المحتوى الرئيسى

الانتحار.. بمصر! | المصري اليوم، أخبار اليوم من مصر

03/21 15:43

تنجرف مصر، يوماً بعد يوم، تتدحرج فى هاوية بلا نقطة سقوط، ما ينبئ بأن النهاية ستكون مروِّعة، لن يكون بإمكان أحد أن يحصى الخسائر. وواهم من يعتقد أنه يمكن أن يتفرج على عملية السقوط وأن يحمى نفسه منها، ذلك أننا- جميعاً- بلا استثناء، معلَّقون بمصير مصر، بحيث لا يمكن أن نفصل بين مستقبلنا ومستقبلها.

إن أخطر ما تعانى منه مصر الآن هو أن الجميع يعرف أنها بدأت طريق السقوط، بينما الكل يتفرج ولا يطرح حلولاً ولا يريد أن يقترب من فوهة البركان، خشية التحديق فيه. والأخطر هو أن من بيدهم زمام الأمور لا يكتفون فقط بعدم قدرتهم على اتخاذ القرار الصائب، بل يتخذون القرار الخطأ، إنهم يختارون من بين كل الاحتمالات أسوأها وأبعدها عن تصور أى عاقل. من سوء الحظ أن صانع القرار، فيما عليه أن يجد حلاً لأزمة، فإنه يتخذ قراراً يضاعفها، الأمر الذى يثير علامات استفهام حول ما إذا كان هذا متعمداً.

ويمكن القول، باطمئنان، إن نصف مشكلات مصر الاقتصادية ستجد حلاً حين تتحدد الوجهة، وهو ما لم يتقرر بعد، فلم يزل هناك اضطراب وتناقض بين التوجهات التى يقترح صندوق النقد الدولى تطبيقها وبين الإصرار على سياسات اقتصادية ذات أهداف انتخابية تعلم الحكومه أنها لن تقود إلا لمزيد من تكريس الأزمة.

ويرتبط بهذا الارتباك عدم وضوح الرؤية بشأن المنهج والسياسات الاقتصادية، بشأن المستقبل كله، فى الوقت الذى انجرفت فيه السلطة نحو سياسات انتقامية ليس لها أهداف سوى تحقيق انتصارات وهمية على أشخاص بلا حول ولا قوة.

والوقت يمر، بينما الاحتياطى الاستراتيجى للنقد الأجنبى آخذ فى النفاد، مع زيادة الاحتياج الدائم لتمويل الواردات الضرورية. وبغض النظر عن المفاوضات مع صندوق النقد الدولى، حول القرض الذى لن يكون حلاً دائماً، فإن من الواجب على الحكومة أن تحدد موقفها من كل المستثمرين، بحيث تقف منهم على مسافة واحدة، وفق قواعد قانونية مقبولة ومحفزة، ومناخ يشجع ولا يتربص.

إن الأولوية يجب أن تُعطَى للمستثمر المصرى، الذى لن يحمل أرضه ومصانعه على كتفه، ثم يهرّبها بليل. وبحكم الوقائع فإن من خرجوا من مصر هم الذين وقع، فى يقينهم، أن هناك إجراءات ستلاحقهم لأسباب سياسية أو دينية، ولو أنهم شعروا بالأمن والعدالة لما فكر واحد منهم فى ترك وطنه. والأولوية، بعد ذلك، للمستثمرين العرب، الذين يفضلون الاستثمار فى مصر لأسباب تتعلق بالجغرافيا والمشترك الثقافى واللغة الواحدة، فى حين يريد الأجانب اغتنام فرص لابد أن نوفرها لهم، فما الذى يدفعهم لتمويل المشروعات فى مصر إذا لم يجدوا قيمة مضافة وفرصاً تحقق لهم الأرباح.

منذ يومين، أصدر النائب العام قراراً بالتحفظ على أموال ٢١ مصرياً، بينهم عدد من كبار المستثمرين والاقتصاديين، المصريين والعرب، الذين يمكن لأى متابع أن يلمس منجزاتهم الاستثمارية فى مصر، وقيمة وجودهم فى سوقها، والمصداقية التى يمنحونها لها نتيجة بقائهم بالداخل، حتى فى ظل مناخ الفوضى وتضارب القرارات وعدم وضوح السياسات العامة وانعدام الرؤية المعلنة من الحكومة، وارتعاش أيدى البيروقراطية فى مختلف المصالح والهيئات، فلا يمكن لأى موظف، كبر أو صغر، أن يتخذ قراراً خشية أن يتعرض للمحاسبة.

لاأحد يطالب بوقف التحقيق فى قضايا الفساد، ولا أحد يمكنه أن يرفض الشفافية فى أى سوق، العكس هو الصحيح، لأن محاصرة الفساد- فى أى دولة- تمكّن المستثمرين من أن يحصلوا على حقوقهم بعدالة، بحيث يخوضون منافسة شريفة بدلاً من أن يكونوا عرضة لعمليات ابتزاز منظمة أو إجراءات ترهيب وضغوط.

ومن المؤسف أنه فى اللحظة التى تتدهور فيها أوضاع مصر، بحيث لا يخلو موقع فيها من طابور يعبر عن أزمة، أو معركة يتصارع فيها المواطنون على رغيف العيش، وبينما تلهث الحكومة وراء قرض صندوق النقد الدولى، تصدر قرارات عشوائية تدفع بالوطن كله فى طريق اللاعودة.. إن هذا هو أبسط ما يمكن أن نصف به قرار فرض حظر التعامل فى حسابات ٢١ مستثمراً، مع كامل احترامنا لاستعجال عرض القرار على القاضى المختص بالأمس، وهو ما لايحدث- عادة- فى تلك الوقائع.

لقد انهارت البورصة، والاقتصاد معها، بمثل هذا النوع من القرارات غير المدروسة التى تسعى- فى الظاهر- لمكافحة الفساد، بينما هى تهدر عشرات من الفرص يمكن أن يستفيد منها الفقراء والمحتاجون فى بلد تنتظره ثورة جياع. والمشكلة أن هذه التصرفات تتحول إلى عنوان للمرحلة. وتنتشر بين الكثيرين، حتى إن الجميع، صغاراً وكباراً، يتبارون فى اتخاذ القرارات المماثلة. والحاصل أن مزاداً يُعقد كل يوم على من يمكنه أن يذهب بمصر، بسرعة أكبر، نحو الهاوية.

وهكذا، يتطوع مسؤولون، ليسوا أصحاب قرار كبير، فى أجهزة أمنية أو قانونية، ليصدروا قرارات تعوق حرية هذا وتُعقِّد حياة ذاك وتمنع هذا من السفر وتعطل تصرفات هذا مالياً، وتمتلئ قوائم الملاحقَين، ويشيع التوتر، ومن ثم يبدأ الجميع فى إعادة حساباته، لكى يحمى نفسه من الركود.

أين تكمن العلة؟ وهل من حل؟

هذا السؤال يطارد كل المصريين الآن، وإن كانت الدقة توجب أن نقول إن المصريين بدأوا فى تجاهل الشطر الأول من السؤال، بعد أن علَّقوا الأزمة كلها فى رقبة جماعة الإخوان. وقد يكون هذا صحيحاً، لأن الجماعة تحكم مصر الآن، وإن كان هذا لا ينفى كذلك أن هناك أسباباً أخرى للأزمة يتحملها آخرون.

السبب الأول فى هذه الكارثة، التى تعلن عن نفسها بوضوح، هو أننا نعطى ظهرنا للقبلة ثم نشرع فى الصلاة. والقصد أن التوجه الاقتصادى لابد أن يكون سليماً وصائباً قبل أن نبدأ العمل. والوجهة التى يُولِّى صناع السياسة الآن وجههم شطرها تتعلق بالانشغال بشخصين أو ثلاثة تقرر الانتقام منهم، ولكى نبرهن على أنه لا يوجد تربص بهم، دون غيرهم، لا بد من فتح الدوائر، لكى يشمل الانتقام غيرهم، وهكذا تتسع الدائرة، فى كل مرة، وصولاً إلى الانتقام من الجميع.

الكل، إخواناً وفلولاً وسلفيين ومسيحيين، يعيشون فى هذا البلد، والأزمة لن تصيب جماعة دون أخرى، الشعب كله سيعانى.. ومن ثم فإن تلك الانتقائية فى التعامل، والتربص، وعدم وجود ثقة فى المستثمرين.. كل ذلك- كله على بعضه- سيؤدى بنا، إن يكن قد أدى، إلى نفق مظلم.

لا تهدف هذه السطورإلى تعليق المسؤولية فى رقبة هذا أو ذاك.. المسؤول معروف، الهدف هو أن نضع أيدينا على موطن الداء.. ما الذى أوصلنا هكذا إلى الحافة، حيث تجرى الآن عملية انتحار جماعى؟ إن البعض يتصرف وكأنه يسيطر على كل شىء: وزن جسده، سرعة الرياح، مقاومة الجاذبية الأرضية، والمفارقة فى توهمه أنه إذا سقط فى الهاوية يمكنه أن يبدأ من جديد.

هنا مربط الفرس.. الثقة المفرطة لدى سلطة لا تتمتع بقدر كاف من الخبرة، أو الرؤية، ولا الكفاءات، بينما تعتقد أن كل شىء تحت السيطرة، وتعطى انطباعاً باللامبالاة والاستخفاف بما يجرى حولها.

وقد يكون من المقبول أن يعطى المسؤول انطباعاً بالثقة، وهذا ما يفعله الإخوان مع كل من يناقشهم، لكن هذه الثقة تحولت- بمرور الوقت- إلى طبقة شمعية تعكس أمراً من اثنين: إما أن الإخوان لا يشعرون بحقيقة ما يجرى حولهم، أو أنهم يظنون أنهم- بهذه المظاهر الخادعة- يمنعون معارضيهم من أن يوجهوا إليهم ضربات سياسية قوية، فى إطار الصراع السياسى الطاحن.

هذه الطبقه الشمعية، التى تفصل الجماعة وبقية فئات السلطة عن الآخرين، تنقلنا إلى الجانب الأهم فى الكارثة؛ أن أصل الأزمة سياسى قبل أن يكون اقتصادياً، وأن الأزمة برمتها أزمة رؤية وإرادة.

لكى ندفع مصر بعيداً عن الحافة، لابد أن تقتنع السلطة بأن كل تصوراتها عن احتكار مقدرات الوطن لن يتحقق منها أى شىء. وإذا كان هناك من يعتبر السياسة رقصة «التانجو» لابد لها من راقصين يؤديانها.. فإننا سنستخدم اللغة التى تستطيع جماعة الإخوان أن تفهمها.. ونقول إن السياسة (بيع وشراء).. ولكى تبيع وتشترى يجب أن تكون السوق حرة بلا قيود وغير خاضعة للتهديد ولا توزع فيها بضائع فاسدة أو منتهية الصلاحية، كما لا يمكن أن تفرض فيها الصفقات على الحاضرين بالإجبار.

الحل السياسى يستوجب أن يؤمن أهل السلطة بوجود أطراف أخرى لها حقوق مختلفة، وأن الله لم يميِّز الإخوان عن غيرهم حتى لا يسمعوهم ولا يبدوا اهتماماً بهم. إن أحد أهم أسباب العنف الحالى فى شوارع مختلف المحافظات هو أن السلطة لا تريد أن تستوعب حقائق هتاف الناس وغضبهم، فإذا كانت لا تريد أن تسمعهم فإنهم يجبرونها على أن تتألم لكى تعترف بوجودهم. نقول هذا دون أن نحمَّل أحداً مسؤولية العنف.. أو نقول إنه يمنحه غطاءً شرعياً.. بل نقول فقط إن الرأى العام حين لم يجد هناك إنصاتاً من السلطة للمعارضة التى تعبِّر عن بعض فئاته قرر أن يعبر عن غضبه بطريقته.

وبخلاف الحل السياسى فإن الاستعانة بمنابع الأفكار، والأشخاص الذين يملكونها، ولديهم الرؤية القادرة على تطبيقها، سوف تكون مفيدة، وتفتح أفقاً خلاقاً أمام سلطة تقول إنها تريد أن ترى تعاوناً من الآخرين وأن يساعدوها بالأفكار.

كمثال، فإن الأستاذ حسن هيكل، وهو مستثمر معروف محلياً وإقليمياً ودولياً، كان قد قدم رؤى مختلفة لأفكار تؤدى إلى تنشيط الاقتصاد وبث الحيوية فى شرايينه.. وقد قرأنا له مطالبته بـ (حقنة عدالة اجتماعية) تتمثل فى بدل بطالة قيمته ٣٠٠ جنيه شهرياً لـ٦ملايين عاطل، وتحفيز العاطل إذا دخل أحد المعاهد خلال فترة البطالة برفع المبلغ إلى ٤٠٠ جنيه شهرياً.. وتوفير بدل تضخم لنحو ١٢ مليون عائلة مصرية بحوالى ١٥٠ جنيهاً شهرياً، ورفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات بما يمكن أن يحمى المجتمع من ثورة جياع.

ولابد أن هذه الأموال حين تُضخ سوف تؤدى إلى تنشيط السوق على السلع المصرية والمنتجات المختلفة، ويمكن تمويلها من رفع سعر الغاز تصديراً بقدر المستطاع، ورفع سعر الغاز على الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة، ووقف الهدر فيما يعرف باسم «دعم الطاقة»، وتوزيع الأنابيب بالرقم القومى، وتحويل محطات الكهرباء لاستخدام الغاز وتصدير المازوت عوضاً عن ذلك، ورفع أسعارالكهرباء على الصناعات كثيفة الاستخدام، وتوزيع الدعم عن طريق هيئة البريد فى الأساس، حيث يوجد بها ما يزيد على ٢٠ مليون مودع، عبر دعم فروع الهيئة بالتجهيزات التكنولوجية اللازمة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل