المحتوى الرئيسى

أم الدنيا وعقوق النخبة

10/31 18:32

بعض البسطاء من ذوي التجارب قال لي يومًا معلقًا علي مواقف النخبه المتناقضه بانهم: "اصْيَعُ من شلبي" 

لم افهم العباره وطلبت مزيدًا من الشرح فقلت له: ماذا تقصد ياعم بانهم اصْيَعُ من شلبي؟ فشرح لي ان شلبي هذا واحد عاطل ليس له شغله ولا مشغله غير الَحكْي علي الناس، هو يتردد علي ابواب الاثرياء في القريه، وياخذ بعض فتاتهم، ويُسَلِّيهم بالحديث عن فلان وفلان وعلان، حتي اصبح مضربًا للمثل لكل عاطل لا يقدم شيئًا، لكنه فقط يجلس طول النهار والليل مشغولاً بنقد من يعملون".

شلبي، النموذج الذي ساقه لي احد البسطاء يعكس ان شعب مصر ام الدنيا، و ام بناه الحضاره، قادر علي السخريه ممن ينظرون اليه بغرور واستعلاء، كما يسخر من جلاديه والتهكم عليهم حتي في اشد ظروف الدكتاتوريه ظلامًا ووحشيه.

والكل يعرف ان مصر ام الدنيا أكبر من اي تيار، ولن يستطيع تيار بعينه ان يحتويها كلها، ولان خريطه الانتماءات متعدده الالوان والاطياف والرؤي والتوجهات، لذلك فهي اكبر من ان تنحصر في جماعه واحده سياسيه او ثقافيه.

وفي العالم القديم كان يمكن قهر الاخر ونفيه والقضاء عليه، اما في العالم الحديث فهناك حاله اضطرار حتي للاضداد لتتعايش معا، ولا يستطيع احدنا مهما كان ان ينفي الاخر، كما لا يستطيع فصيل واحد ان يحتكر الوطنيه وان يختزل الوطن كله في فكرته او في ايديولوجيته.

وفي الديمقراطيات الحديثه يظل الصراع السياسي بضوابطه  هو القانون السائد بين الحكومه والمعارضه، فالمعارضه لا تضيع فرصه الا وتنتقد الحكومه، ونقد البرامج الحكوميه وخططها وبيان قصورها واحد من اليات المعارضه في استقطاب الناخب وتحويل انحيازه بالوسائل المتعدده ومنها بالطبع السلوكيات الشخصية لاعضاء الحكومه اذا خرجت عن مالوف العادات والقيم المتعارف عليها، وقد يكون النقد لاذعًا ومكلفًا، وقد تخسر الحكومه بعض مواقعها جراء عمليات النقد هذه لتملاها المعارضه، ومن القيم المتعارف عليها  في اعرق المجتمعات الديمقراطيه ان هنالك تقاليد في الممارسه السياسيه يجب ان تراعي، وحقول الحريات العامة بما فيها حقل التعبير عن الراي تنضبط بتلك التقاليد وتعرف  حدودها، وتقف عندها ولا يمكن ان تتجاوزها، ومن يفعل ذلك يتعرض للمساءله القانونيه، يعرف ذلك جيدًا المتابعون والباحثون في النظم السياسية

ووسط هذه المساحه الضخمه من الحريه بضوابطها تدرك هذه المجتمعات انه من مصلحه الوطن والمواطن ان تكون هناك معارضه قويه ومحترمه، تنتقد بامانه، وتتصرف بمسئوليه وتعلي مصلحه الوطن علي المصلحه الخاصه.

والحاكم في هذه المجتمعات ليس هو الدوله، ومن ثم فهم لا يعرفون صناعه الفرعون، صناعه الفرعون صناعه محليه لا توجد الا في شعوب العالم الثالث، وهي تعني ان يختزل الوطن في شخص الرئيس فيكون بشخصه وسياساته وتصرفاته خطا احمر، ويصبح له من القداسه المقننه وغير المقننه ما يجعل مجرد التعرض لسياساته جريمه تستوجب العقاب، فضلاً عن جريمه التعرض لذاته، ومن ثم عرفت بعض الدول مصطلح "العيب في الذات الملكيه"

ومع يقيني القاطع الذي يدعمه الدليل والواقع، وخبر التاريخ الموثق ان الاسلام هو اسبق النظم في مجال الحريات الشخصيه من كل النماذج السائده، الا انني لن اتحدث عن نموذج منه حتي لا يتهمنا فصيح اسير لثقافتهم وسخافاتهم ايضًا باننا نرغب في العوده بهم الي عصور الظلاميه كما يرددون  ـ  لذلك سناتي بنموذج من الغرب الذي هو قبله هؤلاء وكعبتهم حتي يكون اقرب الي فهمهم واقطع لحجتهم. 

اقول: ربما كان في الغرب مَن يتطاول علي شخص الرئيس، وقد حدث ذلك منذ شهر عندنا هنا في استراليا عندما عرَّض مذيع مشهور برئيسه الوزراء السيده "جوليا جيلارد" وقال: "ان والدها مات حسره من كثره كذبها"، ولكن الحادثه لم تمر هكذا بل اخذت امتدادًا هدد المحطه التي يعمل فيها المذيع بالاغلاق واحدث ارتباكًا عامًا، واثار سخط الجميع بمن فيهم المعارضون لسياسه جيلارد، لان لديهم قواعد تضبط طريقه النقد وتنظم شؤون المجتمع وتمنح الحريات للجميع وتفرض مسؤوليات علي من يسيء، وقد اضطر المذيع المشهور ان يقدم  اعتذارًا،  لكن رئيسه الوزراء لم تقبل الاعتذار.

والتجربه الديمقراطيه في مصر جديده، ومن ثم فمن المقبول ان يختلف بعض شرائح الشعب المصري العظيم علي شخص الرئيس، وقد يختلف معه في المنهج، وقد يعترض علي بعض قراراته ويعارض سياساته، ولكن ذلك كله شيء واهانه شخص الرئيس وتحقير رموز الدوله باشخاصهم لمجرد انه او انهم من تيار لا نرضي به او لا نقبله شيء اخر .

اهانه شخص الرئيس او اي رمز اخر من رموز الدوله تعني خلط ما هو خاص بما هو عام، والامر هنا لا يتصل من قريب او من بعيد بصناعه الفرعون او باضفاء قداسه وحصانه علي شخص حتي لو كان الرئيس، لان الاصل في المجتمعات التي تحترم نفسها ان شخصية الإنسان وكرامته مصانه بموجب الحقوق العامه للبشر بصرف النظر عن موقعه ومكانته، ومن ثم فالنقد يجب ان يتناول السلوك السياسي والخطط والبرامج، وليس خصوصيات الاشخاص واشكال اجسادهم واقفيتهم، وقد كفانا مؤونه الكلام في هذا الموضوع استاذنا الكاتب الكبير الاستاذ محمد يوسف عدس  بمقال ممتع بعنوان "نظريه الاقفيه" نشر بتاريخ ٨ اكتوبر ٢٠١٢ بجريده "المصريون" ويمكن للقارئ الكريم الرجوع اليه والاستفاده والاستمتاع بما جاء فيه. 

والدوله بتعريف بسيط هي كل الاجهزه التي تدير شان الوطن وتحمي حقوق المواطن وتحقق طموحاته، ونقدها في سياستها وبرامجها وخططها شيء، غير التطاول والتجاوز واسلوب الكذب، فهذا سقوط لا علاقه له بالنقد الصحيح ولا بالمعارضه، واطلاق العنان لكل سفيه باسم الحريه ليسيء للاخرين جريمه في حق المجتمع وطنا ومواطنين، والا كان الحطيئه وهو شر الناس زعيما عبقريا. 

النقد البناء لاداء الوزراء او حتي الرئيس شيء اخر غير ذلك السفه الموتور الذي يتناول شخص الرئيس، ويعرض بقفاه كما تحدث صاحب حماله الحطب ورفيقه المغمور رسام الكاريكاتير.

  الدوله بهذا المفهوم لابد لها من سياج يحمي مهابتها ويرد عنها تطاول الصغار والسفهاء، ويردع الموتورين الذين لا يعملون لا لصالح الوطن ولا لصالح المواطن.

ما نسمعه ونشاهده في القنوات الفضائية ليس الا سقوطا يجب حمايه المجتمع منه، وبذاءات البعض ممن كان بالامس يعمل خادمًا لنظام مبارك واولاده ليست مقبوله، وليست حريه ولا جراه، ولا شجاعه راي، ولا يجب ان يسمح المجتمع بها، واعتقد ان في القانون ما يؤدب اصحابها ويقف بهم عند حدود اللياقه الاجتماعيه والاخلاقيه لمصر وشعبها ورئيسها وهيبه دولتها.  

 ونحن نفهم ان حديث رموز  النخبه المتكرر ونقدها لجماعات الاسلام السياسي اضحي سبوبه واكل عيش، لكنه حديث ممل ومحزن ومخجل ايضا، والغريب انه نقد يرتد الي اصحابه ومن اطلقوه، فهم دائمًا يحدثوك ويحذروك من جماعات الاسلام السياسي وانهم خطر علي الحياه وعلي مدنيه الدوله، وانهم يسعون لاقامه خلافه إسلاميه، وانهم اكثر سيطره علي الشارع، واكثر تاثيرًا علي الناس، واكثر حضورًا في مشاكل المجتمع وقضاياه، وانهم وانهم وانهم الي اخر هذه القائمه الممله والمكروره، 

وهذا الذي يتردد علي السنه خصوم جماعات الاسلام السياسي هو مدح فيهم من حيث اراده الذم، واشاده بقدرتهم وحضورهم وتاثيرهم وفاعليتهم، واذا كان الامر كذلك فهو في ذات الوقت شهاده اعتراف بخيبه وفشل وعجز من ينقدون ويطيلون السنتهم في تناول الاخرين.

الحقيقه ان النخبه تائهه وضائعه، وليس لها من رصيد غير الكلام التافه الذي يملؤون به فراغ الفضائيات الفارغه، وكانهم ينتقمون من الشارع الفارغ من وجودهم، والذي فض يديه منهم وادرك بفطرته الذكيه رغم بساطته انهم ليسوا الا تجار شعارات، وانهم لا حيله لهم غير الكلام الذي يساهم في ابقاء التخلف ويباعد بيننا وبين الاستقرار والانتقال الي مرحله البناء والتنميه لانه يؤزم الحياه السياسيه كل يوم باضافه عقد جديده.

شلبي هذا الذي بدانا بالحديث عنه، له نظائر واشباه، ربما ليسوا في بساطه ملبسه ومطعمه وماواه، وايضًا ليسوا في بساطه طموحاته واطماعه، فاشباهه ونظراؤه يحسنون اختيار ملابسهم في الشتاء والصيف، والصباح والمساء، ويحسنون اختيار اربطه العنق وعرض الكلام المنمق، لكنهم لا يحسنون اختيار مواقفهم من اجل الوطن.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل