المحتوى الرئيسى

| محمد المخزنجي يكتب: غدار في عش النقار

05/16 10:14

الفيديو التقطه بالصدفه سياح كانوا يبحرون في احد روافد نهر الامازون المُحاصَره باشجار ونباتات الغابه الاستوائية في البرازيل، وفيما كانت عدسات كاميراتهم مصوبه نحو جذع شجرة عتيقه يتعلق بها طائر ملون يتاهب لدخول عشه المحفور في الجذع، فوجئوا بثعبان ضخم ينطلق براسه وبعض جسمه من داخل العش، لتدور بين الطائر والثعبان معركه مخيفه، فيما اخذ السياح يتصارخون بخليط من الاستثاره والفزع «اووه، اووو، ياربي، توقف، لا تحرك القارب، لا تحرك القارب». كانوا يدركون انهم يلتقطون مشهدا نادرا، وهو بالفعل نادر، لكن نعمه الانترنت جعلته شائعا، بل اشهر مشهد لتراجيديا الصراع في الغابه بين الطيور والافاعي. وقد رايته اكثر المشاهد احاله، الي ما حدث ويحدث لثوره يناير لدينا!

 الطائر في الفيديو يُسمَّي «نقار الخشب المُقَنْزَع « PILEATED WOODPICKER، لان راسه متوج بقنزعه حمراء، اي عرف من الريش مائل الي الخلف، وهو يماثل في الحجم ببغاءً كبيرا ولا يقل تلوينا عنه، ويتسلح بمنقار كراس حربه، صلب للغايه وان كان شديد الخفه، اضافه لمخالب حاده تطل من اصابع قويه، وذيل متين وصلب. هذه كلها ادوات عمله، وهبات تهيئته ليشق طريقه في حياه الغابه، فهو يتعلق بجذوع الاشجار بطريقه عبقريه تشبه طريقه طالع النخل لدينا، لكن بدلا من الانشوطه التي تطوق جذع طالع النخل، ينشب المُقنْزع مخالبه في جذع الشجره، فيما يتكئ علي ذيله المرشوق في الجذع، ويوالي ضرب لحاء الشجره التي يتعلق بها بمنقاره، فيغوص المنقار في اللحاء مستخرجا اليرقات والحشرات المختبئه فيه، ليؤمِّن غذاءه التقليدي، وان كان عند الضروره ينوع طعامه من ثمار وبذور الاشجار من حوله.

  اكثر من ذلك، واهم ربما، ان هذا الطائر يستخدم الطريقة نفسها، في تكوين عشه غير التقليدي مقارنه ببقيه الطيور، فهو يحفر بضربات منقاره بيتا حقيقيا في عمق الجذع، يُندِّيه النسغ الذي يرشح من لُب الشجره، ويشكل شرابا سائغا ومغذيا له ولاسرته المستقبليه، فكانه بهذا البيت يضمن كفايه الماوي وكفاف الزاد، اضافه للحمايه المؤكده في موسم الامطار الاستوائيه الكاسحه، ولهذا يبذل الطائر جهدا خارقا وحاذقا لحفر هذا العش، يستغرق اياما من التعلق والنقر المتواصل، ودون ان يتناول اي طعام تقريبا في هذه الفتره!

 القاعده ان هذا الطائر يصنع بدوام وجوده قرب عشه، كما بصيحاته الجهيره الشهيره «كواك كواك كواك»، نطاقا لا يتجاوزه الغرماء، وعندما يقترن بانثي تُساكنه، يتناوبان الاقامه في العش، حتي لا يخلو لحظه، وعند الرقاد علي البيض يتكرر هذا التناوب مما يجعل النقار من ذكور الطيور القليله التي تشارك الانثي في احتضان المستقبل ! فكيف وصل الثعبان الي عش هذا الطائر واحتله؟ وهل التهم بيضا او افراخا كانت فيه؟!

   برغم ان الفيديو ليس عالي الوضوح، الا انه يكشف عن ان الغادر من نوع «الثعابين النفاخه صفراء البطون سارقه البيض»، وهي افاعي قادره وفاجره، ومع ذلك واجه النقارُ الغدارَ بروح انتحاريه، غير عابئ بالشدق الفاغر المخيف منتفخ الاوداج ولا الانياب السامه، بينما لا سلاح لديه سوي منقاره الذي يقتات به ويحفر به عشه، يُباغِت الطائرُ الثعبانَ بالهجوم والنقر، يلتف الثعبان ويمسكه لحظه، لكنه لا يستسلم، بل ينقر ويضرب باجنحته ويخفق، يفلت فلا يهرب، بل يعاود الهجوم، حتي عندما نجح الثعبان في انتزاع شيء من ريشه وربما قطعه من جلده، لم يتوقف عن تكرار الهجوم والصياح، وكانه في كل هجمه يصرخ «اترك بيتي. اترك بيتي». فهل في بيت ثوره يناير الان مثل هذا الثعبان؟

   نعم، وحتي اكون واضحا، فان هذا الثعبان الذي تسلل الي بيت ثوره يناير ليس طيفا سياسيا معينا كما يمكن ان يتوارد الي الخواطر المُستقطَبه من هذا الجانب او نقيضه، لانني علي قناعه ان اصحاب هذا البيت، الذين حفروه بارواحهم واستبسالهم في ميادين الثوره، لم يكونوا من طيف واحد، بل من عموم المصريين، خاصه الشباب غير المُسيَّس، وشباب الليبراليين واليساريين والاخوان والسلفيين وغيرهم، مسلمين ومسيحيين، جمع بينهم التطلع لبناء بيت وطني جديد مشترك، متطهر من الاستبداد والفساد وجدير بالمستقبل، وكان روح الشباب هو الذي وحد بينهم وجعلهم القاطره التي شدت في اندفاعها التاريخي المذهل عموم المصريين، كما الجيش الوطني.

   وبقدر ما كانت البراءه الروحيه والسياسيه هي الضوء الباهر الذي تالق في سماء هذه الثوره، بقدر ما شكلت الثغره التي تسلل منها الثعبان الغادر ليحتل ارضها التي خلت له لحظه، ويدفع اليها بادواته ممن تورطوا في التماهي مع مخططاته التي تستخدم الصفقات والضغوط والوعود، لتفرض نفسها علي واقع مرتبك، بما يلائم مصالحها التي علي راسها امن اسرائيل في محيط عربي لابد من تمزيقه وتشتيته وانهاك قواه، بما يحقق سيناريو الفرقه والتفتيت الذي اقترحه المُنظِّر اليميني الصهيوني برنارد لويس عام 1980 بتكليف من البنتاجون وبمباركه بريجينسكي مستشار الامن القومي علي عهد جيمي كارتر، القديس، مفتي النزاهه الانتخابيه في الديار المصريه! ومن بعده «المحافظون الجدد»، وفي اعقابهم الاداره الأمريكية «العميقه» العابره للديموقراطيين والجمهوريين علي السواء!

   مخطط برنارد لويس لم يجد افضل من ازكاء الصراعات الدينيه والطائفيه والمذهبيه، والعرقيه ان وُجِدت، لتمزيق خرائط سايكس بيكو القديمه ورسم خرائط جديده تُكرِّس لتفتيت اشد، وكان التصور المبدئي في ذلك المخطط ان يكون مرسوما بحدود جغرافيه جديده لدويلات وجيوب طائفيه ومذهبيه وعرقيه تستهلك طاقه الشعوب في حروب بينيه لا تخمد، لكن يبدو ان ملابسات سخريه التاريخ، قدمت لهذا المخطط منحه شيطانيه لتحقيق هذا التفتيت حتي لو بقت الحدود القديمه علي حالها، فليكن الاحتراب داخليا في اطار «الدوله» الواحده، مادام ذلك سيحقق ان تاكل مجتمعات هذه المنطقه نفسها بنفسها، بل هذا اامن واضمن من كيانات سقطت فيها «الدوله» كما الصومال، فتحولت الي قاعده قطاع طرق بحريه وبؤره تجميع وتفريخ لقنابل التطرف البشري العابر للقارات، ومصدر قلق « دولي « ! فما بالنا ببقعه في قلبها اسرائيل.

 اللعبه كبيره وخطيره، وبعض من يتحركون علي رقعتها من بيننا يظنون انهم فائزون، بينما هم بيادق بين اصابع شيطان اكبر لايدعمهم، بل يدعم سيناريوهاته السوداء لتوريط ابناء هذه المنطقه في مستنقع من الصراعات الداخلية الدمويه، او علي الاقل المُستنفِده لقواهم، بما لا يسمح لهم بالخروج ابدا الي ارض السواء، ليبنوا ويزرعوا ويصنعوا ويقووا علي غاصبيهم. وعندما يتصور البعض انه «يلعب» سياسه، بتكتيكات القبول المرحلي بالاملاءات الصهيو امريكيه مقابل تمكينه من اقامه دوله حلمه الارضيه السماويه، عليه ان يدرك كم هو واهم وملعوب به، وان حلم دولته الارضيه السماويه، لن تراه افاعي مخططات التفتيت والتوهين الا خطرا مستقبليا يهدد مصالحها وامن ربيبتها في المنطقه، ولو بعد حين، ولن تسمح بقدوم هذا الحين!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل