سيادة الشورى روح المشروع الإسلامي

حقيقه الشوري: ان تقوم الجماعه الانسانيه بتقليب الاراء والافكار, ومناقشته ان واختبارها من جهه اصحاب العقول والافهام في حريه تعبيريه وفكريه، تتيح لكل صاحب راي ان يعرض وجهة نظره, وان يناقش

وجهات نظر الاخرين, حتي يتم التوصل الي احسن الاراء واصوب الافكار التي تتفق عليها اغلبيه المتشاورين, وتلتزم الجماعه بالعمل بذلك لتحقيق احسن النتائج في اطار الاصول الاسلاميه الراشده.

والشوري بهذا المعني هي احدي اهم قواعد النظام السياسي للمجتمع المسلم, وهي التي ترتكز عليها الدوله المسلمه التي تنشد لرعاياها الامن والاستقرار والفلاح.

وقد بلغ من اهميه مبدا الشوري في بناء المجتمع الاسلامي ان الله سمي سوره في القران «سوره الشورى» تحدث فيها عن صفات المؤمنين, وذكر من بينها ان حياتهم تقوم علي الشوري, قارنا بذلك اجتناب الفواحش وفرض الصلاه والصدقه فقال تعالي: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَاِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَاَقَامُوا الصَّلاهَ وَاَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(الشوري:37-38).

بل ان الله امر نبيه صلي الله عليه وسلم في احلك الظروف واشد الساعات ان يشاور اصحابه في الامر والا يستبد بالامر دونهم, فقال تعالي: فَبِمَا رَحْمَهٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَمْرِ (ال عمران:159).

وقد نزلت هذه الايه بعد ما اصاب المسلمين في غزوه أحد, بعد ان نزل الرسول صلي الله عليه وسلم علي راي الاكثريه وترك رايه, اخذًا بمبدا الشوري؛ اذ قد يتبادر الي ذهن بعض المسلمين انهم لو اطاعوا الرسول صلي الله عليه وسلم في رايه ولم ياخذوا براي الاغلبيه لما كانت النتيجه هكذا, واذن؛ فلا شوري ولا استشاره, بل عدم الشوري اولي واوفق, فنزلت الايه تؤكد للامه ان الشوري اساس الحكم, وان الامه ان خسرت معركه مع ترسيخ مبدا الشوري فذلك خير من ان تخسر الامه شخصيتها, ويتحكم فرد بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم في مُقَدَّراتها ودمائها واموالها واعراضها.

ولذلك لم يكن احد اكثر مشوره لاصحابه من النبيصلي الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي, بل كان يقول لابي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في مسند احمد: «لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَهٍ مَا خَالَفْتُكُمَا».

فاستشار صلي الله عليه وسلم اصحابه في اسري بدر, واستشارهم في الخروج للقاء العدو في احد, وفي غير ذلك من المواقف.

وتبعه علي ذلك الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم, فقد اخرج الدارمي عن مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: «كَانَ اَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَاِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ، قَضَي بِهِ، وَاِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ، وَعَلِمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْاَمْرِ سُنَّهً، قَضَي بِهِ، فَاِنْ اَعْيَاهُ، خَرَجَ فَسَاَلَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: «اَتَانِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ عَلِمْتُمْ اَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَي فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟» فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ اِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ قَضَاءً. فَيَقُولُ اَبُو بَكْرٍ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَلَي نَبِيِّنَا صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَاِنْ اَعْيَاهُ اَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّهً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَاِذَا اجْتَمَعَ رَاْيُهُمْ عَلَي اَمْرٍ، قَضَي بِهِ».

ان الشوري اعتراف بحقيقه الحريه التي منحها الله للانسان وتطبيق عملي لها, وليس احد فوق الخطا مهما علت مكانته, وارتفعت منزلته, كما انه ليس احدٌ اقلَّ من ان يقول الصواب مهما نزلت درجته الوظيفيه في المجتمع.

والشوري في الحقيقه توزيع للمسئوليه، وتحفيز مهم للقيام بالدور المطلوب, وهي خير وسيله لاكتشاف الكفاءات والقدرات, التي  تدفع بالمجتمع نحو الكمال والاكتفاء, وهي كذلك اثراء للخبرات وتوريث للتجارب وتجويد للفكر والرأي.

وهذا امير المؤمنين علي بن ابي طالب يعدد بعض فوائد الشوري فيقول كما في العقد الفريد لابن عبد ربه: «في المشوره سبع خصال: استنباطُ الصواب, واكتسابُ الراي, والتحصُّنُ من السقطه, وحِرْزٌ من الملامه, ونجاه من الندامه, والفه القلوب, واتباع الاثر».

ومن ثم فاهمال الشوري تضييع لخير كثير في النفوس, وهدر لطاقات كبيره يحتاجها البناء.

وقد اخرج الترمذي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله : «اِذَا كَانَ اُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَاَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَاُمُورُكُمْ شُورَي بَيْنَكُمْ؛ فَظَهْرُ الاَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَاِذَا كَانَ اُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَاَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءَكُمْ، وَاُمُورُكُمْ اِلَي نِسَائِكُمْ؛ فَبَطْنُ الاَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا».

علي ان الشوري ليست مجرد مناقشات وتعبير عن الاراء وتقليب لوجهات النظر فحسب, ثم لا يلزم احدًا ان يعمل بنتائجها. كلا كلا؛ بل هي ملزمه للامه كلها, والا كانت لغوًا وعبثا لا قيمه له. كيف, وقد قرنها الله بالصلاه والزكاه؟!

ثم ان الشوري ليست منحصره في الامور السياسيه الكبري, بل هي منهج شامل لكل مناهج الحياه واشكالها للفرد والجماعه, وهي مدرسه تربويه للامه, تظهر شخصيتها من خلالها.

يقول الاستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله في التعليق علي قوله تعالي وَاَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ: «والتعبير يجعل امرهم كله شوري ، ليصبغ الحياه كلها بهذه الصبغه وهو كما قلنا نص مكي ، كان قبل قيام الدولة الاسلامية. فهذا الطابع اذن اعم واشمل من الدوله في حياه المسلمين.

انه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدوله بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد.

والواقع ان الدوله في الاسلام ليست سوي افراز طبيعي للجماعه وخصائصها الذاتيه، والجماعه تتضمن الدوله وتنهض واياها بتحقيق المنهج الاسلامي وهيمنته علي الحياه الفرديه والجماعيه.

ومن ثم كان طابع الشوري في الجماعه مبكراً، وكان مدلوله اوسع واعمق من محيط الدوله وشؤون الحكم فيها.انه طابع ذاتي للحياه الاسلاميه، وسمه مميزه للجماعه المختاره لقياده البشريه . وهي من الزم صفات القياده».

ان سياده الشوري في الحياه الاسلاميه الاولي كان سببا في غايه الاهميه من اسباب النصر, ففي اثناء الفتح الاسلام لارض فارس طلب قائد جيش الفرس ان يلتقي بالقائد العربي قبل المعركه ليتفاوض معه في حقن الدماء, وبعد ان عرض الفارسي مقالته قال العربي: امهلني حتي استشير القوم، فدهش

الفارسي وقال: الست امير الجند؟ قال: بلي. قال الفارسي اننا لا نؤمر علينا من يشاور. قال له العربي: ولهذا نحن نهزمكم دائما. اما نحن فلا نؤمر علينا من لا يشاور.