المحتوى الرئيسى

رشدى سعيد وذلك الجيل الرائع من المثقفين المصريين

02/16 09:29

عندما سمعت منذ يومين ذلك الخبر المحزن بوفاه الدكتور رشدي سعيد بواشنطن، كان اول ما مرّ بذهني صوره وجهه البالغ الهزال التي رايتها في اخر زياره له للقاهره منذ ثلاث سنوات، قبل ان يشتد به المرض. كان مع ذلك كما عهدته منذ معرفتي به، دائم الابتسام والتفاؤل، محبا للحياه ولا يستسلم ابدا للمرض، كان لديه دائما مشروعا يريد تحقيقه ولا يسمح للموت او المرض ان يقفا حائلا دونه.

ثم سرعان ما قفزت الي ذهني صور متتاليه لذلك الجيل الرائع من المثقفين المصريين الذين فقدناهم، الواحد بعد الاخر، خلال العشر سنوات الماضيه. استطاع الدكتور رشدي سعيد ان يصمد حتي بلغ الثالثه والتسعين، ولم يخمد نشاطه الفكري والجسدي الا في السنتين الاخيرتين، ولكنهم كانوا مجتمعين يشكلون باقه بديعه من المثقفين، يصعب ان نتصور اجتماع مثلهم في وقت واحد في المستقبل. لابد انه كان عصرا ذهبيا ذلك الذي انتج امثال هؤلاء، واظن ان من المفيد ان نحاول اكتشاف ما الذي جعله فعلا عصرا ذهبيا، بالمقارنه بما حدث بعد ذلك.

ان كل الاسماء التي قفزت الي ذهني الي جوار اسم رشدي سعيد، ولد اصحابها في الخمسه او سته اعوام التاليه مباشره لثوره 1919. ولد خلالها، غير رشدي سعيد، عبدالعظيم انيس ومحمود العالم، اسماعيل صبري عبدالله وابرهيم سعد الدين، فؤاد زكريا واحمد بهاء الدين، سعيد النجار وزكي شافعي. لاشك ان من القراء من يستطيع ان يضيف الي هذه القائمه اسماء اخري رائعه، ولكن هؤلاء كان من حسن حظي اني عرفتهم كلهم عن قرب، ومن ثم استطيع ان اكتشف عن طريقهم ما الذي كان يميز هذا الجيل الذهبي من المثقفين المصريين.

ما الذي كان يجري في مصر في صباهم ومطلع شبابهم مما كان من الممكن ان ينتج ما كانوا يشتركون فيهم من صفات رائعه؟ تعلموا كلهم تعليما جيدا، وحصل معظمهم علي الدكتوراه من الخارج، ومن لم يسافر منهم للدراسه في الخارج كان في متناول يديه كل ما يسمح له بان يحصل ما حصله الاخرون من ثقافة غربية وشرقيه. كلهم كان لديه شعور قوي للغايه بالانتماء للوطن، ورغبه عارمه في استخدام ما حصله من ثقافه لخدمته، ويستهجنون بشده تصرفات من يرونه يكرس علمه او فنه لتكوين ثروه او الحصول علي منصب كبير. كانوا من تخصيصات مختلفه، ولكن كان كل منهم علي مستوي عال من الثقافه سواء كان تخصصه الاقتصاد (مثل سعيد النجار وزكي شافعي) او الاحصاء الرياضي (عبدالعظيم انيس)، او الفلسفه كـ(فؤاد زكريا ومحمود العالم) او الاداره العامه كـ(ابراهيم سعد الدين) او القانون او الصحافه كـ(احمد بهاء الدين) او الجيولوجيا كـ(رشدي سعيد). لماذا كانت الثقافه الموسوعيه ممكنه ومطلوبه في ذلك العصر اكثر منها الان؟

كانوا كلهم يجيدون لغه اجنبيه (الانجليزيه او الفرنسيه او كلتيهما) اجاده تامه، لكنهم كانوا ايضا (وياللغرابه!) يجيدون اللغة العربية ايضا فلماذا كانت اجاده اللغه الاجنبيه مطلوبه لذاتها في ذلك الوقت (وليس لمجرد العثور علي وظيفه في شركه اجنبيه)، وكان الضعف في اللغه العربيه شيئا مستهجنا ومحتقرا (وليس اعلانا في التفرنج او الانتماء الي طبقه اعلي)؟

كان مستوي التعليم (لمن كانت لديه الفرصه لتلقيه) مستوي راقيا حتي بالمقارنه بالتعليم في ارقي الدول الاوروبيه، يختلط فيه احترام التراث العربي والاسلامي، باحترام منجزات الحضاره الغربيه، ويغرس في التلاميذ احترام اسماء مثل إمرئ القيس والنابغه الذبياني والمتنبي، الي جانب اسماء شكسبير وفولتير وجان جاك روستو. ولم يبد ان هناك اي تعارض بين احترام الثقافتين، ومن ثم لم تبد اي صعوبه في الجمع بينهما.

في هذا المناخ الرائع نشا رشدي سعيد. لم يكن غريبا اذن ان رشدي سعيد، بعد ان حصل علي الدكتوراه في الجيولوجيا من جامعه هارفارد في 1950، وعاد مدرسا في كليه العلوم، وبعد ان كان يلقي محاضراته في الجيولوجيا بالإنجليزية حتي 1955، انشغل بتعريب محاضراته، فاعاد كتابتها بالعربية بتشجيع من وزير التعليم في ذلك الوقت (كمال الدين حسين)، الذي كان يؤمن بضروره تقريب تدريس العلوم. فكانت هذه اول محاوله لتعريب الجيولوجيا في مصر. ثم انشغل رشدي سعيد بعدها بكتابه (جيولوجية مصر) الذي اصبح مرجعا مهما في هذا العلم وترجم الي عده لغات.

في سنه 1968 قام عبدالناصر بتعيين رشدي سعيد رئيسا لمؤسسه التعدين والابحاث الجيولوجيه، وكانت هذه المؤسسه تشرف علي تسع شركات للتعدين كان معظمها في حالة يرثي لها عندما  تسلمها رشدي سعيد في اعقاب هزيمه 1967. «فقد ادي احتلال اسرائيل لسيناء الي ان تفقد الجزء الأكبر من مناجمها، والي ان يجبر اكثر من ثلاثين الف عامل ممن كانوا يعملون (بهذه المناجم) علي العوده. كان الجو كئيبا حقا. مؤسسه انهارت معظم مقوماتها الماديه، وعاملون في حاله اكتئاب، وشكوي مستمره، دون ان يجدوا احدا ليهتم بهم او يستمع اليهم».

بدا رشدي سعيد في اصلاح كل هذا، طوال عشر سنوات. لكن اماله اصيبت بضربه قاصمه في اوائل السبعينيات، واخذت اثارها في التفاقم حتي اضطرت رشدي سعيد الي تقديم استقالته في سنه 1977، الي وزير الصناعة، فقبلها في الحال، وبعوده البريد، وحتي قبل ان يرفعها الوزير الي رئيس الوزراء كما كانت تقضي القوانين. يفسر رشدي سعيد هذا في سيرته الذاتيه بقوله: «جاء وزير تحت ضغط رجال المقاولات (الذين) كانوا اكبر المستفيدين من نقل المشروع، والذي ما كاد يخرج من اشرافنا حتي ارتفعت علي ارضه المباني الشاهقه.. وفي خلال هذه السنوات الاثنتين والعشرين حتي 1996 انفق ما يزيد علي سبعه مليارات من الجنيهات بُعثرت علي المقاولين وبيوت الخبره الاجنبيه التي جيء بها من كل اركان الارض وانتهت باغلاقه».

بعد استقالته باربع سنوات، كان رشدي سعيد واحدا من 1536 شخصا وطنيا اخر، امر الرئيس السادات باعتقالهم في 1981، ولكن كان رشدي سعيد لحسن الحظ في خارج مصر وقت صدور القرار باعتقاله.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل