المحتوى الرئيسى

العدو داخل الأسوار – خطر انهيار المناعة الحضارية

11/17 09:39

يتلخص تفسيرنا لكل مصيبه او كارثه تحدث لنا، او هزيمه نتعرض لها، في جمله واحده: مؤامره خارجيه من العواذل الذين يكرهوننا ويتسببون في كل مشكلاتنا، بدءا من حصه نهر النيل والي انتشار الفياجرا والبانجو والحشيش والاغاني الهابطه. ثم قفزنا خطوه كبيره الي الامام، عندما بدا البعض يحاول ان ينسب الثوره نفسها، التي ربما تكون من اهم ما انجزه المصريون منذ ايام احمس، الي مؤامره خارجيه، وبدلا من ان نستفيد بالثوره في بناء نظام جديد يطلق طاقات الشعب المصري الخلاقه ويوظّفها في الوصول للتقدم، انشغلنا باثبات عماله الثوار والحركات الثورىه، بدءا بشقه العجوزه وانتهاء بمعسكرات جمهوريه الصرب، ثم تفرغ بعضنا لهدم الاضرحه واحراق الكنائس، وافتعال معركه وهميه حول تطبيق الشريعه والفتح الثاني علامه علي دخول مصر حديثا لحظيره الاسلام، رغم ان 85% علي الاقل من المصريين مسلمون منذ قرون، والله أكبر ولله الحمد.

وواقع الامر ان مصر بالتاكيد لها اعداء لا يريدون لها ان تتعافي، لان في تعافيها نهضه للشرق كله وقيام عملاق نائم من سباته السلفي الوهابي العميق، بما يهدد مصالح ناس ودول كبيره ومهمه، تريد ان تمصمص الموارد الطبيعيه في المنطقه لاخر قطره نفط بسعر التراب او اقل ان امكن، ووجد هؤلاء ان هناك طريقه لطيفه جدا وفعاله وريحتها مسك وعنبر يمكن من خلالها تخدير الشعوب وربطها بالسلاسل، وعثروا علي ضالتهم في كتب ومتون صفراء عمرها عشرات القرون، يحتكر تفسيرها شيوخ فسده، يقتسمون السلطه مع حكام لا هَمَّ لهم سوي الحفاظ علي عروشهم مقابل ضمان مصالح اعداء الامه، وفي هذا يستخدمون هؤلاء الشيوخ الدجالين، الذين لا عمل لهم سوي تحريم الحلال وتحليل الحرام، فعندهم مثلا ان عمل المراه وقيامها بقياده السياره وكشف وجهها حرام وكفر، بينما اغتصاب طفله صغيره لم تبلغ العاشره تحت اسم الزواج هو حلال بلال، وهكذا يقلبون منطق الامور والفطره السليمه حتي تنشغل الشعوب لا في البحث والتقدم والابداع، لكن في امور اهم بكثير، مثل صفات ومهامّ الثعبان الاقرع الذي يستقبلك في القبر بعد وفاتك، وايّ قدم يجب استخدامها في دخول المرحاض في حياتك، وما هو انسب دعاء لركوب الاسانسير والسياره والطياره والمرجيحه في تنقلاتك ونزهاتك.

تعريف المؤامره انها خطه سريه بين مجموعه من الاشخاص او الهيئات لالحاق الضرر باخرين، ولكن عندما تكون الخطه معروفه، والاعداء ظاهرون لكل ذي عين، والثعبان موجود في الجحر وعضاته «معلّمه» في ايدينا، وما زلنا الي الان نحاول التعافي من لدغاته القديمه وسمه الزعاف، هنا لا تكون المشكله في المؤامره ولا الاعداء ولا حتي الثعبان سواء كان اقرع او مسبسب شعره، هنا المشكله تكون فينا، ومصدر الخطر الاكبر لا يصبح من العدو الخارجي، لان خطر العدو الخارجي موجود ومعروف دائما وابدا، بل تصبح الكارثه في حصان طرواده ومن بداخله، الذين تسربوا داخل اسوار المدينه متخفين تحت لحاهم المشعثه وجلابيبهم القصيره، ولا همّ لهم سوي تمهيد البلاد للاحتلال الخارجي والتقسيم، وتكفير اهلها وتحويلهم الي طوائف متناحره متصارعه، فعلوا هذا في افغانستان، وفي السودان، وفي الصومال، وها هم الان اهلي وعشيرتي من الجماعات الجهاديه الوهميه في سيناء، مدججين بالاسلحه الخفيفه والثقيله، لا همّ لهم سوي الهجوم علي الاهالي وكمائن ومنشات قوات الجيش والشرطه، واطلاق بعض الصواريخ العمياء عديمه الاثر علي صحراء اسرائيل، ليعطوها ذريعه لمهاجمه مصر، فتجد الارض خاليه ممهده، بعد ان قام هؤلاء المجاهدون الابرار، بمهاجمه واضعاف اي قوات دفاعيه.

علي مدار التاريخ وُلدت حضارات وصعدت وهبطت لتصعد حضارات اخري وتهبط الاولي وقد تنقرض، في دورات مشهوده، وهنا يجب ان ندرس جيدا اسباب صعود واضمحلال مثل تلك الحضارات ووصول بعضها للفَناء. وسنستخدم هنا كلمه «الثقافه» Culture للتعبير عن الحل الحضاري الذي يمكّن امه ما من البقاء، بينما تندثر اخري. ونلاحظ ان كلمه Culture بهذا الاستخدام لا يوجد لها مقابل واضح في اللغه العربيه. فالثقافه بما تعنيه من اداب وفنون تختلف عن «الحل الحضاري» بما يعنيه هنا من «طريقه الحياه».

الثقافه بمعني الحل الحضاري او «طريقه الحياه» تشمل «مجموعه المبادئ والقيم والطبائع والسلوكيات والقناعات الفكريه والعقائد والعادات والتقاليد ونظم التفاعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي تتبناها جماعه ما، باعتبارها تمثل الاجابه او الحل الحضاري لمشكله البقاء». وعندما ينحرف الحل الحضاري عن ذلك المسار مكانا او زمانا او يتخلف عنه ايقاعا، مع الانشغال بتوافه الامور وقشورها، وتطبيق حلول كانت تصلح لازمنه اخري او حواضن حضاريه ذات صفات جغرافيه مختلفه، فان الامه تعجز عن مواكبه متغيرات البيئه، او الوقوف امام المنافسه الخارجية، وتقل درجه المناعه الحضاريه، وتصبح المجموعه في خطر يهدد بقاءها، وتكون عرضه للغزو والتبعيه، تماما مثل الجسم الانساني، الذي يصبح عُرضه للمرض عندما تضعف مناعته الداخلية.

فالمناعه الحضاريه تعبِّر عن قدره امه ما علي مقاومه الاخطار الخارجيه، وتحقيق تفوق حضاري نسبي، كنتيجه لمجموعه من العوامل المعنويه والماديه. فوجود قيم حضاريه تتناسب مع تحديات الزمان والمكان، ووجود حراك فكري واليات للتطوير المستمر، وقدره المجتمع او الامه علي الانتخاب الطبيعي وافراز افضل العناصر والسلوكيات والنظم لتدير حياتها، يسمح بظهور قيادات طبيعيه ورؤي مستقبليه تضمن البقاء والتفوق، ونظام سياسي رشيد يوازن بين الاستقرار والتطور، علي اسس من العداله والاخاء والتعايش السلمي، وينتج عن هذا كله تقدم في كل المجالات بما يضمن الدفاع عن الامه وبقائها والعكس ايضا صحيح.

اما عندما تتجمد او تتدهور قيم المجموعه بحيث تصبح مع مرور القرون غير مناسبه لتحديات الزمان والمكان والبيئه التي تغيرت عبر مئات السنين، او تستعير قيما قادمه من حواضن اخري، او تنفصم المجموعه عن نواتها الروحيه او الثقافيه الحقيقيه بالتشبث بالمظاهر والطقوس مع اهمال الجوهر بل والابتعاد عنه، وتغرق في الغيبيات والخرافات، وتجرّم الفكر والابداع، وتؤمن بالحلول التي نجحت في ما سلف بصوره عمياء وتنكر واقع ومنطق الحاضر، وترسّخ تجميد الفكر، وتحارب الابداع والتغيير وتعاقب من يروّج لهما، فانها تعجز عن استلهام وتحقيق رؤية تضمن بقاء المجموعه.

وبناءً علي تعريف المناعه الحضاريه بهذه الصوره، فان هزائمنا المتكرره في مختلف المجالات العسكريه والسياسيه والاقتصاديه والرياضيه والعلميه والتقنيه، انما هي انعكاس ليس فقط لعدوان او تامر الاخرين علينا، بل هي في الاساس انعكاس لضعفنا الثقافي وتدهور مناعتنا الحضاريه ووجود فجوة حضاريه بيننا وبين الاخرين، تجعلنا ندخل المعركه في كل مره خاسرين في مواجهات محكوم علينا فيها مسبقا بالفشل.

ولا شك لديَّ ان الشعب المصري قادر علي تطوير ثقافته وطريقه حياته لتخطي هذه الفجوه او الكبوه الحضاريه، بدليل ما حدث في ثوره يناير وما بعدها، بشرط ان نعترف اولا بالمشكله ونتوافق حول رؤيه لحلها.

ما السبيل للخروج من المعضله الحضاريه؟ بدايه، لا بد ان نبدا في اعاده النظر الي هذه القيم المختله الفاسده، التي يحاول ان يسوقها الينا المخابيل من اتباع الشيوخ اياهم، واعمال الفكر والفطره السليمه في كل ما يطرح علينا من احكام وعادات وتقاليد، والسعي الحثيث لوضع اساس دستوري يحافظ علي وحده مصر من خلال احترام تنوعها وهويتها المتفرده، وبناء روابط الانتماء من خلال نظام يرسخ العدالة الاجتماعية ويقوّي النسيج المجتمعي المهترئ، والاتفاق علي عقد إجتماعي يربط افراد الامه المصريه بعضهم ببعض، ويؤكد انتماءها العربي والاسلامي والافريقي والمتوسطي، ويحرص علي تمثيل متوازن لجميع الطوائف في منظومه حكم شرعيه، دون اقصاء لاي طرف او هيمنه لاقليه او اغلبيه، وصياغه رؤيه لمستقبل البلاد، تنطلق من شخصيتها ومميزات المكان العبقريه التي تحظي بها، واعاده ترسيم العلاقه بين الدوله والمواطن من خلال اعاده تصميم المنظومه التشريعيه والنظم الاداريه والبنيان السياسي للدوله، لاطلاق الطاقات الكامنه وتمكين الانسان المصري الصانع الحقيقي لاي نهضه ماموله.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل