المحتوى الرئيسى

صياغة هوية جديدة فى تركيا

12/09 09:56

 قال بدرى بايكام، الرسام والناشط السياسى والكاتب التركى البارز :«هناك سوائل ليست قابلة للمزج»، ولكنه لم يكن يتحدث عن الكيمياء؛ وإنما عن الفصل الذاتى الجامد بين الأتراك، ذوى الميول الغربية العلمانية مثله والمسلمين المحافظين الذين يديرون الآن تركيا.

تصنف اسطنبول، الآن ضمن أكثر الدول عصرية؛ مدينة نهرية كبيرة، ذات مناظر متلألئة، ومآذن تشق عنان السماء، وطرقات متعرجة، تنبعث منها موسيقى شجية، وتقدم الحانات خصومات جماعية على مشروب الفودكا لفرق متجولة ممن يرتدون ملابس أنيقة. ويحظى البلد بإشادة دولية بسبب حيوية اقتصاده، وزيادة انخراطه فى شئون العالم، وقدرته على الجمع بين الديمقراطية، والمرأة الثوية، والإسلام. غير أن البلد، وهذه المدينة، تدور بهما معركة مريرة بين الأشقاء بشأن روحها معركة ثقافية غير عادية، حول ماهية أن تكون تركيا.

  وصارت المعركة التى اندلعت فى السياسة الوطنية، وايضا فى تفاصيل الحياة اليومية معركة أبيض وأسود بالمعنى الحرفى. فعلى جانب، هناك «الأتراك البيض» الذين يقدسون كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، ورسالته فى إعادة تشكيل تركيا فى صورة جمهورية أوروبية، علمانية، تخلصت من إرثها العثمانى. وعلى الجانب الآخر، هناك «الأتراك السود» وهم المسلمون المحافظون، الذين تم تهميشهم طوال عقود، فى أمة ذات غالبية مسلمة، وتم استبعادهم من النخبة التركية ـ حتى عام 2003، عندما أصبح واحد منهم رئيس وزراء شعبوى، وبدأ ما اعتبره العديد من الأتراك السود إعادة توازن صحى، واعتبره العديد من الأتراك البيض، سياسة الازدراء، أو ما هو أسوأ؛ الانتقام!

  وبينما يواصل رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان الضغط قدما، من أجل، إعادة صياغة الدستور، لمنح الرئاسة دورًا أكبر، ثم ربما يسعى لتوليها، يتساءل الأتراك البيض عما إذا كانت الشمس تغرب عن عالمهم. فهم يعيشون فيما لايزال أكثر المجتمعات انفتاحا فى العالم الإسلامى، وهم يسمعون أن ذلك المجتمع يوصف بأنه نموذج للمنطقة، ويستشعرون، أكثر فأكثر، على أساس واقعى أحيانا، وأحيانا أخرى بسبب جنون العظمة، أن هذا الانفتاح اسلوبهم فى الحياة بسبيله للاختفاء.

  وهم يقرأون ويسمعون، أن المدارس العامة، يجرى تحويلها إلى مدارس إسلامية؛ وعن حظر الكحوليات فى المهرجانات الموسيقية، وعن احتجاز الصحفيين والعسكريين الذين تجرأوا على التشكيك فى طموحات الحكومة، فى السجون لشهور وسنوات. ويلاحظون ارتفاع أسعار الضرائب على المشروبات الكحولية، وصعوبة الحصول عليها فى بعض الأماكن، لكنهم غير متأكدين مما إذا كان ذلك يحدث بشكل منهجى. أو ما إذا كانت شهوة السلطة لدى السيد أردوغان أقوى من تقواه وما إذا كان يشبه بوتين أكثر أو أحمدى نجاد.

  يعتبر البعث الإسلامى، بالنسبة لجوزدى كوشوك البالغة من العمر نحو عشرين عاما، والعلمانية التى درست فى جامعة برنستون، وتعمل فى مجال التمويل، وتمتلك أسرتها شركة «إليت» التركية لصناعة الشوكولاتة «ثورة مضادة» على أتاتورك، والمعنى الحقيقى للهوية التركية. وقالت، وهى جالسة فى شقة أسرتها المطلة على نهر البوسفور: «يشبه ذلك أن يأتى رئيس إلى الولايات المتحدة، ويقول لهم إنه لايوجد شىء اسمه الحلم الأمريكى».

   وترى أن الثيوقراطية الإيرانية هى نقطة الغليان، وهى واثقة من أن تركيا لن تذهب إلى هذا الحد. ولكن إلى أى مدى سوف تذهب؟ إلى حد إلغاء النبيذ من المطاعم؟ أو التضييق على ارتداء التنانير القصيرة فى الشارع؟ أو، تتساءل بحذر، إلى حد ألا يكون من الحكمة أن تصبح فنانا هنا، أو مثلى الجنس، أو أم عائلة تريد تعليم أطفالها، وليس تبشيرهم، فى المدرسة؟

  . وتقول إنها فى بلد صوت عدد وافر من المواطنين لصالح الحكومة الإسلامية، وحيث الملايين من المسلمين المتدينين، وكانت تستطيع إقامة حفل عيد ميلاد، وتدعو خمسين صديقا، لن يصبح لديها أحد لتدعوه.

  وتقول زينب ديريلى، وهى مذيعة تليفزيونية، وناشطة تدير مكتب تركيا لشركة أبكو، العالمية للعلاقات العامة «كان الأمر دائما إما الأبيض أو الأسود» وتضيف: «إما أن تكون علمانيا حتى النخاع، وهو ما يعنى أحيانًا، أن تكون منتميًا للدين على الإطلاق؛ أو أن تعتبر شخصا لا يستطيع العيش مع الديمقراطية.» وهى تعتقد أن الحكومة الحالية، لا تهتم أساسا بالانتقام، وإنما بجعل قيادة البلاد أكثر تعبيرا عن الجماهير على الرغم من أن هناك تلميحات،  كما تقول، من البعض الذى تحول إلى الشماتة.

  وتتحدث السيدة ديريلى عن الدين قائلة: « يقول الحزب الحاكم ‘هذا جزء من حياتنا، ونحن بحاجة للتمسك به، ولفهم كيفية العيش معه’ وأنا أؤمن بشدة أننا بحاجة للمرور بهذه الفترة الانتقالية. لأن العلمانية ضرورية، لإدارة الحكومة والمؤسسات، ولكن عندما تتعلق العلمانية بحياتك اليومية، لن يمكنك أن تطلب من الناس أن يسلكوا ذلك المسلك».

  ويقول عزت أجيلاد، وهو كاتب سيناريو ومخرج تليفزيونى، إنه رغم أن أصدقاءه بوجه عام ينتمون إلى الحكومة الإسلامية، وأن لديه تحفظاته الخاصة، إلا أنه يؤيد سعيها إلى إزالة ما سماه «كراهية الذات والموالاة للغرب» فى الماضى. وهو يرى أن تركيا تتحول إلى الوضع الطبيعى أكثر: «ساسة متدينون يمكن التقاط صور لهم مع زوجاتهم المرتديات غطاء للرأس فى وظائف حكومية؛ كما أن المجلات الاجتماعية تعرض صور كبار رجال الأعمال المتدينين، والعلمانيين بنفس القدر. وأحيانا ما يطلق على النخب الاستثمارية الجديدة النمور الأناضولية أو المليونيرات الخضر.

   وهو يرى أن هذه التغيرات يمكن أن تنتج تركيا أكثر صحة وأكثر تجذرا فى ثقافتها، ولكن عصرية ومنفتحة على العالم بدون حاجة للاعتذار. ويقول، ويتفق معه آخرون، إن نفوذ تركيا سوف ينمو ويستمر فى العالم الإسلامى، بسبب التوازن بين التمسك بالجذور والحداثة. وضرب أجيلاد المثل بالمسلسلات التركية، التى تحظى بشعبية كبيرة فى جميع أنحاء المنطقة. ويرى أن شعبيتها تنبع من أصالتها وتركيزها على الأسرة وإسلاميتها، فضلا عن كونها حداثية وتقدمية بما يكفى لتقديم، ما يجد فيه التونسيون أو السعوديون طموحهم.

وهكذا ترتبط مسألة النفوذ ارتباطًا وثيقًا بمسألة الهوية. فإذا كانت تركيا ستنضم إلى الاتحاد الاوروبى، وتتحول ثقافتها باتجاه الغرب إلى مدى بعيد، ربما تفقد نفوذها فى العالم الإسلامى. وبنفس المنطق، ربما يسفر المزيد من التحول إلى أمة إسلامية، عن حرمان تركيا مما كان مصدر إعجاب جيرانها منذ زمن طويل.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل