المحتوى الرئيسى

انحطاط العواصف

02/28 09:24

نزلت لأصلى الجمعة الماضية وأنا متحير، فمن وراء زجاج نوافذ البيت رأيت ملامح العاصفة الترابية، جو ممتقع باصفرار، وأغصان الشجر القريب تنثنى بعنف وورقها يرتجف كأنه معلق فى نفق هوائى. وفى الشارع وضحت الصورة الترابية أكثر، زوابع وحوامات تدور وترتفع مُكتسحة الشوارع والمفارق والأرصفة، تضرب الواجهات وتصفع الوجوه، وكان علىّ أن أحسم أمر حيرتى، فأنا أحب الصلاة فى الهواء الطلق بين صفوف المصلين على السجاجيد المفروشة فوق الرصيف الملاصق للمسجد، وتحديدا تحت شجرة عتيقة تؤنسنى خضرة أوراقها، ومن بين الأغصان كلما رفعت وجهى بالدعاء أرى زرقة السماء فأحس بأننى أقرب ما أكون إلى الله، لكن الصلاة فى ظل هذه الشجرة وتحت السماء المفتوحة فى طقس عاصف وترابى، يمكن أن تحمل إلى صدرى وعينىّ ما لم أعد أحتمل مُقارفته، وفى الوقت نفسه كان الانضغاط تحت سقف المسجد المنخفض أسفل العمارة الكبيرة يشعرنى بأن خشوعى مخدوش بخنقة التزاحم وزعيق السماعات المتلاطم بين جدران المكان المقفول. ماذا قررت؟

  فضَّلت أن أصلى فى المكان الذى اعتدته فى ظل الشجرة وتحت السماء الحانية، مبررا تفضيلى بأن زوابع العاصفة الترابية تأتى فى هبات سرعان ما تختفى ويصفو الجو نسبيا، وأن هذا أهون من زنقة وضوضاء القبو المكتوم. وبينما كنت أصغى لحديث الخطيب الذى ينتقل إلينا نحن المصلين خارج المسجد عبر مكبر صوتٍ رفيقٍ بالأسماع، كانت زوابع الهواء المترب لا تترفق، تهب على فواصل زمنية وتُلقى علينا بورق وقش مما تُطيِّره من أرض الشوارع، فننحيه بعيدا عن سجاجيد الصلاة، لكن شيئا جديدا مُنفِّرا وجدته يعم الدنيا من حولنا، وجعلنى أتذكر بانزعاج أقصوصة شديدة الإيجاز نُشِرت فى كتابى الأول «الآتى» عام 1982، وكنت أعتز بشىء فيها يتجاوز القيمة الفنية التى اعتبرها النقاد والكُتَّاب الكبار حينها تجديدا فى مجال القصة العربية مع أخواتها الخمس عشرة شديدة الإيجاز، وحتى أوضح الفارق بين مناط الاعتزاز ودافع الانزعاج، أدعوكم لقراءة الأقصوصة:  

   شعرت بتبدلها إلى البرد، ثم سمعت الريح تصفر فى النوافذ، وأغصان الشجر، وتراب الشوارع.

   لحظة، وبدا أن كل شىء يختنق: عتمة صفراء شاملة غلَّفت كل شىء: الشمس، والأفق، والشوارع، والناس، والبيوت.

  إنها العاصفة الترابية، قالوا، وقالوا: لا يذهب بها إلا المطر، فأغلقت النافذة، ومن وراء الزجاج رحت أنتظر هطوله.

  قلت: هذا فألٌ حسن. فتحتُ النافذة وبسطت كفىّ للقطرات، كشأن فرحى القديم بالمطر، فرُوِّعت: إنها تُمطر طينا؟!

   (وأنا مشغولٌ بفزع الماء الأسود فى كفىّ، فاتنى أنها: حول الشمس، فى الأفق، فى فضاء الشوارع، وأمام واجهات البيوت، تصفو بطيئا بطيئا، لكنها باليقين.. إلى شروق).

انتهت الأقصوصة التى كان اعتزازى بها يكمن فيما يمكن اعتباره اكتشافا لقانون متعلق بالعواصف الترابية لدينا، وقد مكثت أراهن عليه لسنوات عديدة فأكسب الرهان، وهو التنبؤ بأن العاصفة الترابية حتما سيعقبها المطر فى غضون ساعات قليلة، وأن صفاء الجو قادم بتأثير المطر الذى سيهبط بالتراب والغبار إلى الأرض، فتغتسل الدنيا من أدرانها وتغدو أكثر نظافة وأنقى هواءً.

 استمر نجاحى فى التنبؤ المتفائل بالإشراق والنقاء بعد وعثاء العواصف الترابية أعواما، وإن كنت لاحظت فى السنوات العشر الأخيرة إخفاقا متعاقبا لذلك القانون وفشل تنبؤاته، فالعواصف الترابية المصرية لم يعد يعقبها سقوط المطر، وهى لم تعد قاصرة على موسم الخماسين، بل تحدث على مدار العام، ويكون علينا أن نعانى تنفس التراب مع الهواء وقتا قد يمتد إلى يومين أو ثلاثة بعد العاصفة حتى يهبط التراب والغبار العالق فى الجو على مهل. أما العاصفة الترابية فى الجمعة الفائتة والتى استمرت حتى السبت، فقد ظهر بها ما هو أفظع دلالة على أحوالنا العامة، ويقول الكثير والخطير إن تمت قراءته بالبصيرة التى يستحقها.

 إنها «عاصفة عفنية»، واعذرونى لقسوة التعبير، برغم مطابقته الحرفية لما رصدته وأحس به غيرى . فبعد عدة زوابع ترابية، انتشرت فى الجو رائحة عفونة غير متوقعة فى شوارع الحى الذى أسكنه. ولم يكن عصيا أن أتبين مصدر هذه الرائحة وآلية اجتياحها لشوارع الحى طوال ذلك اليوم، فتراكم الزبالة عند المفارق جاءته العاصفة الترابية ففضحت خباياه، نثرت مكونات تعفنه المزمن، وصارت جزيئات التراب العالقة فى الجو تحمل على متنها جزيئات العفونة وتتطوح بها مُنتشرة فى أرجاء حينا القائم فى قلب عاصمة المعز، وهو ليس فقيرا ولا عشوائيا، بل كان موضعا لسُكنى طليعة الاستنارة والرقى الثقافى المصرى، رفاعة الطهطاوى، أمين الرافعى، أحمد أمين، أحمد بهاء الدين، جمال حمدان . وللمفارقة يسكنه رئيس الوزراء الإخوانى الحالى الذى تُصرُّ على استمرار فشله جماعة الفشل الحاكم، وهو صاحب المقولة المَسْخَرة عن عدم نظافة أثداء الأمهات المُرضعات فى قرى الصعيد، وكأن هؤلاء الفقيرات يمشين على الأرض القذرة بأثدائهن ولا حول ولو قوة إلا بالله، ادعاء يعرف تفاهته كل طبيب عمل ولو لأسبوع واحد فى الريف المصرى، صعيدُه ودلتاه، فبؤس دنيا الفقراء كله، يأتى عند هذه البقعة من أجساد القرويات المرضعات ويتوقف، لتظل نظيفة طهور!

  ظاهرة فواح العفونة فى منطقة حضرية بقلب القاهرة، وقد باتت من مألوف الأمور فى الأحياء الفقيرة بالمدن وكثير من القرى، والتى تبدو للبعض عابرة، إنما تثير فزعى لإدراكى أنه ما من فساد معنوى خُلُقى أو اجتماعى أو سياسى، إلا ويُناظره فساد مادى تظهر أعراضه على وجه الطبيعة، وقد تعلمت ذلك قبل أن أتزود بالوعى البيئى العلمى، من قراءتى المبكرة للملاحم الإغريقية التى تعصف فيها الرياح السود أو يعربد البحر كخلفية درامية للجرائم والخطايا والسخائم التى تجرى على الأرض وفوق السحب! وتعلمته من قصص القرآن الكريم ذات الإيجاز المُعجِز، الذى أذكر منه قصة أصحاب الجنة فى سورة القلم: «إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم»، وكذلك ما حاق بقوم عاد فى سورة الحاقة : «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ». وصدق الله أعظم القائلين.

على الأغلب سيكابر أحدهم ليُعْزى لسكان الحى مسئولية الظاهرة بادعاء أنهم سمحوا بتراكم قمامة بيوتهم ومحالهم على النحو الذى تسبب فى انتشار رائحة العفونة مع هبوب العاصفة، والحقيقة أن سكان هذا الحى ومعظمهم متحضرون، لا يلقون ليلا بأكياس زبالتهم من الشبابيك، ولا يتركونها على الأرصفة، بل يدفعون للزبالة مرتين كمعظم المصريين، مرة للزبالين الذين يجمعون الزبالة من البيوت، ومرة على فواتير الكهرباء الباهظة، ولأن منظومة الإدارة زادت عشوائيتها، وليس للحكم الحالى فيها رأى ولا رؤية ولا هِمَّة، فإن الزبالة يأخذها الزبالون من غرف قمامة العمارات وصناديق المحلات ويُجمِّعونها عند المفارق لتُخليها سيارات «شركات النظافة» المُفترض حضورها دون تأخير، لكن هذه السيارات تتأخر كثيرا، ولعدة أيام فى نهاية الأسبوع، وبتكرار ذلك تكون فطريات العفن وبكتيريا التحلل قد فعلت بركام الزبالة فعلها، ونخرت عند المفارق بؤراً للعفونة تغذيها كل زبالة جديدة.

طبعا نتذكر وعود المائة يوم الأولى للرئيس الإخوانى، وكان حل مشكلة القمامة على رأسها، وقد ذهبت كلها أدراج رياح الحنث والإخلاف وانعدام الكفاءة لتستقر على تلال أكاذيب هذا الحكم، الذى وضح أن همه الأول هو التمكين للجماعة فى السلطة، لا التمكين للنظافة أو الحق أو العدل فى الوطن. ولو أن حكم الإخوان بذل قليلا من الجهد والاجتهاد فى حل مشكلة النظافة، مقارنة بجشعه واندفاعه فى تمرير تعييناته وقراراته السياسية التكويشية، لكان للنظافة شأن آخر، ولكان لنا فى الإخوان شيء من حُسن الظن.

رائحة ذلك العفن الذى كشفته عاصفة التراب، هى عينة صغيرة من رائحة كارثة يقودنا إليها هذا الحكم الغشيم الكتيم اللئيم، وبوادرها بادية فى ذلك الإصرار العنيد البليد على إجراء انتخابات معيبة تحت شروط معيبة وفى ظروف معيبة للإتيان ببرلمان لن يكون إلا معيبا، يقربهم من تسكين فجعة التمكين حينا، ويقرب مصر من لحظة الانفجار فى فوضى مديدة، أو الانحدار إلى هاوية الدولة الفاشلة، والتى لاعاصم منها بعد الله واستقلال وتماسك الجيش وما بقى من القضاء إلا الإصرار على أنه لن يصح إلا الصحيح، والصحيح يقتضى الرجوع عن كل الأباطيل التى قدَّمت لهذه الانتخابات الاحتيالية المُزمَعة، التى يحاول الإخوان تسويغها كذبا وتمريرها خداعا بتلك الدعوات الشكلية الفارغة لما يُسمَّى الحوار، فيما الحق «أبلج»! ولم يعد فى حاجة لأى حوار، خاصة عندما يجرى بين أناس حسنى النية وإدارة تُضمر الخداع والكذب وهى تلتقى هؤلاء الناس، فهى تُبدى حُسْن الاستماع فيما هى مُقرِّرة ألا تفعل غير ما دبَّرته سرا مع جماعتها السرية، وقد تكرر ذلك مرات ومرات بما يكفى لترسيخ أشد المرارة من هؤلاء المُخادعين.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل