المحتوى الرئيسى

صداقات مؤقتة

10/17 10:04

في مقال طويل ممتع للكاتب الاسباني خوان غويتسولو يتحدث فيه عن صديقه ومعلمه الكاتب الفرنسي جان جينيه، الذي كان ضيفًا عليه وعلي زوجته الناقده مونيكا لانج في اسبانيا. يحكي غويتسولو في المقال ان احد اصدقائه حضر للمنزل في اثناء وجود جان جينيه، وكم اسَرَ حديث جينيه الضيف، وجعله يتعلم اشياء، ويبوح باشياء لم تكن لتخرج الا في وجوده. اعتقد هذا الضيف انه اصبح صديقا حميما لجينيه، لهذا الكاتب صاحب التجارب الكبيره، والمتناقضه في الحياه. الكاتب الشهير، اللص والسجين صاحب «يوميات لص»، صديق حركه الفهود السوداء بامريكا، ومناصر حركه «بادر ماينهوف» اليساريه في المانيا، واحد السائرين في مظاهرات الطلبه في 68. صديق الفلسطينيين، الذي ذهب الي مخيماتهم في بدايه السبعينيات، وعاش فيها وكتب «اسير عاشق». وكان شاهدًا بالكتابه علي مذبحه صبرا وشاتيلا، الذي دفن في مدينه العرايش بالمغرب في مقبره الجنود الاسبان المجهولين. اصبح الضيف لقمه سائغه وسط هذه الشبكه العنكبوتيه التي نصبها جينيه، بحسن نيه، بحكاياته ومفاجاته، وتجاربه، ومغامراته، التي جعلت الضيف يتضاءل حجمه حتي يود ان يكون تلك الفريسه التي تقع بكامل ارادتها وسط هذا الفخ الانساني المنصوب. في اليوم التالي سافر جان جينيه حتي دون كلمه وداع. جاءت كالصفعه علي وجه الصديق. نفسُ جينيه كالمحاره الصلده التي يعيش داخلها الكائن، يخرج منها ويدخل دون ميعاد، فقط بوحي من قلبه. صادف الضيف لحظه خروج هذا الكائن، فحسبها لحظه ابديه، وحسب انسحابه انتهاكا لصداقه عميقه دامت لساعات قليله.

في بدايه التسعينيات ذهبت لزياره اديره وادي النطرون. في احد الاديره التقيت بالاب موسي. صحبنا، انا وزوجتي، في جوله داخل الدير. عندما تقترب من بوابة واسوار الدير، اي دير، كانك تقترب من جسد له جلد رقيق، يمكنك ان تسمع وتشاهد خلاله ذلك الصوت الداخلي، الذي يتصاعد من اعماقه، صلوات، ابتهالات، شكايا، ندم، ودعاء. صوت الدير كصوت الانثي في تردداته الحاره. علي الرغم من ان لقاءنا بالاب موسي لم يتعد ساعات قليله، فانها كانت كافيه لتؤثر فينا، رقته وهدوؤه وانصاته العميق لكل ما حوله، صوتنا، صوت الصحراء المحيطه بالدير، وصوته الداخلي.

حكي لنا بصوته الهادئ والاسر والمجروح بعزله سنوات الصحراء، بانه تخرَّج في كلية الفنون الجميلة بجامعه القاهره، وربما هي المعلومه الوحيده التي قالها عن حياته الماضيه. تلك الحياه التي نسيها تماما، او يحاول نسيانها ليكتسب حياه جديده. في سنته الاولي في سلك الرهبنه، وقبل ان يقطع شوطا طويلا في هذه الناحيه من الحياه؛ عرفت امه بمكانه بعد مجهود مضن. كانت معترضه علي فكره دخوله الدير. ذهبت اليه وانتظرت علي الباب. جاءه من يخبره ان امه بالخارج تريد رؤيته. كانت اصعب لحظات حياته، اخذ يبكي وهو يبتهل الي الله ان يثبِّته، ويجتاز اختبار الامومه. اخبر الرسول انه لن يخرج لملاقاتها. تلك كانت اللحظه الفاصله، لكي يخرج من سجن الامومه، ويختار سجنا جديدا من المشاعر الزاهده والترقب والتصيد لحركات الرب وعلاماته، ليعيش فيه بقيه حياته.

عند دخول الدير تقام للراهب جنازه رمزيه. يشاهد موته بعينيه. يودع حياته السابقه، ويستقبل حياته الجديده. الفاصل بين الحياتين هو الموت. حياه الراهب نموذج مصغر لابديه: حياه ثم موت ثم حياه. في تلك الحياه الجديده يخلع اسمه القديم وياخذ اسما جديدا. هذا الموت الرمزي هو جوهر حياه الرهبان. لا تستقيم حياتهم الا بتسكين الموت داخل اجسادهم وذاكراتهم، سواء بتذكُّره كعلامه هامه، ام بتحويله الي طريقه للحياه، عبر اماته الشهوات والرغبات وكل النوازع الجسديه. انها حرب مع الجسد وذاكرته وامومته، حتي يرق هذا الجسد ويكتسب حريته ويصبح هشا وقابلا لان يذوب. اي ديانه داخلها مناطق الم ووجع، تتحول مع الزمن الي مراكز جذب للمشاعر، وربما هي المدخل الحميم للتعاطف والتمثل لهذه الديانه. ربما الالم، وتحمُّله، له ما يبرره في تاريخ الديانات، فهو جزء من البناء النفسي لها، ولولاه لتغيرت اشياء كثيره.

الساعات القليله، التي قضيناها مع الاب موسي، جعلتنا نشعر باننا صرنا اصدقاء له. بعد مرور سنه ونصف السنه علي هذه الزياره اشتقنا لزيارته. كانت هناك اقواس كثيره مفتوحه تشفع لنا في زياره ثانيه. استوقفونا علي بوابه الدير كالعاده. اخبرت الحارس بمرادي. كتب اسماءنا في ورقه صغيره، ثم اجري مكالمه تليفونيه وانتظر قليلا حتي ياتيه الرد، والسماعه لا تزال علي اذنه. نظر الينا وقال ان الاب موسي لا يمكنه ان يقابلنا. هكذا دون سبب. كانت مفاجاه غير ساره، فقد قطعنا لمقابلته مئه وعشرين كيلومترا. شعرنا بخيبه امل شديده. حاولت ان اجد عذرا له. لم يكن يحتاج الي اعذار، فربما لم يرد ان يغزل وشيجه عاطفيه جديده مع احد، وهو الذي قام بقطع كل وشائجه العاطفيه مع العالم القديم، فكيف اطالبه بما هو ضد فكره ايمانه؟

من منا لا يحب ان يكون جان جينيه او الاب موسي؟ ذلك الشخص المرغوب لشيء في حياته لا يراه هو. الشخص العصي عن الامساك به، ليس لبريَّته، وانما لدرجه من التوحد الخطر جعلت علاقته مع العالم الخارجي غير متوقعه وليس لها نظام ثابت. الاثنان، جان جينيه والاب موسي، عاشا تجربه خروج ذات جديده من ذات قديمه، كالعنقاء التي تخرج من الرماد. الاثنان ايضا لهما نفس مكانه الموت الرفيعه، وهذه الوحده العميقه والثريه التي يعيشان في كنفها، والشخصية الاسره، التي لا تعلم مصدر قوتها وجاذبيتها للاخرين.

اتصل بنا | شروط الاستخدام | عن الموقع

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل