المحتوى الرئيسى

إلياس خوري يكتب.. عن قرية اسمها "باب الشمس"

01/16 17:06

الكتابه عن قريه باب الشمس، التي اسستها مجموعه من المناضلات والمناضلين الفلسطينيين شرق القـــدس، في عمل احتجاجي لا سابق له علي الاستيطان الاسرائيلي الوحشي الزاحف، مسألة بالغه الصعوبه بالنسبه لي؛ فالي جانب العصف العاطفي الذي اجتاحني، بوصفي مؤلفا للروايه، فان وجع الذاكره اخذني الي وجوه اصدقائي ورفاقي الذين سقطوا شهداء في طريقهم الي شمس الحريه في فلسطين.

في ثلاثه ايام وُلِدت القريه الفلسطينيه الرائده ومُحِيت من الوجود.. ثلاثه ايام من الابداع والخيال والنضال كانت كافيه كي تفتح في اعماقي جراح الامل، وتعطيني درسا في بلاغه الفعل الذي بدا كلمه وصار جرحا قبل ان يتجسّد في جغرافيه ارواحنا وجغرافيه المكان الفلسطيني.

قريه "باب الشمس" تشبه الروايه في قدرتها علي ان تكون مراه لا تعكس الواقع الا بوصفها محاوله لاعاده خلقه.. لا يكتفي الابداع الادبي او النضالي بتجسيد الواقع، بل هو ايضا رؤية لاعاده صوغه وتغييره، فكما يغيّر التاريخ الادب يستطيع الادب ايضا ان يساهم في تغيير التاريخ.

ما صنعه المناضلات والمناضلون حين اسسوا قريتهم/ قريتنا كان ابداعا؛ لانه بني رؤيه جديده لقيم العداله والحق التي هي جوهر المساله الفلسطينيه. وهم في هذا كانوا روادا لاحتمالات الأفق النضالي الفلسطيني، الذي يتشكّل اليوم من جديد علي ايقاع حركه الثورات العربية التي تجتاح المنطقه.

اكتب الان بوصفي قارئا، وليسمح لي اصدقائي من اهل قريه "باب الشمس"، الذين قبلوني مشكورين مواطنا في قريتهم التي هُدمت، ان اساهم في نقاش هذه التجربه؛ لانني رايت فيها ملامح احتمالات انعطاف في المسار النضالي الفلسطيني، قادر علي ان يشكّل اساسا لمواجهه التغوّل الاحتلالي الاسرائيلي، وبناء افق لحريه فلسطين.

تهديم باب الشمس ليس هو الجديد، فالقريه الوليده تنضم الي اكثر من 400 قريه فلسطينيه قام الاحتلال بتدميرها في حرب النكبه، كما تنضم الي احياء كامله تم جرفها بعد الإحتلال الإسرائيلي للضفه وغزه عام 1967.

القمع الذي واجهه اهل "باب الشمس" لا يقارَن بالمجازر الجماعيه التي ارتكبها ويرتكبها الاحتلال من عين الزيتون الي دير ياسين، ومن الطنطوره الي كفر قاسم، ومن شاتيلا وصبرا الي جنين وغزه... واذا كان جيش الاحتلال قد نجح اليوم في طرد اهالي "باب الشمس" من دون اللجوء الي القتل، فان الجيش الذي اشتهر خلال الانتفاضة الأولى بتكسير عظام الاطفال لن يتواني عن استخدام العنف في مواجهه الفلسطينيين في مرات مقبله.

الارض التي حاول اهالي باب الشمس تحريرها هي ارض مصادَره استولي عليها الاحتلال بالقوه، وهذا ليس جديدا، كل فلسطين ارض مصادره.. اراضي الضفه يستبيحها الجدار والمستوطنات، بينما لا تزال غزه تحت الحصار.. فلسطين ترزح تحت احتلال عنصري لا يرحم، والاسرائيليون الذين اسلموا قيادهم لاحزاب فاشيه وعنصريه يقيمون اليوم نظام تمييز عنصريا سوف يقودهم الي الهاويه.

الجديد في تجربه باب الشمس يتمثل في ثلاث مسائل:

الاولي هي اسلوبها الجديد، فبدل رد الفعل لجا المناضلات والمناضلون الفلسطينيون الي اخذ المبادره، وبدل الاحتجاج السلبي لجاوا الي الاحتجاج الايجابي.. بناه "باب الشمس" كانوا يعرفون انها ستُهدم، لكن اصرارهم علي بناء قريتهم الرائعه وسط صقيع يناير كان اعلانا بان انقاض الوطن الفلسطيني قادره علي ان تلتحم من جديد، "باب الشمس" اسم رمزي لكل القري المهدمه.. كل القري والمدن صارت اليوم مرشحه كي يبنيها اهلها واصحابها من جديد.

الثانيه هي ان هذا الاسلوب الجديد يعكس مناخات استعاده روحيه النضال بعد الجدب الذي صاحب انطفاء الانتفاضة الثانية، اي ان تغيير الاساليب ليس مساله شكليه، بل هو تعبير عن نضج ثقافي وسياسي.. لا يستطيع الباحث ان يفهم الثوره الفلسطينيه الحديثه من دون ادب غسان كنفاني ومحمود درويش واميل حبيبي، او من دون فكر ادوارد سعيد وعمل المؤرخين والباحثين الفلسطينيين كوليد الخالدي.. لذا فان استعاده الروح النضاليه عبر اللجوء الي الادب في هذه التجربه الجديده، هي مساله جوهريه، وهي رغم استلهامها روايه "باب الشمس"، لكنها حصاد عمل اجيال من المثقفين والمناضلين الفلسطينيين والعرب.

الثالثه هي ان النضال السلمي الذي سيشكّل بوصله العمليه النضاليه في فلسطين اليوم، ليس نقيضا او بديلا لاشكال النضال الاخري.. لا نريد ان ننتقل من تقديس احاديه البندقيه ورفض كل الاشكال الاخري، الي تقديس النضال السلمي.. النضال السلمي هو الشكل الملائم اليوم، لكنه لا ينسخ الاشكال الاخري، بل يكملها وقد يصل في مرحله لاحقه الي استخدام بعضها.

اعتقد ان قريه باب الشمس فتحت الافق النضالي في الضفه الغربيه، نحن علي عتبه مرحله جديده وبشائر انتفاضه فلسطينيه ثالثه، لكن هذه الانتفاضه يجب الا تكون منفصله عن غزه او الشتات او فلسطينيي 48. انها اطار لاستعاده اللحمه الوطنيه الفلسطينيه التي فُقدت تدريجيا بعد اوسلو، وهي استعاده تصنعها القاعده الشعبيه، وجيل جديد من المناضلات والمناضلين ان له ان يحتل مقدمه المسرح السياسي.

قيل الكثير عن ركود فلسطيني مقارنه بالثورات العربيه، غزه في صمودها وباب الشمس في دلالاتها جاءتا لتبددا هذا الركود.. خيم باب الشمس كانت الوجه الاخر لخيم النازحين السوريين من عسف الاستبداد، كما كانت اشاره الي افق المخيمات الفلسطينيه التي عانت ما عانته من اليرموك الي تل الزعتر الي جنين الي نهر البارد.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل