إنقاذ الدول المأزومة.. بتمزيقها
ان اردتم انقاذ دوله.. مزقوها..
نشرت صحيفه نيويورك تايمز قبل ايام قليله مقالا بعنوان «لانقاذ الكونغو، اتركوه ينفرط». لم يفاجئني العنوان فقد رايت مثله بالمعني نفسه يزين مقالات أمريكية واوروبيه عديده في السنوات والشهور الاخيره تدعو الي التدخل لتشجيع قوي الانفصال في دول كثيره علي اعلان استقلال اقاليمهم، ولدي كتاب هذه المقالات مبررات وحجج شتي.
الحجج الذائعه في الدعوه لانفراط الكونغو هي نفسها الحجج التي تتردد عند مناقشه الاحوال في معظم دول افريقيا، واهمها الحجه القائله بان تقسيم الاستعمار لافريقيا لم يراع التنوعات القبليه والدينيه والتاريخيه، ولم يراع الحدود الطبيعيه لكل قبيله علي حده ولم يلتفت الي واقع ان الحدود القبليه في افريقيا تتغير مع مواسم الجفاف والمطر.
كانت هذه الحجه معروفه ولكن مرفوض مناقشتها سياسيا واقليميا ودوليا خوفا من انفراط القارة الأفريقية وسقوط نظامها الاقليمي في فوضي هائله. كان القبول بالوضع القائم، اي بوضع «الدوله» المفروضه فرضا علي شعوبها، شرطا من شروط التوازن الدولي خلال الحرب الباردة، واستفادت منه الدول الاوروبيه التي استعمرت افريقيا لعصور طويله واستمرت تهيمن علي مواردها الطبيعيه بعد الاستقلال.
سمعنا عباره انفصال جنوب السودان في الوقت الذي كان السودانيون بقياده الحزب الاتحادي يستعدون للاحتفال بالاستقلال. وبالفعل بدات الحرب الأهلية بين حكومه السودان في الخرطوم وحركات الانفصال في الجنوب فور اعلان الاستقلال. حال دون تحقيق الانفراط وقتها المجتمع الدولي بقياده امريكا والإتحاد السوفييتي والدول الافريقيه التي بدات تستقل واحده بعد الاخري. ومما لاشك فيه ان مصر لعبت في ذلك الوقت دورا كبيرا في منع التقسيم لمصلحه خاصه بها.
كانت الكونغو الدوله الافريقيه الاخري التي حظيت وحدتها الاقليمية باهتمام فائق من المجتمع الدولي، فهي الاغني علي الاطلاق باعتبار انها تحوز علي اكثر من 30٪ من احتياطي الالماس في العالم ورصيد هائل من الكبريت والنحاس والذهب، وتنتج 70٪ من الكولتان الماده الحيويه في معظم الصناعات الالكترونيه، ورغم هذه الثروه تاتي الكونغو في ادني قائمه الامم المتحده للتنميه الانسانيه بسبب تدهور احوالها السياسيه والاجتماعيه والحروب الاهليه التي تمزقها. وعلي كل حال لم تعرف الكونغو الاستقرار منذ ان اعلن المكتشف الشهير هنري مورتون ستانلي ضمها الي امبراطوريه ليوبولد الثاني ملك البلجيك مرورا بعهود لومومبا وتشومبي وموبوتو سيسي سيكو وكابيلا الاب. وهي الان تعاني من غزو اجنبي تقوده جماعات تدعمها دوله افريقيه مجاوره ومن تمرد قوي داخليه تمولها شركات ودول غربية تتمسك باستمرار هيمنتها.
لذلك، وكما كان الظن ان دول الغرب وشركاته كانت وراء رفض اعاده تقسيم دول افريقيا لتنسجم الحدود السياسيه مع التكوينات القبليه، يسود الظن الان بان هذه الدول وشركاتها ربما تقف وراء الحمله الداعيه الي «تمزيق» دول افريقيا بحجه انقاذ شعوبها او لغرض اخر مثل رغبتها ان تمنع الصين من التوسع اقتصاديا ووقف استيلائها علي مصادر المادة الخام باتفاقات مع حكومات الدول الافريقيه. المؤكد ان الصين لا ترحب بتمزيق دول افريقيا.
تمزيق الدول ليس تطورا جديدا. يسجل التاريخ تقسيم امبراطوريه النمسا والمجر في القرن التاسع عشر، وتمزيق الامبراطوريه العثمانيه خلال وبعد الحرب العالمية الاولى، وتمزيق المانيا وكوريا وفيتنام في اعقاب الحرب العالميه الثانيه. ولا ينكر احد دور الحرب البارده في هذا التمزيق والحروب الناتجه عنه، ولكن لا ينكر ايضا ان توازن القطبين في مرحله الحرب البارده كان الدافع الرئيس لمنع تفتيت دول حديثه النشاه في افريقيا، وانه بانتهاء هذه الحرب انطلقت علي الفور حمله تقودها امريكا ودول في الاتحاد الأوروبى تشجع دولا في شرق ووسط أوروبا علي الانفراط تحت عنوان تصحيح «اوضاع تاريخيه»، فانقسمت جمهوريه تشيكو سلوفاكيا الي دولتين وانقسمت يوغوسلافيا الي دول عديده بعد سلسله من الحروب الاهليه الداميه نشبت علي اسس عرقيه ودينيه وتاريخيه.
في هذه الحاله، او الحالتين بمعني ادق، وقع تمزيق دولتين لتحصين مشروع الوحده الاوروبيه ضد اخر العناصر المسببه للتوتر الاقليمي. وما زال البعض غير واثق تماما من ان تفتيت الدولتين حقق لشعوبهما احوالا افضل. انا شخصيا اعتقد اننا لن نستقر علي اجابه شافيه تتعلق بالعلاقه بين تمزيق الدوله وانقاذ شعوبها. اذ بينما حقق الصوماليون الشماليون استفاده من تمزيق الصومال ما زال سكان الجنوب يئنون من ويلات الحرب الاهليه. هناك ايضا ما يشير الي ان تمزيق امبراطوريه الحبشه افاد الشعبين الاريتري والاثيوبي، اذ توقفت حرب أهليه دامت بينهما لسنوات طويله. واظن اننا قد لا نتمكن من تقدير نجاح او فشل تقسيم السودان الا بعد فتره من الزمن يتضح فيها العائد لكلا الطرفين، والاطراف الاخري المرشحه للانفصال كدارفور وكوردوفان.
يحتدم النقاش هذه الايام عن البديل لحلف الأطلسي في افغانستان. المقرر ان تخرج غالبيه قوات الاطلسي من افغانستان بنهايه العام القادم. والمتوقع حتي الان هو ان خروج قوات الاطلسي سوف يعني عوده طالبان الي كابول وكان الغزو الامريكي لم يكن، باستثناء انه خلف ماساه جديده تضاف الي قائمه ماسي افغانيه بطول القرون المديده. ما البديل؟ هل يترك الامريكان افغانستان للطالبان وبخاصه وان هؤلاء يبدون مظاهر اعتدال واستعداد للتعاون مستقبلا مع «الشيطان» الامريكي، في الوقت الذي يسود في واشنطن منطق يقول بان المستقبل في الشرق الاوسط ووسط آسيا ايل الي حكومات اسلاميه ستتعامل معها امريكا؟
ام يسلم «الناتو» افغانستان الي منظومه تتشكل خصيصا من دول في الاقليم، ويتردد ان التفاوض يجري حاليا مع تركيا وباكستان والهند لتشكيل تنظيم اقليمي يتولي استعاده الاستقرار الي ربوع افغانستان، الشرط الوحيد الذي قد تصر عليه واشنطن هو استبعاد ايران من هذا التنظيم؟
ام يكون البديل تمزيق افغانستان عرقيا، فتتشكل دوله بالوشيستان الكبري من الباشتون الذين يعيشون في افغانستان وباكستان، وتنشا في افغانستان دول اخري اصغر من سكان الشمال والغرب، وتقوم باكستان المقزمه علي سكان مقاطعتي السند والبنجاب.
اي بديل من هذه البدائل كاف في حد ذاته لتفتيت افغانستان انقاذا لها.
لا يخفي بعض الاعلاميين في الغرب انهم مطلعون علي استراتيجيه لانقاذ فلسطين تقوم علي تكريس الانقسام الراهن. ومثل اي مشروع للتقسيم قد يحتاج تكامل خرائطه الجديده الي تعديل في مساحه «دوله غزه» علي حساب اراضي مجاوره او بالتبادل معها، وتوسيع مساحه «دوله الضفه» علي حساب اراضي علي الناحيه الاخري. يتصورون انقاذ فلسطين علي مراحل اولاها التقسيم وقد حدث، ثم الانكباب علي رسم خريطه جديده لكل من القسمين ثم الحصول علي الاعتراف الدولي.
Comments