المحتوى الرئيسى

غزة خطوات على الحلم

05/12 12:04

«شيكل.. دولار.. شيكل.. شيكل» تعلو أصواتهم تدريجيا كلما اقتربت أكثر فأكثر من البوابة الرئيسية لمنفذ رفح البرّى.. مجرّد دخولك من البوابة فى اتجاه غزة يجعلك تشعر بأنك حققت نصف الحلم بالدخول إلى الأرض التى طالما تعاطفت معها ومع أهلها دون أن تراها.. تشعر أن الحلم يقترب أكثر فأكثر كلما مرت مرحلة من مراحل إجراءات السفر الاعتيادية بدءا من مرور الحقائب، انتهاء بختم الجوازات.. لا يعكّر صفوك وشوقك لرؤية النصف الآخر من المعبر شىء من تلك الإجراءات عدا بعض من الإهمال والفوضى التى ستلحظها فور تخطيك البوابة الرئيسية.. يعزّز شعورك بأنه لا شىء تغيّر كثيرا بعد ثورة 25 يناير لدى بعض العاملين فى القطاعات الرسمية للدولة، ذلك الحديث الذى دار بين سيدة فلسطينية وزوجها اللذين مكثا كغيرهما وقتا ليس بقليل فى الصالة المخصصة لقسم الجوازات فى المعبر.

«الرشاوى عينى عينك» تقول تلك السيدة لزوجها وهى تشير بيدها إلى شخص يقوم بعرض خدماته على بعض الراغبين فى الانتهاء من إجراءات سفرهم على الفور، ليرد زوجها بدوره وهو يتابع الرجل «أمرنا لله شو بدّنا نسوى.. سننتظر حتى نسمع أسماءنا»، تمر دقائق ويظهر أحد رجال الشرطة يحاول فضّ الزحام من أمام إحدى النوافذ التى يجلس خلفها الموظفون بقسم الجوازات، يقول الزوج «شوفتى الضابط اكتشف اللى بيحصل وقال لهم يبعدوا».

تخرج الأسماء ثقيلة من «الميكروفون» وغير واضحة.. تعلّق السيدة مرة أخرى «إحنا مش سامعين.. الميكروفون بايظ.. إيش بتقول؟»، يردد العبارة ذاتها أغلب من فى الصالة، إلا أن الموظف الجالس قبالة «الميكروفون» يؤكد «إنتم مش سامعين عشان الدوشة».

نشوة سماعك اسمك تنسيك كل ذلك، تتجه لفورك بعد دفع التذكرة إلى الحافلة التى ستقلّك إلى النصف الآخر من المعبر.. «أهلا بكم فى فلسطين» تتنفس الصعداء عند رؤيتك للعبارة التى طالما انتظرت أن تراها والتى تعلو البوابة الرئيسية للمعبر فى رفح الفلسطينية.. تتوجه لصالة ختم جوازات السفر.. للوهلة الأولى تشعر أنك فى مطار وليس ميناءً بريا، فنظافة المكان والزى الموحد للعاملين فيه وعمل عناصر من الشرطة النسائية، فضلا عن تقسيم الصالة كفيل بذلك.

دقائق وتنتهى الإجراءات، تودعك فى المعبر الفلسطينى عبارة «أهلا بكم فى غزة» لتتأكد أنك بالفعل على خطوات من الحلم.. خارج الميناء البرّى تصطف سيارات الأجرة، بالقرب من بقايا مبنى تبدو عليه آثار القصف الإسرائيلى.. يتكالب السائقون لاجتذاب الركاب.. لتبدأ بعدها الرحلة فى أرجاء مدينة العزة غزة.. ذلك هو الحال بعد 65 عاما من النكبة.. وبعد أن كان القطار الذى يجمع بين سيناء وغزة هو السبيل لدخول فلسطين، صار المعبر أو النفق هو الطريق الوحيد إليها.. 65 عاما ربما تمكن خلالها الاحتلال من اغتصاب الجزء الأكبر من الأراضى الفلسطينية إلا أنه لم ولن ينجح فى انتزاع نظرة الإصرار والصمود التى تشعّ من أعين الفلسطينيين فى القطاع.

منظر البيوت والمبانى والشوارع هناك يشعرك بدفء غريب لا تعرف سببه.. الهدوء ونظافة الشوارع الرئيسية وانتظام حركة المرور وشاطئ غزة الساحر يجعلك تظن أنك فى دولة أخرى بعيدة عن العالم الثالث.

وعلى الرغم من انشغال المواطن الفلسطينى بحياته وبالمشاكل التى تواجهه من ارتفاع أسعار لانقطاع دائم للكهرباء، الى صعوبة فى إجراءات السفر لأى دولة يودّ التوجه إليها، إلا أن صوت طائرة الاستطلاع الإسرائيلية «الزنانة» والطيران الحربى الذى اعتاد سماعه دائما ما يذّكره بأن هناك قضية وهناك أرضا يوما ما ستعود إليها.

سيدة المخيم.. فلسطينية بألف رجل

الابتسامة هى القاسم المشترك بين ثلاثتهن، رغم أن ظروف كل واحدة تكاد تكون أكثر قسوة من الأخرى، الابتسامة دليل صمود..  اشتياق إلى الحرية .. إيمان بأن الأرض المغتصبة ستعود يوما. ثلاث سيدات يزرعن الأمل فى نفوس الصغار ويشددن من عزم الرجال، لم تكن الحياة فى مخيمات غزة، بحالها البائس، عائقا أمامهن، وليس الانقطاع المستمر للكهرباء الذى اعتدن عليه، وليست الدخول التى تضمن حد الكفاف من العيش، بل أن الحصار الإسرائيلى ذاته، لم ينجح فى أن يتسلل اليأس إلى نفوسهن، فأصحبت كل واحدة منهم هى الأم والأب والعائل والمستقبل الذى ينتظرنه بكل ما أوتين من عزم وإيمان.

أم محمد.. من تل الربيع

إلى بلوك 4 مخيم الشاطئ

«أنا من بيت درّاس فى تل الربيع» هكذا تسميها أم محمد النحال، ترفض ذكر كلمة «تل أبيب» أمام أطفالها، ليظل اسم مدينتهم الحقيقى محفورا فى ذاكرتهم.. تبدأ سرد قصتها «معظم أهلى يقطنون مخيّم جباليا»، ومع هذا لا تشعر فى مخيم الشاطئ بالوحدة «إحنا فى المخيمات أهل وإخوة وما بنقدر نعيش بعيد عن بعض، دايما مع بعض فى المواساة والفرح لكن روحنا وعقلنا فى القدس».

أم محمد تقطن فى هذا المخيم منذ ما لا يقل عن 10 سنوات، مع زوجها وأمه وخمس من الأولاد وابنة .. تقول «أطفالنا عندما يلعبون يدقون الخشب على شكل البارود، أولادنا تعوّدوا على هذا الجو».. تشارك والدة زوجها التى تلقب بـ«أم العبد» فى الحديث وهى تتذكر أيام نكبة 1948. «كانت تأتى طيارات اليهود الصغيرة مثل التى يلعب بها الصغار، حاملة براميل فيها قنابل» تقول أم العبد التى لا تزال تذكر صوت الغارات الإسرائيلية «لما كانت تضرب كانت تدمر الشارع كله، واليهود صاروا يشرّدون الناس، ولا نلحق ناخد ثيابنا، كل واحد يمسك أولاده ويجرى». تسترجع ذاكرتها قسوة تلك الأيام «كل الناس هجّت.. ظلينا نمشى لما وصلنا لغابة كلها شجر، الناس لجأوا فيها، وكل واحد كان يقعد عند شجرة ويسكّر عليها.. انتهينا فى النار والصقيع.. بقينا هكذا لسنوات كثيرة وبعدها بنت لنا الوكالة –وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأنروا» ــ هذه الدور.. دفا شوى بس ضيقة ومفيش وسع».  الغرفة فى البيت الواحد لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار طولا، ٣ أمتار ونصف المتر عرضا، وأكبر بيت فى المخيم لا تزيد غرفة على الأربع، والحديث لأم العبد التى تقول «ظلينا راضيين على الغلب وعلى النكبة، والوكالة بنت لنا غرفا من غير حمامات».

تكمل حديثها «لدى 5 أولاد وبنت ماتت منذ فترة، وها أنا أقيم مع ابنى الصغير فى بيته بمخيم الشاطئ برفقة زوجته وأبنائه الست، والحال كويس إيش بدّنا نسوى»، يكفيها الشعور بالأمان الذى تقول عنه «الحمد لله نعيش فى أمان وهى نعمة غير موجودة فى بلاد أخرى».

توافقها أم محمد الرأى وتقول «لا أشعر بالخوف على أولادى فهم دائما أمام عينى، والشوارع هنا ضيقة»، تداعب أطفالها الذين لا تفارقهم الابتسامة مثلها وتكمل «الغرف ضيقة جدا وفكّرت أن نوسّع على أنفسنا، فقمنا بهد سور إحدى الغرف لأن زوجى أصيب بتعفّن فى أنحاء جسده وهو ما أدى لوجود صديد وكل ذلك بسبب سوء التهوية». أما عن الكهرباء فهى تظل منقطعة لعدة ساعات متواصلة تبدأ أحيانا من الثالثة ظهرا وحتى العاشرة مساء، بحسب أم العبد التى تقول «أوقات تنقطع من الليل حتى الصباح، وأغلب الأيام ما نقدر نعمل شيء.. بدّنا نطبخ ونغسل».

«بالتأكيد الحياة صعبة» تقول أم محمد بثغرها الباسم، وتكمل «زوجى رب الأسرة مريض بمرض نفسى إثر وجوده فى سجنى الاحتلال: أنصار و«النقب»، تقاطعها أم زوجها قائلة «اليهود وين ما يلاقوا شاب رفيع وطويل يضربوه لحد الموت، ويجيبوا بعدها سيارة الإسعاف وياخدوه فيها لسجن الأنصار»، تعتصرها الحسرة على ابنها وتقول «قلبى يحترق عليه إلى الآن». «زوجى لا يخرج من الدار منذ سنوات ولا حتى للصلاة فى المسجد، لأنه يشعر بالخوف دوما» تقول أم محمد التى تعمل لتحصل على قوت يومها وتطعم أطفالها، وتضيف «أنا شاطرة فى الاقتصاد المنزلى.. ذهب لعدة جمعيات، وأعددت مجلة ساعدتنى فيها مجموعة من الأخوات فى المسجد الغربى، وأقوم ببيع الواحدة بـ10 شيكلات».

تكمل حديثها بعزم «أحاول أن أقوم بأى وسيلة تكفل لنا رزق يومنا، لا نفكّر فيما سنأكله فى الغد، كل يوم بيومه والله بيكرم»، راضية هى بحياتها مهما كانت، فأولادها كلهم يدرسون فى مدارس الأنروا، تقول «أولادى كلهم حافظين أجزاء من القرآن الكريم، والحمد لله».

كيس الطحين وعبوّة الحليب ورطل السكر، ورطل الأرز وعبوتى الزيت «السيرج» التى تحصل عليها أم محمد كل 3 أشهر، من وكالة الغوث، تسدّ ما أمكن من رمق، إلا أن قرار روبرت تيرنر، مدير عمليات وكالة الغوث «الأنروا» بوقف المساعدة المالية التى تبلغ 40 شيكلا كل 3 أشهر لكل لاجئ، يشكّل أزمة بالنسبة لها «أوقفوا المعونة هذا الشهر، ونحن قمنا بعدة مظاهرات منذ يناير الماضى.. هما بدّهم الناس تثور على الحكومة بس الناس استحالة تستجيب.. عقولنا ناضجة».. تختم حديثها بالدعاء لزوجها بذات الابتسامة وتقول «ربنا يشفى زوجى وإن شاء الله تتغير حياتنا».

آمال.. بلوك 18 مخيم الشاطئ

صغر سنها يجعلك لا تتخيّل أنها جدة، هى لم تتجاوز بعد الثانية والأربعين من عمرها.. تزوجت فى الخامسة عشرة بشاب من جباليا، وأنجبت منه 5 بنات وولدين.. تروى آمال مصطفى الروداى قصتها وتقول «بعد 24 سنة من الزواج طلقنى زوجى.. فشققت طريقى وعرفت أن الحياة لا تبنى على زوج».

تركت آمال الزواج خلف ظهرها، ودرست وحصلت على شهادات علمية فى مجال الدعوة وتحفيظ القرآن، تقول «فى البداية كنت أعمل فى مجال التجميل، ثم رجعت للقرآن» تبتسم وهى تقول «أعمارنا بيد الله».

 «لا معين لى.. شقيقى وزوجته لديهما 8 بنات وولدين «يدوب مكفّى حاله»، ولذلك اضطرت لترك أولادها مع طليقها، لتقيم فى بيت من غرفتين صغيرتين برفقة أختها ووالدها العاجز.

تقول آمال «الوالد عنده شلل بسبب حادث سيارة، وخرج من المستشفى حديثا» ورغم صعوبة الحدث تبتسم وهى تتذكر «أبوالعبد، إسماعيل هنية، رئيس الحكومة، زاره فى المستشفى، وهو يمر على المرضى». تشير بيدها للغرفة التى تجلس فيها أختها الكبرى، التى لم تتزوج حتى الآن، تقول «أختى تعتمد على نفسها فهى حاصلة على الشهادة الإعدادية، وقامت بمشروع صغير فى غرفتها حيث تعطى دروسا خصوصية لأطفال المرحلة الابتدائية، وتبيع بعض الحلوى والشيبسى لهم».

«الحمد لله إحنا ممشّين حالنا»، تقول برضاء غامر، وتكمل «زوجى السابق وأولادى فى جباليا، 3 من بناتى تزوجن فى غزة واثنتان لاتزالان عند والدهن».. أمنيات آمال فى الحياة بسيطة «أتمنى أن أزور بناتى وأحضر لهنّ هدايا، ولكن الآن بعدما أوقفوا الـ40 شيكلا، لا أدرى ماذا سأفعل؟».

آمال تضطرها الظروف أحيانا لبيع كيس الطحين الذى تحصل عليه من وكالة الغوث لكى «أُكمِل مشاويرى»، على حسب تعبيرها، فى حين لا يمثّل لها انقطاع الكهرباء أزمة كبيرة، تقول «تعوّدنا على ذلك.. قطعة الكهربا حلوة فيها لمّة بيجوا إخوتى وبيصير فى تآلف بين الناس»، وتنهى حديثها كذلك بذات الابتسامة وهى تقول «الكهربا لها أضرارها ومنافعها والحمد لله على النعمة.. وأنا عندى الكتاب أهم من التليفزيون».

أم سمير.. بلوك 4 مخيم جباليا

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل