المحتوى الرئيسى

الشروق تبحث عن ملامح الدولة فى جنوب السودان

03/30 12:15

أبنية صغيرة مغطاة بأسقف من الصفيح، هو المشهد الأول الذى تراه من الطائرة، قبل لحظات من هبوطها بمطار جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، الأحدث فى العالم، والتى لا يتجاوز عمرها 22 شهرا، منذ انفصالها عن جمهورية السودان فى 9 يوليو 2011، بحثا عن حلم أن تستفيد من الكميات الكبيرة التى تنتجها من النفط، لكنها ظلت بعيدة عن  الحلم، فبنايات الطوب والصفيح مازالت المشهد الأبرز فى العاصمة، التى تفتقد إلى الخدمات والبنية الأساسية

:  رغم الفقر المدقع الذى يحاصر سكان دولة الجنوب الوليدة من كل جانب، يبدأ الشاب العشرينى أويت ايمانيول، الذى يعمل فى أحد فنادق جوبا، حديثه المتفائل قائلا «حلم التنمية فى خيال كل مواطن جنوبى، لن نستسلم للظلم والفقر والنسيان الذى مارسته ضدنا حكومة الشمال، قد يكون الطريق طويلا وصعبا، لكن لدينا الإمكانيات والطاقات، والكثير من الدول تمد يدها لنا بالمعونة، لتكون دولة جنوب السودان الأقوى بين شقيقاتها فى دول غرب أفريقيا».

 «الشروق» فى زيارتها لدولة الجنوب، رصدت فى جولتها بشوارع المدينة، حكايات شباب ونساء يحملون فى هويتهم جنسية «جنوب سوداني»، ويحلمون بدولتهم الجديدة، التى تنتظرها الأجيال الجنوبية القادمة، لكن تظل المخاوف من الشريعة والحكم الإسلامى تطاردهم، بعد أن قضوا عقودا تحت حكم نظام البشير العسكري/ الإسلامى، والذى يمثل كابوسا حتى الآن فى أذهان الجنوبيين رغم الانفصال.

ورغم ما يقرب من العامين على انفصال دولة الجنوب عن الشمال وحكم البشير، إلا أن سكانها مازالوا يتوجسون خوفا من التعامل مع أى حكومة ذات صبغة إسلامية، ولم يتوقف هذا التخوف على تحفظات رجل الشارع البسيط فى جوبا، ولكنه يوجد أيضا لدى القيادات السياسية للبلاد، وفى مقدمتها رئيس الدولة ميراديت سلفاكير، نفسه، الذى قال لمحررة «الشروق»، عند استقباله الوفد المصرى المرافق لرئيس الوزراء، هشام قنديل، فى زيارته الأخيرة إلى جوبا، «أخشى أن تجلدك السلطة فى مصر عند عودتك لارتدائك الحجاب، ومصافحتك لى باليد، فهل يقبل الإسلاميون فى مصر ذلك؟!».

  وتلخص جملة كير الجادة طريقة تفكير الجنوبيين تجاه أية سلطة ذات توجه إسلامى، بأنها لا تعرف سوى عن التعامل بالقوة والغلظة، وحرصت فى ردى أن أؤكد له أن «مصر ليس فيها ممارسات تضطهد المرأة فى عملها، كما أن هناك الآلاف من الجنوبيين الذين يعيشون فى مصر، ولا يتعرضون لهذه المشكلات».

 ويعلق المستثمر بجنوب السودان، أمين عكاشة، على تخوفات الجنوبيين من السلطات الإسلامية قائلا «لن ينسى المواطنون بسهولة ما عانوه تحت حكم البشير، لكننا نسعى فى دولتنا الجديدة لأن يكون كل المواطنين يتمتعون بحقوقهم كاملة، وهو ما أعلنته دولتنا منذ الساعة الأولى لها بعد الاستقلال، فنحن لن نعيش فى تجربة عرقية أو دينية مرة أخرى».

 وفى محاولة من دولة الجنوب لتناسى كل ما يربطها بماضى علاقتها مع دولة الشمال، اختارت الدولة علما ونشيدا وطنيا ولغة رسمية، وبطلا ثوريا، لتحمله فى ذاكرتها عقب الانفصال، ورغم ذلك لا تزال آثار السودان موجودة فى جوبا، فتظهر فى لهجة المواطنين الذين اعتمدوا اللغة الإنجليزية كلغة للتعلم والتعاملات الرسمية، ورغم ذلك تظل العربية هى لغة الشارع فى جوبا، يتعامل بها العامة فى الأسواق والمتاجر، كما أنها اللغة التى تظهر على المتاجر والشوارع العامة، بجانب الإنجليزية.

 وبلهجة جنوبية مميزة، يقول أزكيل بول، «معظمنا يتحدث العربية لأسباب تتعلق بارتباطنا بدولة الشمال لسنوات طويلة، لكننا نريد أن ننفصل تماما عن هذا الكيان، نحن دولة أفريقية، ولسنا مضطرين للعودة إلى قوانين الشمال، التى تسلطت علينا بالقوة لسنوات طويلة، رغم أن معظم المواطنين هنا يعرفون العربية، خاصة الذين تعلموا فى الشمال، أو انتقلوا للعمل أو الحياة هناك، ثم عاد للجنوب عقب الانفصال، لكن العديد من الجنوبيين، وعلى رأسهم المسئولين فى المناصب العامة بالدولة يلتزمون بالحديث بالإنجليزية، كلغة رسمية للدولة».

 يقول سكان مدينة جوبا، الأكبر فى جنوب السودان، إن مدينتهم كانت قبل الحرب الأهلية مع الشمال، محورا مهما للنقل عبر الطرق السريعة لكينيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية، لكن الحرب أغلقت جميع هذه الطرق، التى أصبحت غير ممهدة، بسبب الإهمال الذى طال الجنوب لسنوات، لكن الحكومة تتعهد بإصلاح جميع هذه المخلفات، حتى تعود جوبا محورا للتجارة بشرق أفريقيا، ومعبر القاهرة والخرطوم إلى دول شرق أفريقيا ومنها إلى باقى الدول الافريقية، فضلا عن تعهد المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، بمساعدة حكومة الجنوب على إعادة تأهيل الطرق.

«العاصمة الجديدة لدولة جنوب السودان» هو الاسم الذى اتفقت السلطات الحكومية على إطلاقه على العاصمة بدلا من «جوبا»، إلا أن هذه السلطات تشعر بخيبة أملها بعد الاستقلال عن شمال السودان، بسبب سيطرة القبائل على الأراضى، خاصة قبيلة الدنكا، والتى ترفض التنازل عن الأراضى لصالح الحكومة، لبناء مؤسسات الدولة.

   فى العاصمة الحالية لدولة جنوب السودان، جوبا، لا توجد معالم واضحة للدولة سوى ساحة الاستقلال، التى تم من خلالها إعلان استقلال الجنوب، وإنزال علم السودان الشمالى، ورفع علم دولة الجنوب بدلا منه، أمام قبر وتمثال قائد الحركة الشعبية وتحرير جنوب السودان، جون قرانق، فيما تختفى أى آثار أخرى للعاصمة من المدينة، ولا يظهر منها سوى بناية بسيطة تمثل القصر الجمهورى، وأخرى لرئاسة الوزراء، تضم معظم الوزارات الخدمية والسياسية.

 وداخل مبنى رئاسة الوزراء، وضعت الحكومة مجسما للعاصمة الجديدة التى تسعى لإقامتها، أشبه بالمدن العالمية، التى تضم جميع المرافق والخدمات والمجمعات السكنية والحكومية والترفيهية، وهو الحلم الذى تعيق تنفيذه سيطرة القبائل المحلية على الأراضى، فضلا عن بعد هذه المنطقة عن مجرى النيل بأكثر من 40 كيلومترا مما يصعب نقل المياه إليها، ويرفع تكلفتها.

يقول مسئول فى وزارة الطرق بحكومة جنوب السودان، إن مشروع دولة الجنوب لتنفيذ العاصمة الجديدة، قد يكلف الحكومة 200 مليار جنيه، لكن مخطط الحكومة يقضى بالانتقال إليها بعد 10 سنوات، لكن الكثير من أهالى جوبا يرون أن الانتقال لهذه العاصمة الجديدة، حلم صعب المنال، خاصة فى ظل دعوات الحكومة الحالية لتركيز الاستثمارات فى جوبا، ومحاولاتها اقناع القبائل، بتخصيص الأراضى للشركات والمستثمرين.

فى جوبا، وسيلة المواصلات الرئيسية هى دراجة نارية تسمى «البودا بودا»، وهى كلمة أوغندية تعنى الطائرة والسريعة، وباستخدامها يقضى سكان جوبا أعمالهم اليومية، بداية من التسوق والتنزه إلى التوجه للعمل، فهى وسيلة المواصلات الأولى التى تعرفها جوبا، والأسرع والأرخص، قبل أن تدخل البلدية عددا محدودا من سيارات الأجرة فى شوارع جوبا، منذ بضعة أشهر، ورغم أن «البودا بودا» هى الوسيلة الأكثر شعبية إلا أن الكثير من المطالب ترددت فى جوبا، خلال الأشهر الماضية، بتقنين أوضاع سائقيها، بعد تكرار الحوادث التى يرتكبونها، لدرجة تخصيص عنبر داخل مستشفى جوبا العام لضحايا البودا بودا.

ورغم موافقة معظم سكان جوبا لمحاولات السلطة منع سائقى البودا بودا من ممارسة عملهم، بسبب كثرة الحوادث التى يتسببون فيها، إلا أنهم يعترفون باستحالة وقف الاعتماد على هذه الوسيلة الحيوية، دون أن يمانعون فى وقف سيرها بالشارع المطل على القصر الجمهورى، وشارع المطار، حتى لا تصطدم بالسيارات الرسمية المارة فى الشوارع.

ويوضح أحد سائقى البودا بودا أنهم عرفوا هذه الطريقة الأسرع للتنقل، منذ استقرار الأمور وهدوء الصراعات التى خلفتها الحرب الأهلية، وتحديدا فى بداية عام 2004، مع بدء مفاوضات السلام، حيث بدأ المواطنون فى شراء البودا بودا من الحدود الأوغندية، واستخدامها بشكل فردى فى عمليات التنقل، ومع اقتراب عمر الدولة من العامين، بدأت وسائل المواصلات العامة فى الظهور على استحياء بشوارع المدينة العمومية والممهدة فقط، حيث اتفقت السلطة المحلية لولاية الاستوائية على جلب أتوبيسات الأجرة منذ 3 أشهر فقط، تمهيدا لربط أحياء المدينة بشبكة مواصلات آمنة.

 ومن المفارقات فى دولة جنوب السودان، أنها تضم 6 روافد للأنهار، بالإضافة إلى أمطار لا تنقطع طوال العام، وأطول نهر يشق أراضيها، ومخزون هائل من المياه الجوفية، ورغم ذلك ما زال المواطن الجنوبى يعانى نقصا شديدا فى المياه، مع افتقاد مصدر آمن لمياه شرب نقية، فحتى الآن يعتمد المواطنون على عربات وصهاريج عمومية للمياه، فيما يتجول المواطنون فى الشوارع بجراكن صفراء، فى انتظار تعبئتها بالمياه غير النظيفة، واستعمالها فى الأغراض المنزلية والشرب، حتى أصبحت مهنة بيع المياه مصدرا رئيسيا للحياة بالنسبة لسكان جوبا، حيث يأتون بها من النيل مباشرة إلى المنازل، دون تنقية أو معالجة. ومن جهتها، حاولت السلطات المحلية فى مدينة جوبا عقب الانفصال، إقامة محطات معالجة بدائية لمياه النيل، ونقلها فى عربات المياه ليتم صبها فى خزانات على أسقف المنازل والبنايات الحكومية، وبيعها بأسعار رمزية، وتقول إحدى السيدات بحى الملكية فى جوبا إن «مشكلة المياه أكبر المشكلات اليومية التى يعيشها سكان جوبا، بسبب تهالك شبكات المياه».

 ولم تقدم أى من الدراسات الاقتصادية الدولية، رقما حقيقا عن الحالة الاقتصادية فى جنوب السودان حاليا، فلا توجد أرقام رسمية محددة توفرها الدولة عن حجم إيراداتها أو مصروفاتها، أو حجم التعاملات التجارية بها، لكن المشهد المتكرر فى أسواق وشوارع جوبا، هو «الكساد التجاري»، والشكوى من سوء الأوضاع الاقتصادية، وهى شكاوى تكررت على لسان معظم التجار الذين التقتهم «الشروق» فى سوق كونا كونا بوسط جوبا، فأمام مجموعة من الفواكه الطازجة، من الأناناس والبرتقال والتفاح والأفوكادو، تقف البائعة الأوغندية كاكوزان لتتجادل مع المشترين القلائل المترددين على السوق، رغم كونها الأكبر فى جوبا.

  تأتى كاكوزان ببضاعتها من التفاح والبرتقال من مصر، والموز والافوكادو والأناناس والباذنجان من أوغندا، حيث توقفت عن استراد السلع من شمال السودان، بعد أن أغلقت حدودها مع الجنوب، بسبب الخلافات السياسية حول ترسيم الحدود واتفاقيات النفط، وهو ما تسبب فى ارتفاع الأسعار، ورغم خصوبة الأراضى فى دولة الجنوب، إلا أنها لم تستطع تحقيق الاكتفاء الذاتى من السلع الرئيسية بعد الانفصال، رغم استقرار الأحوال المعيشية بعد انتهاء الحرب.

 ووفقا لعدد من التقارير الدولية، فأن جوبا تأتى فى المرتبة الرابعة عشرة ضمن أكثر عواصم العالم ارتفاعا فى تكاليف المعيشة والخدمات، فيما يسيطر على حركة التجارة فى المدينة آلاف الأوغنديين والكينيين والإثيوبيين، الذين أتوا إليها عقب الانفصال عن شمال السودان.  وفى سوق كونا كونا، تختفى تماما أية سلع محلية، فجميعها مستوردة من الخارج، لأن دولة الجنوب لم تبدأ حتى الآن فى خطوات لتصنيع المنتجات الغذائية أو زراعتها، عدا السلعة الوحيدة المصنعة داخل أراضى جنوب السودان «المريسة»، وهى نوع محلى الصنع من الخمور.

 من جهته، وجه المستثمر الأكبر والأشهر فى جنوب السودان، أمين عكاشة، رسالة إلى رجال الأعمال المصريين، قال فيها «هذه البلاد آمنة ومستقرة، وبها تسامح دينى، وتفتح أراضيها للجميع، كما توجد عشرات الفرص الاستثمارية فى أراضى الجنوب الغنية بالعديد من الموارد».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل