المحتوى الرئيسى

لغة العلوم وهويتها

11/18 08:51

منذ ايام لبيت دعوه بعض الاصدقاء لجلسه نقرا فيها نص الدستور الذي اوشكت اللجنه التاسيسيه من الانتهاء منه والتي نشرت الصحف منذ ايام مسودته الاولي. وما ان شرعنا في القراءه المتانيه حتي اصابتنا الدهشه من سوء الصياغة وانعدام الرؤيه وتضارب الافكار وعوار المنطق الذي يضرب كل ابواب ومواد هذا النص المحوري، وكان اللجنه التاسيسيه كان شغلها الشاغل كتابه موضوع تعبير يجتر العبارات الفضفاضه، فصيحه اللسان، ولكنها خاويه المعني، منعدمه القيمه.

ثم اختلفنا في تحديد اكثر المواد طرافه واخفها ظلا، اهي الماده التاسعه التي تفترض ان هناك «طابعا اصيلا للاسره المصريه»، ام الماده السابعه عشره التي تفترض ان الدوله لها شواطئ وبحار وبحيرات يجب حمايتها، ام الماده الرابعه والخمسون التي ترمي الي تحديد نسبه «معتبره» من الناتج القومي للبحث العلمي، ام الماده الثانيه والستون التي تنص علي ان «ممارسه الرياضه حق للجميع»؟

شخصيا اري ان الماده الحاديه عشره هي من اطرف مواد مسوده الدستور واكثرها دلاله علي العوار المنطقي الذي يسم هذا النص التعس. الماده تنص علي الاتي: «تحمي الدوله الوحده الثقافيه والحضاريه واللغويه للمجتمع المصري، وتعمل علي تعريب التعليم والعلوم والمعارف». وكاي موضوع تعبير كتلك التي يجبروننا علي كتابتها في المدارس، تبدو هذه الماده للوهله الاولي ماده جيده لا غبار عليها. ولكن عند قراءتها بتانٍ يتبين خللها وتظهر مشاكلها. فالمجتمع المصري، شانه شان كل مجتمع معقد متطور، ذي تنوع ثقافي، وحضارته متعدده الروافد، وكان الاجدي بالماده في نصفها الاول ان تقول «تحمي الدوله التنوع الثقافي والحضاري للمجتمع المصري».

اما النصف الثاني من الماده، فذلك المتعلق بتعريب العلوم، فاري انه ايضا مليء بالمشاكل. ذلك ان الماده كما هي تفترض ان تعريب العلوم مقصود لذاته وليس كوسيله لغايه اخري ينبغي تحديدها. واظن انه دون تحديد المقصود من تعريب العلوم لن نتمكن، كمجتمع يستخدم الدستور في تحديد اهدافه، من النهوض بالعلوم ولا حتي بالارتقاء باللغة العربية.

وقد لا يعلم اعضاء اللجنه التاسيسيه اننا قد قطعنا بالفعل شوطا طويلا في تعريب العلوم في النصف الاول من القرن التاسع عشر. ولتوضيح ذلك اسرد، باختصار، قصه المجهود الجبار الذي بٌذل في تعريب الطب في المدرسه المصريه للطب البشري التي تعرف الان بكلية طب قصر العيني.

مؤسس هذه المدرسه، كما هو معروف، هو محمد علي باشا الذي كان قد شرع في تاسيس جيش نظامي حديث والذي راي ان هذا الجيش يلزمه اداره صحيه تعني بصحه جنوده. اما اول مدير لهذه المدرسه فهو الدكتور انطوان بارطلوميو  كلوت، المعروف بكلوت بك، الذي اشار علي الباشا بضروره انشاء مدرسة طبيه لكي تكوّن لبنه للاداره الصحيه المنشوده.

ومن الملفت للنظر ان كلوت بك، الفرنسي، اشار علي محمد علي، الذي كان يتحدث التركيه والذي لم يتعلم العربيه قط، بضروره استخدام اللغه العربيه كلغه التدريس الاساسيه. ففي مقابلات عديده اكد الطبيب الفرنسي للباشا التركي ان الاطباء «اولاد العرب»، اي المصريين، يجب ان تكون لهم القدره علي التواصل مع مرضاهم وايصال المعلومات الطبيه لهم بنفس لغتهم.

وبعد ان اقتنع الباشا بذلك وبعد ان افتتحت المدرسه في عام 1827 ظهرت مشكله عويصه، فالطلاب كانوا كلهم ازهريين لا درايه لهم سوي بالعربية، اما المدرسون فكان اغلبهم فرنسيين لا يتكلمون العربيه. علي ان كلوت بك ابتدع وسائل مكنته من التغلب علي هذه العقبه الهيكليه التي كادت تهدم مؤسسته الوليده. فقد استقدم عددا من المترجمين الشوام الذين انحدروا من عائلات شاميه كانت قد وفدت علي مصر في القرن السابق، وعهد لهم بترجمه الدروس الفرنسيه قبل القائها علي الطلاب. ولكي يتاكد كلوت بان هؤلاء المترجمين قد فهموا ما القي عليهم، طلب منهم ان يعيدوا ترجمه المحاضره الي الفرنسيه لكي يراجعها المدرسون.

وبمرور الوقت اكتسب هؤلاء المترجمون درايه بمواضيع المحاضرات التي كانوا يترجمونها، اي الطب الحديث، فبدا كلوت بك يامرهم بترجمه المؤلفات الطبيه وليس المحاضرات فقط. كما كلف اوائل الخريجين بنفس الشيء. ولكي يحسن من النصوص المترجمه امر بتعيين مصححين من الازهر في مطبعه بولاق التي شرعت في نشر هذه المؤلفات.

وبحلول الثمانينيات من القرن التاسع عشر كانت مطبعه بولاق قد تمكنت من نشر اكثر من مائه كتاب في شتي فروع الطب الحديث من أمراض النساء والولادة لامراض الاطفال، ومن علوم الجراحه للتشريح، ومن الصحة العامة للتمريض، وكل ذلك تم بلغه عربيه صحيحه جزله. وقد ساعد في الامر ان الكثير من الازهريين الذين عملوا في هذا المشروع العملاق، كاطباء ومترجمين ومصححين، كانوا علي درايه بالتراث الطبي العربي القديم، واهمه تراث ابن سينا، الامر الذي مكنهم من ايجاد مرادفات عربيه للكثير من المصطلحات الطبيه الفرنسيه التي كانوا يترجمونها. كما كان لاقبالهم علي اللغة الفرنسية، قراءه وكتابه وتحدثا، خاصه بعد ان سنحت لبعضهم الفرصه للذهاب في بعثات طبيه لباريس، الدور الكبير لانجاح هذه المشروع الرائد.

ان تعريب الطب الذي تم بالفعل في مصر في القرن التاسع عشر مشروع جدير بالتامل والدراسه، فهو، اولا، مشروع كان له اعظم الاثر في انجاح الجهد الرامي للارتقاء بمستوي صحه المصريين، وهو الجهد الذي كلل بالنجاح عندما نجح خريجو قصر العيني في القضاء علي الاوبئه مثل الطاعون والكوليرا، وفي اجراء اول مشروع قومي خارج اوروبا للتطعيم ضد الجدري، وفي وضع قاعده للبيانات الحيويه مكنت مصر من القيام باول تعداد حديث للسكان في المنطقه باسرها.

وهو، ثانيا، مشروع لم ينبع من الاقتناع بضروره تعريب الطب كغايه في حد ذاتها، بل كوسيله لغايه نبيله، الا وهي تحسين مستوي معيشه المصريين والارتقاء بصحتهم.

والاهم من هذا وذلك هو مشروع لم ينبع من الاحساس بضروره الحفاظ علي الهويه والعمل علي حمايه الوحده الثقافيه للشعب المصري، كما تصرح الماده الحاديه عشره من مسوده الدستور. بل يمكن القول ان سبب نجاح هذا المشروع تحديدا هو عدم الهوس بسؤال الهويه هذا. فالاعتزاز بالذات والثقه بالنفس والايمان بالمستقبل وليس التمسك باصاله الهويه ونقاء الجوهر هو سر نجاح هذا المشروع العملاق، والا كيف نفسر اقبال الباشا التركي والطبيب الفرنسي علي اتخاذ العربيه لغه للتدريس في قصر العيني، وكيف نفسر اقبال الاطباء الازهريين علي تعلم الفرنسيه بجانب اتقانهم للعربيه واعتزازهم بها؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل