلا شخصيه» فيه «تموجات طفيفه» كما احب، يميل قوامها الي الامتلاء النسبي، بما يوافق الذائقه العربيه.

عينان عسليتان فاتحتان، وانف لم ارَ له مثيلاً، في الاعتدال والاستواء.. وشفتان دقيقتان، هما اقل ما في وجهها جمالاً، لكنها اجمالاً كانت جميله، ذاك الجمال الهادئ لا الصاخب الذي لا يعلن عن وجوده بقوه.. جمال لا يباغتك في الوهله الاولي، بقدر ما «يطبطب» عليك بحنان وهدوء، ثم يقيم الفهً معك، كلما نظرته.

ومن طقوس حياتي اليوميه، في معسكر اللاجئين، الذي كان يضم عشره الاف منهم، ان كنت انتهي من ارسال التقارير ذات الطبيعه الخبريه الانيه العاجله مبكرًا، واجعل الساعات المتاخره من الليل، للتقارير المطوله «ذات الصلاحيه الاطول»، وبين الكتابه والكتابه، كنت استقطع وقتًا يبدا حوالي السابعه مساءً، لمتعه اخري، اذ كنت انصرف عن كل شيء الي اطفال المعسكر، فاُشكل قطارًا اكون في قمته، ثم نبدا الطواف حول الخيام هرولهً، هذا يقفز علي عنقي، وتلك تصر علي ان احملها فوق ظهري، نلعب «الاستغمايه»، التي علمتها اياهم، واتعلم منهم بعض مفردات اللغة الالبانية، التي لم ازل اذكر منها القليل.

وكانت كاسندرا بحكم دراستها للطب، تتطوع بكل وقتها، للخدمه بمستشفي المعسكر الميداني، وايضًا لخدمه العجزه والمقعدين، في دار ايواء اقيمت هناك، بميزانيه مفتوحه، وبتوجيهات مباشره من الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وكانت دار العجزه في خيمه كبيره، تتاخم خيمتي، ما كان يسمح لي بان اتبادل الاحاديث معها، مستمتعًا بصوتها ذي البحه المحببه، وضحكتها المتردده ما بين الطفوله والانوثه، وقتًا من الليل، وذلك عبر كوه صغيره بالخيمه، وكانت المسكينه كثيرًا ما تعاتبني بدلال عتابًا رقيقًا، علي انشغالي بالاطفال، وانصرافي عن «كل شيء»، الامر الذي كنت اتهرب منه، بكل ما اوتيت من لباقه، قاصدًا صدها برفق فلا اكسر لها قلبا، فانا محض عابر طريق، اعلم باني ساحزم حقائب الرحيل، في ايه لحظه، وايضًا كونها، ومن جهه اخري، بما تكابده من محنه العيش في مخيم، وسط الخطر، جد ضعيفه هشه.. ولم يكن خدش احاسيسها مما يرضي الضمير.

علي اني رغم تعمدي التعامل مع كاسندرا «رسميًا»، لا انسي ابدًا، نظره عينيها، واضطراب صوتها، وارتعاشها من فرط بكاء، اذ كنت اتاهب، للصعود الي الهيلوكوبتر، متوجهًا الي مطار تيرانا، عاصمه البانيا، لاستقل طائره الي العاصمه الاماراتيه ابوظبي، ولا انسي ايضًا اني قطعت الرحله كلها، وهي تمتد لاكثر من سبع ساعات، اتلو كتاب الله، باكيًا متضرعًا ان يحفظ كل الذين ودعتهم.

هذه بعض الاسباب الانسانيه، التي ابقتني دائمًا علي صله بما يحدث بالبلقان، فبيني وبين الناس هناك «عيش وملح» وقهوه.. ومليحه حسناء، رقت لها فيما يبدو، وكان ممكنًا ان تروق لي، لولا ان مشاعرنا لم تجد فرصتها، في زمن الحرب واللجوء، ناهيك عن الاطفال، ومنهم ثلاثه اشتاق اليهم علي الخصوص، واحس ناحيتهم حتي الان مشاعر الابوه، واحاول ان اتخيل هيئاتهم، بعد ان دخلوا سن الشباب، واسال الله لهم من قلبي السعاده والسلامه، وهم بالترتيب: دافير ودشنور ومحمد خوجه.

ومع نهايه الالفيه، وبعد عودتي من البانيا بعامين، اندلعت ثوره صربيا، بقياده حركه «اوتبور» الشبابيه، التي خرجت ٦ ابريل المصريه من رحمها، وتبنت «اوتبور» المنهج السلمي حتي خلعت الثوره ميلوسفيتش الطاغيه، وبدات الخارطه السياسيه تتشكل، علي قواعد جديده، فاهتممت بمتابعه التفاعلات الطارئه، وراجعت بعضًا مما قراته حول الخارطه العرقيه والتركيبه السكانيه في البلقان، واخذت احلل انقسامات يوغوسلافيا السابقه، الي دويلات في ضوء من وعي بالجغرافيا السياسية والتاريخ والسياسه معًا.

وزُج برئيس صربيا السابق في السجن، ووقف متهمًا، امام محكمه جرائم الحرب في لاهاي، وتنفست شخصيًا الصعداء، وبدات ارقب القصاص من الرجل الذي قتل الاف الالبان والبوسنيين، لكن المحاكمه لم تكتمل، اذ عثر عليه ميتًا في محبسه، بعد الثوره بست سنوات.

ومن المفارقات انه في غضون محاكمه السفاح، كان هناك صربيون، علي غرار «اسفين يا ريس» يبكون عليه، ويطالبون بفك سجنه، لانه الزعيم البطل الملهم، وكانت المناوشات تقع بين هؤلاء واسر الضحايا، كما عبثت المافيا المنظمه بالبلاد، وهاجر مستثمرون باموالهم، المنهوبه من قوت الشعب، فوجدوا في بلدان «الحريه الغربيه» حكومات تتستر عليهم، واستمرت الفوضي وقتًا ليس بالقصير.

حتي الان.. وبعيدًا عن عيني كاسندرا وصوتها المموسق وضحكتها ودموعها في الوداع، وايام اللجوء وتجربتي الذاتيه، يبدو السيناريو في ثورتي مصر وصربيا متطابقًا، لكن.. ثمه تناقضات مهمه، وهناك في الكواليس، ما لم نره.

فصربيا التي خرجت من ثورتها بالغه الفقر، لم تقفز علي كراسي الحكم فيها نخبه تستنسخ السياسات التي اججت الثوره، كما الحال بمصر، ومن ثم بدات مسيرتها نحو النهوض، ولا اقول النهضه، لان المفرده الاخيره، صارت سيئه الصيت!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل