المحتوى الرئيسى

أحمد رجب يتكلم «الحلقة الأولى»

10/29 18:59

لا يحب أن يذكر تاريخ ميلاده، فهو شاب حتى لو بلغ عمره ألف عام!

فلا تضع له قانونا، فهو رجل له قانونه الخاص، وليس أمامك إلا أن تعترف بعبقريته؛ لأنه ليس كسائر الرجال، تجده وقورا، ووفيا، وصادقا، ويبعث على السرور، لكنه يميل إلى العزلة، ويفضل أن يراقب الأحداث عن بعد. إنها صفات مواليد برج العقرب التى لا تنطبق إلا على شخص واحد فقط – كما يؤكد علماء الفلك- هو الكاتب الفذ أحمد رجب الذى لم أجد سوى ورقة وحيدة فى أرشيف دار «أخبار اليوم» تحمل بياناته الشخصية رغم أنه عاش أكثر من نصف قرن داخل هذه المؤسسة!

ورقة واحدة فقط قام بتوقيعها بخط يده فى عام 1959 عندما كان مديرا لتحرير مجلة «الجيل»، وكتب فيها اسمه الثلاثى المسجل فى شهادة الميلاد أحمد إبراهيم رجب من مواليد منطقة الرمل بمحافظة الإسكندرية

يروى أحمد رجب ذكرياته فى هذه الأيام قائلا: تعلمت فى مدرسة رياض باشا الابتدائية، وكنت أحب حصة الموسيقى وأكره علم الحساب وبسببه قضيت طفولة سعيدة جدا كلها ضرب فى ضرب، وعندما كان المدرس الخصوصى يعلن أننى توصلت إلى حل مسألة جبر، كانت أمى تطلق الزغاريد وتوزع الشربات على الجيران.

فى الوقت نفسه حاولت أن أتعلم الموسيقى، فالتحقت بمعهد «جيوفانى» لأتعلم آلة الكمان التى أحبها، وبعد الدرس الرابع اشترط على الخواجة جيوفانى أن أشترى كمنجة إذا أردت الاستمرار فى دروس المعهد، فكافحت طويلا من أجل اقتناء الكمنجة، واتفقت مع والدى على أننى إذا نجحت فى الجبر آخر السنة فسوف تكون الكمنجة هدية النجاح، ورحت أسهر الليالى فى طلب المعالى، وطلب الكمنجة، حتى أصبحت نحيلا شاحبا، كل شىء، فى جسمى صار رفيعا إلا مخى، فقد ظل تخينا لا يستطيع الجبر اقتحامه، فضاعفت الجهد لأحقق -فى النهاية- تفوقا رائعا إذ تمكنت من الحصول على أعلى درجة للنجاح فى الجبر أيامها: 4 على 20.

وجاءت الكمنجة التى أحبها أحمد رجب لكنها لم تحبه!

فقد ظل طالبا فى معهد الموسيقى لمدة ثلاث سنوات إلى أن جاء له صاحب المعهد «جيوفانى» ذاته، وقال له: يا ابنى أنت معنا منذ سنوات، ولم تتعلم شيئا، ولن تتعلم شيئا، لأن يدك ليست ميكانيكية.

لكن أحمد رجب لم يقتنع بما قاله جيوفانى إلا بعد سنوات طويلة، يتذكرها بقوله: تأكدت من صدق «جيوفانى» عندما كنت أحاول مساعدة زوجتى فى المطبخ فكنت أقوم «بتكسير» الأطباق بسبب عدم مرونة يدى فى الحركة! ومن هنا أصبحت مبهورا بأى شخص يعزف على آلة الكمان لأنها كانت أمنية حياتى التى لم أستطع تحقيقها.

لم تكن عقدة الكمنجة وحدها التى تطارد أحمد رجب، ففى سنوات الطفولة تعرض لواقعة جعلته يكره اليوم الذى يذهب فيه إلى الحلاق! ويروى تفاصيلها بقوله: ذهبت أحلق شعرى وأنا فى المدرسة الابتدائية فدخل رجل صالون الحلاقة وفى يده ابنه فى مثل عمرى، فقص الرجل شعره وحلق ذقنه، وجاء الدور على الولد الصغير فأجلسه الحلاق على منضدة ليقص شعره بينما ذهب الأب إلى الحانوت المجاور بعد أن نفدت سجائره، وجن جنون الأسطى رشوان عندما اكتشف أن الرجل ليس أبا الولد الصغير، وأنه اصطحبه من الطريق ليتركه رهينة عند الحلاق باعتباره ابنه ويفر دون أن يدفع الأجرة!

ولم يكتفِ الحلاق بضرب الولد المسكين الذى لا ذنب له، بل أمسك بى أنا أيضا وهو يصيح: وأنت كمان أبوك فين يا ولاد النصابين؟ ولم أدرِ فى مقاومتى أننى كسرت «قصرية» زرع فتحول الحلاق إلى القصرية المكسورة وتحولت أنا إلى الشارع أسابق الريح، ومن يومها أُصبت بما يمكن أن يسمى بـ«الحلاقة فوبيا»!

كان ذلك قبل أن يصل أحمد رجب إلى مدرسة «العباسية الثانوية» التى حصل منها على شهادة التوجيهية، والتحق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وهناك ظهرت مواهبه وقدراته كصحفى فذ وساخر مبدع، فقد كان يقوم بعمل مجلة «أخبار الجامعة» وكانت ناجحة للغاية، فقد وصل توزيعها إلى 7 آلاف نسخة، وهو رقم كان يتعدى أشهر المجلات المصرية أيامها، ويتعدى توزيع بعض صحف ومجلات هذه الأيام، وبسبب هذه المجلة تمت إحالته لمجلس التأديب مرتين، إحداها كانت بسبب موضوع كان ينتقد فيه عميد الكلية بأسلوب ساخر، ويومها أنقذه الدكتور حسن أبوالسعود، أستاذ القانون الجنائى وعمّ الفنانة صفاء أبو السعود، حيث كان ضمن لجنة التحقيق، وقال: «لازم نعلم الشباب الديمقراطية فى الجامعة»، وتركه دون أن يتخذ أى إجراء ضده.

ويعلق أحمد رجب على تلك الواقعة قائلا: «شفت الجامعة زمان كانت عاملة إزاى؟!».

فى الجامعة التقى أحمد رجب مع حُسْن شاه، وكانت طالبة فى الفرقة الأولى بينما كان هو فى الفرقة الثالثة، ووقتها كان واحدا من أشهر الطلاب وأكثرهم نشاطا، وتتذكر حسن شاه تلك الأيام بقولها: قابلت أحمد رجب لأول مرة عندما كان مسؤولا عن الصحافة بالكلية، وكانت علامات النبوغ واضحة عليه، فكان يعرف من أول يوم فى كلية الحقوق أنه سيصبح صحفيا، فكان يردد «إن ما يجرى فى عروقى ليس دماء وإنما حبر المطابع»! واستمرت علاقتى به وكان السبب فى اتجاهى إلى العمل فى الصحافة رغم أننى كنت أتمنى أن أصبح محامية.

لم تكن الكاتبة حسن شاه الوحيدة من بين أصدقاء الجامعة الذين استمرت علاقة أحمد رجب بهم، فهناك الكاتب الصحفى عبد الفتاح الديب الذى اشترك معه فى فريق التمثيل، لكنه ترك التمثيل بعد أن اندمج الديب على المسرح متقلدا سيفه وهو يؤدى دور لويس الحادى عشر وأحمد رجب يلعب دور القسيس. والديب يقول له: فإذا سكن الليل يا أبتاه.. خُيّل إلىّ أننى أسبح فى بحيرة من الدماء.

لكن أحمد رجب نسى الحوار وأخذ يرتجل قائلا: هل قلت يا بنى إنه يخيل إليك أنت أنك تسبح فى بحر من الدماء؟

فرد الديب: نعم يا أبتاه.

فقال رجب: وما لون هذه الدماء بالضبط يا بنى هل هى قرمزية أم وردية أم تميل إلى السواد؟

فهمس الديب: «إيه ده؟.. الله يخرب بيتك» فردّ عليه: «أصلى نسيت الكلام»، ثم ارتفع صوت أحمد رجب فجأة: «تكلم يا بنى، ما لون هذه الدماء التى تراها فى المساء ونجوم الليل تنتشر؟»، فضحك الجمهور، وتقرر فصل أحمد رجب من فريق التمثيل، فترك هواياته الفنية وقرر أن يتفرغ للعمل فى بلاط صاحبة الجلالة.

تخرج أحمد رجب فى كلية الحقوق عام 1951 قبل عام واحد من قيام ثورة يوليو، والتحق بدار «أخبار اليوم» وعمل مراسلا لمجلة «الجيل» فى الإسكندرية مع صديقه محسن محمد (رئيس تحرير «الجمهورية» فى ما بعد)، وفى هذا التوقيت كانت الإسكندرية مدينة هادئة تنام فى السابعة مساء، على حد تعبير أحمد رجب، لذلك كان يبذل مجهودا كبيرا من أجل أن تصلح موضوعاته للنشر فى مجلة توزع فى كل المحافظات.

ونجح فى ما أراده، وتفوق، ولفت الانتباه إليه، وذلك عندما ذهب موسى صبرى إلى مكتب «أخبار اليوم» بالإسكندرية فى صيف عام، 1951 ويروى صبرى تفاصيل ما جرى بقوله: لفت نظرى وأنا أراجع الأخبار المرسلة إلى القاهرة، أخبار مكتوبة بخط جميل، وبالحبر البنفسجى، وكلها أخبار جيدة عن الجامعة.. وسألت عن كاتب هذه الأخبار، فقدموا لى شابا متخرجا فى كلية الحقوق جامعة الإسكندرية وقدم هو لى مجلة كان يصدرها فى الجامعة، وبهرنى أسلوبه الكاريكاتورى الساخر، وعندما عدت إلى القاهرة بعد رحلة الصيف، طلبت من على أمين استدعاء هذا الشاب اللامع إلى القاهرة ليعمل فى مجلة «الجيل».. وكان هذا الشاب، هو أحمد رجب الذى أصبح ألمع كاتب ساخر فى مصر!

وبالفعل قرر التوأمان مصطفى وعلى أمين نقله من مكتب الإسكندرية للعمل فى القاهرة، ليبدأ أولى خطواته نحو عالم الكبار.

فى البداية كان يحرر بابا ثابتا بعنوان «هذه الجريمة لغز.. فتعالوا نحله معا»، وكان عبارة عن عرض وتحليل لإحدى الجرائم التى حدثت خلال الأسبوع ولم يستدل على مرتكبها، وظل يحرر هذا الباب لثلاث سنوات، انتقل بعدها لكتابة باب آخر بعنوان «أخبار الأسبوع»، وكان عبارة عن رصد وتعليق على الأحداث التى وقعت خلال الأسبوع، لكن بعد فترة من كتابته المنتظمة فى هذا الباب قام بتغيير طريقة تقديمه، وأصبح يكتب فيه عن المشاهير، فكتب فى هذا الباب عن عدد كبير من نجوم الفن والفكر منهم توفيق الحكيم ويحيى حقى وصلاح جاهين وصلاح أبو سيف.

فى هذا التوقيت جاء إلى أحمد رجب أحد العاملين بالإعلانات وقال له «عندى قصة حلوة ينفع تنشرها؟» وأخرج له صورة أحد أقاربه، وقال له: «هذا الرجل يعمل مقرئا وهناك سيدة سورية تحبه وتطارده»، وبالفعل أعجب أحمد رجب بالقصة وأطلق على المقرئ الشاب لقب «الشيخ براندو»، ونشر صورته التى تشبه الممثل العالمى مارلون براندو، واشتهر المقرئ وارتفع أجره من 30 جنيها إلى 300 جنيه، وصار واحدا من علامات قراءة القرآن فى مصر، إنه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، لكن بعد أن وصل الشيخ إلى قمة مجده طلب من الرئيس جمال عبد الناصر أن يقرر وقف نشر هذه الحلقات، وبالفعل تم وقفها.

لكن أطرف الأبواب التى كان يحررها أحمد رجب فى هذه الفترة هو باب «بختك هذا الأسبوع» الذى يروى قصته قائلا: أعترف أننى لا أفهم شيئا مطلقا فى علم الفلك، فكل معلوماتى عن هذا العلم تنحصر فى أن بالقاهرة شارعا اسمه شارع الفلكى. كذلك لا أفهم شيئا فى النجوم والتنجيم وقراءة الطالع، غير أن هذا لا يمنع من الاعتراف بأننى اشتغلت منجما ذات يوم، إذ كنت أحرر باب «بختك هذا الأسبوع»، وفى كتابة باب البخت لم أكن أشتغل بالتنجيم بقدر ما كنت أحاول بث التفاؤل فى نفوس قراء البخت، فما دام المنجمون كذابين ولو صدقوا، وما دامت المسألة مفترضا فيها الكذب فى النهاية، أليس هذا إذن أفضل من أن أقول للقارئ: مصيبة محترمة فى انتظارك، أو ضائقة مالية تنتهى بفضيحتك والحجز على هدومك؟ وكانت هذه تعليمات على أمين: بث التفاؤل فى كتابة البخت.

موهبة أحمد رجب كانت أكبر من حصرها فى باب بعينه، لذلك تدرج فى المناصب حتى وصل إلى منصب نائب رئيس تحرير مجلة «الجيل»، وكان أنيس منصور يتولى منصب رئيس التحرير، وفى الوقت نفسه تم اختياره ليكون مديرا لتحرير مجلة «هى» التابعة لدار «أخبار اليوم»، وكان مشهودا له بالكفاءة والحزم.

فى هذا التوقيت كان مسرح اللا معقول يسيطر على العقول، وكان مريدوه أغلبهم من نجوم المجتمع وكبار النقاد الذين يرون فيه النموذج لما يجب أن يكون عليه المسرح، وقتها قرر أحمد رجب أن يثبت أنه لا يوجد شىء اسمه مسرح اللا معقول، وأن «اللا معقول» هو ما يفعله النقاد الذين يروجون لهذا المسرح!

وبالفعل، وضع الخطة لأكبر خبطة صحفية عرفتها مصر، وقام بتنفيذها فى مجلة «الكواكب»، التى انتقل للعمل فيها بصحبة مصطفى وعلى أمين، فى مارس 1963 عندما نشر مسرحية أطلق عليها «الهواء الأسود»، وقال إنها مسرحية لم تُنشَر من قبل للكاتب المسرحى السويسرى الشهير «فردريك دورنيمات»، ودعا كبار النقاد للتعليق عليها باعتبارها إحدى روائع مسرح «اللا معقول»!وبالفعل علق عليها النقاد وأشادوا بروعتها، وبعبقرية مؤلفها، وبالدلالات المهمة التى تحملها، وبعد أن انتهت تعليقاتهم خرج عليهم أحمد رجب ليؤكد أن ما يفعله هؤلاء النقاد هو اللا معقول ذاته! وكشف أنه هو مؤلف هذه المسرحية العبثية وأن الخواجة فردريك دورنيمات لا علاقة له إطلاقا بهذه المسرحية.

بعد أن كشف أحمد رجب عن فضيحة الموسم الثقافية، التى أنهت أسطورة نقاد «اللا معقول»، علق طه حسين بقوله: «إنها عقدة الخواجة فعلا»، أما العقاد فقال: «هؤلاء النقاد المحترمون يجب أن يُساقوا إلى (محكمة التزييف) لحماية هذه الأمة من وبال دعواهم».

أما توفيق الحكيم فقد علق بقوله: «هذا مقلب ظريف ولطيف»، بينما قال إحسان عبد القدوس: «كل ما نرجوه من السادة النقاد أن يصروا على رأيهم الخطأ.. وأن يرفعوا أحمد رجب إلى مرتبة الكتاب العالميين»، وقال صلاح عبد الصبور: «إن هذا أعظم عمل نقدى للنقاد قامت به الصحافة طوال السنوات الأخيرة»!

لكن الغريب أن أحمد رجب فكر فى عمل خبطة صحفية أخرى لا تقل قوة عن فضيحة «الهواء الأسود»، ويروى قصتها بقوله: اتفقت مع فنان كبير أن أقوم بإخفائه لمدة شهرين على أن تتحمل دار «الهلال» مصاريفه خلال تلك الفترة، وخلال هذه الفترة أنشر خبر نعيه فى الصحف وأقول إن جنازته قد شُيعت من بلدته فى الصعيد، وبالفعل وافق الفنان الكبير الذى كان يعانى من قلة العمل على المقلب، لكنه تراجع بعد أن تم ترتيب كل شىء لتشاؤمه من الفكرة.

ويعلق أحمد رجب على عدم اكتمال هذه الفكرة قائلا: ضاعت عليه فرصة قراءة وسماع برامج تمجيده والإشادة بعبقريته، فقد كنت أنوى أن أظهر به بعد أن تكتب عنه كل الصحف ويتحدث عنه المخرجون والنقاد وأقول لهم «طيب الفنان أهه.. طلع عايش.. يا ريت بقى تشغّلوه عشان هو مش لاقى ياكل».

لسوء حظنا لم تكتمل هذه الفكرة الفذة، لكن «الهواء الأسود» كانت كافيه لترفع من أسهم أحمد رجب المهنية وتجعله من نجوم الصف الأول فى بلاط صاحبة الجلالة، فبعد أن كان يكتب باب «أخبار الأسبوع» فى مجلة «الجيل» أصبح يكتب أكثر من باب فى أكثر من مجلة، منها باب «س و ج» فى مجلة «آخر ساعة»، وهو عبارة عن سؤال يتوجه به إلى إحدى الشخصيات العامة ويجيب عنه بطريقة ساخرة.

وبعد «س و ج» ابتكر بابا آخر، هو «حديث لم يحدث» وهو عبارة عن حديث مع مسؤول كبير أو نجم شهير فى مجاله، ويدير فى هذا الحديث الذى لم يحدث مع المسؤول عن كل ما يدور فى ذهن الناس ويجيب بطريقة ساخرة عن الأسئلة التى طرحها، لكن بعد فترة توقف «حديث لم يحدث» وحل محله مقال ساخر فى الصفحة الأخيرة دون أن يكون له اسم ثابت، وكان من أوائل المقالات التى كتبها فى هذا المكان مقال بديع بعنوان «مع السلامة يا شباب» يقول فيه: «شىء لطيف جدا أن يكون الإنسان عنده شباب، وعنده صحة، وعنده علبة كبريت بتولع!

عن الصحة فالحمد لله، عن الكبريت فما زلت أعيش على أمل أن أشترى ذات يوم علبة تولع، أما الشباب فلا أملك -فى سن الأربعين- إلا أن أستعد لكى ألوّح له بيدى مودعا: مع ألف سلامة!

فى هذا التوقيت دخل أحمد رجب إلى غرفة العظماء، وبدأ رحلته مع «نص كلمة» التى خرجت إلى النور عمودا يوميا فى الصفحة الثامنة بجريدة «الأخبار» فى 11 من يوليو عام 1968، وعلى مدى نصف قرن من الزمن لم تتغير عاداته يوما!

فيمكن أن تضبط ساعتك عند ظهور سيارته أمام المبنى القديم لدار «أخبار اليوم» بالضبط.. تمام العاشرة ينزل من مقعده الأمامى المجاور للسائق ثم يمضى مباشرة إلى المدخل، إلى المصعد، إلى حجرته لا يلتفت يمينا أو يسارا، وإذا التقاه شخص ما فإنه يتحاور معه بسرعة، يجيب إجابات مقتضَبة، كأنه يعلن عن رغبته فى الانفراد.

بمجرد دخوله يتقدم ليغلق الباب الخارجى بالمفتاح، لمدة ساعتين يظل بمفرده، بعدها، يدق الجرس على عم محمود الزملكاوى، ليحمل -فى الثانية عشرة ظهرا- إلى سكرتارية تحرير «الأخبار»، ورقة بخطه تحتوى على سطرين أو ثلاثة أو أقلّ ربما سطرا واحدا، كلمات قليلة مكتوبة بخط كبير نسبيا، منسَّق، منمَّق، تبدأ سطوره على مسافة من حافة الصفحة وتنتهى قبل حدها الأيسر، تتوسط الفراغ الأبيض، لا يوجد فيها حرف واحد مشطوب -على حد وصف الأديب جمال الغيطانى- إنها «نصف كلمة» التى يكتبها يوميا فى جريدة «الأخبار».

هكذا يقضى أحمد رجب يومه داخل دار «أخبار اليوم»، فى الغرفة 53 التى اشتهرت بأنها غرفة العظماء، فقد جلس فيها توفيق الحكيم وجلال الحمامصى وكامل الشناوى وموسى صبرى وأنيس منصور ثم أحمد رجب الذى قابل أحد النشالين فيها، ويروى تفاصيل ما جرى فى لقائه معه قائلا: دقّ موظف الاستقبال التليفون الداخلى فى مكتبى ليقول لى إن نشالا يطلب مقابلتى، وخطر ببالى أن الزائر ما دام لم يذكر اسمه وقدم نفسه بصفته نشالا فلا بد أنه واحد من جيراننا الأوائل: ريشة أو نملة أو العقرب، جاء -فيه الخير- لزيارتى، وتمنيت فى سرى أن لا يكون القادم هو «تهتوهة» إذ إنه مصاب بلعثمة ينطق معها كلمة «اززززيك» فى ربع ساعة، وقلت لموظف الاستقبال دون أن أسأله عن اسم النشال إنى فى انتظاره، غير أن الزائر كان وجها جديدا لا أعرفه، قدم نفسه قائلا:

- محسوبك عبد الفضيل، نشال مَحافظ وعندى 39 سنة.

- جيت أتوب على إيديك.

فقلت لا بد أنه قريب واحد من جيراننا القدامى وصف له الطريق إلى مكتبى، وقبل أن أسأله راح يستحلفنى وهو يحتضننى ويقبل أكتافى أن لا أرده خائبا، بعد أن قرر أن يترك المهنة التى يأكل منها «بقلاوة» ويتوب على يدى، ثم قدم لى محفظتى التى نشلها من جيبى الداخلى ليثبت لى أنه نشال ممتاز ولا يريد الحرام.

واقتنع إحساسى بعزم عبد الفضيل على التوبة دون مبرر منطقى، واتصلت تليفونيا بالمهندس عثمان أحمد عثمان ورجوته أن يعينه ساعيا أو فراشا بـ«المقاولون العرب»، ولم أقل له إنه صاحب 39 سابقة نشل، فوافق المهندس مشكورا.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل