المحتوى الرئيسى

ورد النيل

04/18 09:36

كانه في طفوه قد اقتلع جذوره من الارض وصار لا منتميا الَّا لطموح غامض وطمع كبير يرتحل اليه، يحشد له متناسلا بنهم وهو ينداح علي سطح الماء، غير منتبه الي ان مال طموحه الغامض وطمعه الكبير لن يكون الَّا ملوحه البحر التي تهلكه، والموج العاصف بهشاشته، والتيه الذي سينثره بدداً.

من اسماه ورد النيل؟! لعله متهكمٌ من مراره حلوله بالنهر العظيم، او مخدوعٌ بفتوه مظهر اوراقه ومخايله الفتنه في زهوره عند النظر اليهما من بعيد. وهو ليس بفتي الاوراق ولا في ازهاره فتنه ان اقتربنا منه، وامعنا، وتلمسنا، والاكثر مدعاه لليقين ان نخرجه من ستر مسبحه لنري بؤس جذوره السوداء، وهشاشه انسجه اوراقه وسيقانه ان شرَّحناها.

زهوره عناقيد سنبليه الشكل بكل واحده ثمانيه زهرات بنفسجيه باهته، تُرصِّع بنفسجيتها دوائر غامقه لعيون صفراء زائفه، وتحت جلد اوراقه قلبيه الشكل الملتويه، الثخينه لامعه الخضرة، لانجد الا انسجه اسفنجيه شاحبه، تستجلب الماء من السيقان ودرنات الطفو والجذور العائمه، لتبدده عبر ثغور الاوراق بمعدل يصل الي ثمانيه اضعاف بخر السطح المائي المكشوف المعتاد في النيل، وهو بهذا البخر المسرف يرطب جسمه الواهن وجلده السميك. يرفع اوراقه فوق التيار، فتقوم بدور اشرعه ليمضي مع الهواء باتجاه وهمه الطامع، لايدري انه في اندفاعه هالك هالك، ومُهلك لغيره!

من احضر هذا السرطان النباتي المائي الي مصر؟ يُروَي انه الخديوى توفيق، العاق بابيه، الغادر بالثوره العُرابيه، بائع حصه مصر في قناة السويس، المذعن لفصل السودان عن مصر، ومُستحضِر الاحتلال البريطاني للبلاد. احمق القلب لابد انه كان احمق العقل وكليل البصيره ايضا، ظن ان هذا النبات سيبهر بجماله عيون زائريه، فجلبه من مستنقعات بعيده ليوطنه في جنائن قصوره، ومِن هذه الجنائن تسلل النبات الخسيس الي مجري النيل، فصار بما يراكمه من غطاء نباتي كثيف خنَّاق المراكب والقناطر والجسور، ومخبا التماسيح والجرذان والافاعي والعقارب وقواقع البلهارسيا ومرفا الهوام، يُظلِم قلب النهر، ويطمر رقرقه الماء، ويُكدِّر العذوبه بالاسن.

تماما مثل سرطان الاجسام البشريه، يتكاثر بشراهه وبلا غايه الا ان يري نفسه يتكاثر، النبته الواحده تعطي قرابه الالف فسيله في موسم واحد، وفي تكاثره لا يعبا اسلافه بمصائر اخلافه ما دام التكاثر مستمرا، لا ينظر الي ملاءمه الحيز المتاح لتكاثره ولا يعبا بحقوق الجوار ولا عاطفه الاخوَّه، بل ان نسله يهرس بعضه بعضا في التزاحم، يموت الكثير منه طافيا بلون بني وسط خضره احراشه، وفوق هذه البلاده المرقشه تشرئب اعناق عناقد الزهور البنفسجيه الهشه مرتعشه في نسيم النهر، كذبه ملونه توافر بحصيره تكاثفها فوق الماء معدِّيه للاذي، الاذي القارض واللادغ واللاسع والعضاض، وتمنح كل هذا الاذي جواز مرور شيطاني من الضفه الي الضفه، فتزدهر الجوائح والمخاوف!

سرطان اجسام البشر في تكاثره الشره يُنشئ لذاته اوعيه دمويه خاصه تمتص مُعظم الدم من حولها فتموت خلايا سويه وتتحلل انسجه وينتشر النتن حتي اسموه قديما «المرض النتن»، كذلك هو في غباء تكاثره، يقتل غيره من اللوتس وزنابق الماء العطره، ويقتل بعضه بعضا فتفوح من احتشاداته القاتله روائح نتَنٍ لا يُطاق، وهو في نتنه اشْرَه مايكون لامتصاص الماء وبعثره بخاره في الهواء، يبدد ثلاثه مليارات متر مكعب من مياه النيل في مصر بهذا السَرَف، وفي اثرته عمياء القلب يمتص جل الاكسجين الذائب في الماء فتنفق افراخ الاسماك في الظلمه تحت جثومه، وتعقُم الامهات. لا حياه له الا بموت من حوله، هكذا سرطان الجسوم البشريه والحيوانيه، وهكذا هو، لكنه لايدري كما الورم السرطاني انه باماته محيطه.. حتما يموت!

ليس صحيحا انه كُلِّي القدره، فهو برغم شراهته واندفاعه يظل ضئيلا في حوض نيلنا الرائع الشاسع، لكنه بخسه الدنيء يلتف علي الروعه والشساعه بمحاصره المفاصل وقطع طريق العابرين، فلا الفلك المكبله بحصاره تبحر في المدي، ولا قواعد الجسور تنفتح للعبور تحتها، اما عيون القناطر فيسدها بركام تكالبه المثقل بالعفونه. اعمي، قبيح العمي، يسمِّل كل مايلقاه من عيون جميله. تافه وفاجر، لكن للفُجر حدودا، وللحدود حدود!

يمكن ان تكافحه مبيدات كيماويه، لكن هذه تسمم ماء النهر، فتفتك بالاسماك وتقتل الحيوان والبشر وتُذبِل الشجر علي الضفتين، فهل من مغيث؟ جُرِّبت خنافس تاكل مرابط تكاثره فيغدو عقيما، لكن هذه الخنافس لا تعمل الا لحسابها، فهل يتخلص الناس من عشب النهر ليحظوا بابتلاء الخنافس؟! كذلك سوس «نيوتشيتا» المجلوب من ادغال أمريكا الجنوبيه البعيده، قادر علي نخر عافيه هذا السرطان واغراقه في مسابحه، نعم، لكن ما ذا عن انتشار السوس في الماء؟! لا هذا يستقيم ولا ذاك الا لو كان تجرُّعا للمر لتحاشي الامَرّ. ولقد سئم المصريون من الخيار المتكرر بين الامَرَّين.

مثله مثل سرطان الجسوم مثل الاحتلال الاجنبي والاحتلال المحلي والطغيان، جميعها لا تتمكن من الحلول بالاجسام والانهار والبلاد الَّا محموله علي متون التلوث، تلوث العقول والضمائر وخبل اجهزه المناعه وانطفاء صحوه الشعوب واماته الشعور بالاوطان والمواطنه. ومثله مثل كل الابتلاءات لاخلاص منها الا بثمن. وثمن يُدفع في النور صمودا ومجاهره وتضحيه باللحظه لانقاذ القادم. يسمون انجع اساليب مواجهته «مكافحه ميكانيكيه»، وما هي الا انتزاعه من استبداده بصفحه النهر، بدايه بالايادي، والتصدي له اولا باول، وحتما حرق مراكب تسلله الي النيل.. مراكب تلوث العقول والضمائر والمشاعر وفساد الاحساس بالمواطَنه والوطن.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل