المحتوى الرئيسى

د/ ناجح إبراهيم : دعاة الهداية .. ودعاة الهلاك

03/01 13:06

     انطلق الطفيل بن عمرو الدوسي (رضي الله عنه)  ليدعو قومه بعد أن أسلم .. حاول دعوتهم مرارا ً دون جدوى.. استعصي عليه قومه .. تألم لإعراضهم فكيف يردوا دعوة سيدهم وإمامهم.. هذه أول مرة يقابلونه فيها بالصدود والنكير .. غضب منهم وحنق عليهم ويأس من دعوتهم.. انطلق إلي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ليقول له: " يا رسول الله ادع علي دوس فقد أبت الإسلام ورفضت دعوته " .

     لم ينفعل الرسول أو يزمجر أو يغضب أو يشتم أو يلعن .. تبسم بهدوء داعيا ً: " اللهم اهد دوسا ً وآت بهم " .. عاد إلي قومه فوجدهم قد أسلموا .. ما أجمل وأطيب الدعاء للناس .. وما أسوأ الدعوات عليهم أو لعنهم أو شتمتهم.

    وهذا أبو هريرة يحب الرسول (صلي الله عليه وسلم) حبا جما ً ولا يفارقه أبدا ً.. تاركا ً الدنيا كلها من أجله.. ولكن أمه تكره الرسول وتشتمه صباح مساء ً أمام ابنها.. يتمزق قلب أبي هريرة .. يعيش في صراع نفسي هائل بين الحب الفطري لأمه ولزوم برها .. وبين حبه الكبير لنبيه العظيم (صلي الله عليه وسلم) .. يحاول في أمه أن تؤمن دون جدوى.. يتوسل إليها أن تكف لسانها عن النبي الكريم دون فائدة.. لم يجد بدا ً من أن يحسم أمره لصالح نبيه ويدوس علي فطرته ومشاعره نحو أمه.. قال للرسول (صلي الله عليه وسلم): "يا رسول الله ادع علي أم أبي هريرة فقد أبت الإسلام ".

    لو كان أحد من دعاة اللعن والشتم والتفحش لخصص لها خطبة كاملة لشتمها وسبها وتقريعها .. فهي تشتم خاتم النبيين ورأس الدولة في الوقت نفسه.. أي الذي جمع رياسة الدنيا والدين .

    ولكن النبي الرحيم (صلي الله عليه وسلم) يبتسم كعادته داعيا :" اللهم اهد أم أبي هريرة " .. عاد إلي البيت ليجد أمه تغتسل وحدها وتنطق بالشهادتين.

     إنه الدعاء للناس لا الدعاء عليهم .. إنه حب هداية الخلق وليس الغضب والثأر للنفس .

    وهذه ثقيف رمز العناد والصلف والغرور لا تريد أن تسلم كما أسلمت كل القبائل بعد فتح مكة .. يحاصرها الصحابة دون جدوى .. تقتل ثقيف عددا ً من الصحابة في الحصار فهم ماهرون في النبل .

    حاول دعاة ثقيف إثناءها عن كبرها وغرورها فلم يفلحوا .. جاء عروة بن مسعود الثقفي سيدهم وكبيرهم وداعيتهم المخلص إلي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) حانقا ً غاضبا ً قائلا ً: " يا رسول الله ادع علي ثقيف " .. وكأنه يذكره (صلي الله عليه وسلم) بما فعلته ثقيف معه .. أو كأنه يقول له : ألا تذكر يا رسول الله أفعالهم الشنيعة معك .. سلطوا عليك سفهاءهم وصبيانهم يضربونك .. يشتمونك .. يرمونك بالحجارة .. يتطاولون عليك.

    ما زاد ذلك رسول الله إلا تبسما ً.. نطق الرءوف الرحيم بالناس : " اللهم اهد ثقيفا ً وآت بهم " أسلمت ثقيف وتمسكت بإسلامها حينما ارتد معظم العرب بعد وفاته (صلي الله عليه وسلم) .

    أما المرة الوحيدة التي قنت فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يدعو علي قوم حينما دعا علي رعل وذكوان الذين غدروا بأصحابه الدعاة المسالمين وقتلوهم .. كانت دعواته تنطلق من ألم قلبه وحزن نفسه.. ورغم ذلك عاتبه ربه علي ذلك.. وأمره ألا يدعو علي أحد في خطاب صريح " لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ".. توقف النبي العظيم عن الدعاء علي رعل وذكوان  .

    أدرك أن ربه ومولاه يريده رحمة للناس وداعيا ً لهم لا عليهم .. إنه يريده بابا للرحمة حتى للذين عذبوه وآذوه أو قتلوا أصحابه غدرا ً .. يريده أعلي درجة في النبوة والرسالة من درجة سيدنا نوح الذي دعا علي قومه بعد أن يأس منهم.. وكأنه يريد أن يقول له: إنني أريد أن أختم بك الرسالة.. وأن تكون آخر وأعظم وأعلي نهجا ً بالدعاء للناس لا الدعاء عليهم.. وهدي نبينا (صلي الله عليه وسلم) أعلي وأرفع وأشمل من هدي سيدنا نوح رغم مكانته وعظمته ورسالته.. ورغم أن سيدنا نوح من أولى العزم من الرسل لكن شرع نبينا هو أكمل الشرع .. وهديه ينسخ ما سواه.

     نريد أن ندعو للناس لا أن ندعو عليهم فهذه هي مهمة الدعاة أتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) .

      أما الذين يدعون في كل خطبة على كل فصائل الدنيا بأسرها فهؤلاء لم يتضلعوا بعد من هدي النبوة .. ولم تتشرب قلوبهم رحمتها ورقتها وسماحتها  .. وكأنهم يؤثرون هلاك الآخرين علي هدايتهم .. ويقدمون مصلحتهم علي مصلحة الدين.

    أعرف وأسمع كثيرا ً من يدعو علي قرابة4/3 سكان الكرة الأرضية في كل خطبة.. دون أن يفكر يوما ًماذا يفيده أو الإسلام لو دخل هؤلاء النار.

     وأعرف من يدعو بالانتقام الإلهي علي كل من يعارضه أو يؤذي فصيله.. ولم يفكر يوما ً كما تفكرت أن الله لن ينتقم من هؤلاء إلا بعد أن يمد لهم في الظلم والعسف والبغي " علينا طبعا ً " حتى يصبحوا مستحقين للإهلاك والانتقام..  

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل