المحتوى الرئيسى

نظرية الأقْفِيَة

10/08 18:46

استعير هذا العنوان من مقال كتبه صديقي الدكتور محمد علي العريان .. عندما زار مصر - بعد غيبه طويله - في اواخر عهد السادات، فهالَهُ ما لاحظ من انْقلاب في حياه المصريين: سلوكياتهم، وقِيمهم الاخلاقيه، وعلاقاتهم الاجتماعيه.. مما شكّل له صدمه، جعلته عاجزًا عن فهْم  مشاعر الناس الحقيقيه؛ لان تعبيراتِ وجوههم لم تعدْ تتاثر ولا تتغير بما يقولون او يسمعون.. وفي هذا يقول: "رايت اقنعه ولم ارَ وجوهًا حقيقيه..  لقد انْطمسِتْ الوجوه.. توارتْ خلف اقنعه صناعيه، لا علاقه لما يبدو عليها، بما يجري في العقول والمشاعر.."، ومن ثم راح يبحث عن هذه المشاعر في الاقْفِيِهِ بدلا من الوجوه.. حيث الاقفيه ما تزال اقرب الي الطبيعه، لا يُحْتَمَلُ معها تزوير في الانفعالات.. ومن ثم كان عنوان مقاله "نظريه الاقفيه".. فيها من الفكاهه الساخره بقدر ما فيها من الحسره والاسي..  

المزج بين السخريه والحكمه.. بين الجدّ والهزل، من  خصائص الدكتور العريان، لا في كتاباته فحسب، بل في حياته العامه: وله في هذا نوادر وطرائف لا حصر لها.. سمعت بعضها من الدكتور عبد الوهاب المسيرى، فقد كان تلميذ العريان في مدرسه دمنهور الثانويه.. وستجد الكثير من الصور الساخره في اخر كتاب له بعنوان: "العريان والزمان"، سجّل فيه خبراته مع الناس والحياه..

اخر رساله وصلتني منه يقول فيها: "اكتب اليك وانا في الطائره متوجِّهًا الي سويسرا، فقد وقعتُ علي الارض من الزحام اثناء اداء العمره، فتهَشّمتْ عظام الحوض، ونُصِحْتُ بالْتماس العلاج في سويسرا، لانها حالة معقّده؛ فانت تعلم انِّي مصاب بالسكّري وهشاشة العظام.. ولا ادري ان كنتُ ساراك امْ لا..؟ علي اي حال نلتقي ان شاء الله، في الدنيا او في الآخرة..!، وكان قد اودع عندي كُتبه قبل السفر.. فاضاف: "ستصلك وصيّتي بشان الكتب ان لم يُقدَّر لنا اللقاءُ في هذه الدنيا..".

 كان - يرحمه الله - لا يعوقُهُ عن اطلاق النكته الساخره شيء، حتي وهو في اشد حالات الالم.. وكانت له قدره فريده علي التصوير الكاريكاتيري للشخصيات التي ينتقدها؛ اذ يسدِّد اليها طعناتٍ رشيقه كوخْز الابَرِ، اما اذا استبدّ به الغضب والقرف من شخصيه مقزّزه، فانه يطعن بكلمات عنيفه، كالصّفع المُدَوّي علي الاقفيه، ومثال ذلك: مدير مدرسه عَمِلَ بها ايامًا، ثم تركها احتجاجًا علي اسلوبه الديكتاتوري في الاداره.. كتب في وصفه: "انه كائن لا يُطاق.. فقد كان مسْخًا مستبدًّا، مُفْرِطًا في الترهُّل.. يمتلئُ  مقعده بكرش يغطّي ركبتيه.. ويتَهَدَّلُ شحمه من الجانبين.. لا تكاد تميّز بين وجهه وقفاه عن باقي جسمه؛ فهو كتله واحدهٌ متّصلهٌ بلا عنق.. كلامه صياح ناشذ مختلط بِضُرات.. حتي لَتَسْمَعُ صوته وتشم رائحته الكريهه عن بُعدٍ..".

 ووصف هذه الشخصية مره فقال: "انها كتله مرَضيّه في جسم المجتمع؛ فالشحم المفرط المكتنز فيها، هو طعامٌ مسروقٌ من افواه عشرات الجوعي والمحرومين من ابناء المجتمع..!    

فما الذي استدعي هذه الصور، وبعثها من مَرْقدها في اعماق الذّاكره..؟!

انه مشهدٌ تلفازي مُقزّز لإبراهيم عيسي، وهو يجلس علي مقعدٍ كبير يملاه بجسم مكتظٍّ بشحمه المُتَنامِي، ويجلس امامه تابعٌ امّعه؛ هو رسّام  كاريكاتير مغمور، لم يجد ما يثير خياله المريض، سوي لحيه رئيس الجمهورية وقفاه،  ليرسمهما في اشكال منافيه للذوق، لا تثير خيالا ولا تنِمُّ عن موهبه.. جلس ابراهيم عيسي طول الوقت يسخر ويتطاول علي الرجل الفاضل بلا مبرر.. بعبارات واشارات بذيئه.. وهو يقهقه كانما اصابته نوبه من الاسهال الهيستيري الضاحك.. بلا سبب واضح.. فلم يكن في الامر ما يثير الضحك، بقدر ما يبعث علي الدهشه والاشمئزاز.. لقد تحول المشهد من اعلام ذي مضمونٍ محكومٍ بقواعدَ مهنيّه، الي غرزه حشاشين، في احط عشوائيهٍ مُنْفَلِتَهٍ من كل قواعد  الذّوْقِ والاخلاق...!

"القفا" كلمه عربية، لها في الادب والتاريخ والدين والسياسة وعلم النفس، والموروث الشعبي، استخدامات تكاد لا تُحصي.. ومع ذلك لم ترد في القران بلفظها ابدًا،  وانما اسْتُعيضَ عنها بتعبير مجازي يرمز اليها.. لحكمه لا يدركها الا الله.. ربما لسابق علمه انها ستكون مستودعا لنفايات لفظيه من السخريه والسخافات والسفاهات، تُسْتَحْضَرُ الي الذهن بمجرّد ذكرها كتابهً او نُطْقًا.. لذلك تجنّب القران استخدامها.. ولعل هذه واحده من معجزات القرآن في استشراف المستقبل البعيد..!

انظر الي قوله تعالي: {...مِنْ قَبْلِ انْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدّهَا عَلَي اَدْبَارِهَا...}، والطمس هو المَحْوُ؛ لذلك استنتج بعض المفسِّرين ان يتحوّل الوجه بالطمس مسطّحًا ممْسوحًا كالقفا، خالٍ من الملامح الانسانيه التي ميّز الله بها الوجه الانسانيّ.. وراي بعضهم احتمالا اخر للمعني، فقال: "ان طمس الوجوه هنا يعني رَدُّهَا الي الادبار، بجعْلِ ابصارهم مِنْ ورائهم.. ويحمتل ان يكون المراد هو: "الّا نُبقي لهذه الوجوه سمعًا ولا بصرًا ولا اثَرًا.. او نجعل وجوههم من قِبَلِ اقْفِيَتِهِم؛ فيمشون القَهْقَرَي، او نجعل لاحدهم عينين من قفاه.. بدلا من وجهه.. وهذا ابلغ في العقوبه والنَّكالْ".. 

ثم يضيف: "وهو مثلٌ ضربه الله لهم، في صرْفهم عن الحق وردّهم الي الباطل ورجوعهم عن المحجّه البيضاء الي سُبُل الضلاله.. حيث يمشون القَهْقَرَي علي ادبارهم..".

وقد لاحظ احد الظُّرفاء عرامهَ الغضب الذي استبد بالمصريين بعد الثوره، علي شخصيات بليده الحس، تربّعتْ في مقاعد السلطه اغتصابًا، وفي مقاعد الصحافه والاعلام ميراثا او عِمالهً، فقدّم نصيحهً عبقريّهً لامتصاص الغضب الجماهيري.. باقامه تماثيل في الميادين العامه تمثّل الشخصيات المكروهه من الشعب.. قابله للضرب علي القفا...!

من جانبي: ارشِّح لقائمه هذه الشخصيات المكروهه: ابراهيم عيسي وتابعه الامّعه.. مع لفيف من الصحفيين والاعلاميين الذين اتخذوا من الكذب بضاعه لتضليل الناس واللعب بعقولهم، ومن الختال والمكر اسلوبا في اصطياد المتحدثين خالي الذهن، لتوريطهم في تصريحات ساذجه، بُغْيَهَ السخريه والاستهزاء بهم، ارضاءً لاصحاب الفضائيات من اعداء الثوره المصريه..           

لاحظ الدكتور العريان في مقاله ان الاقفيه تتمايز في احجامها واشكالها وتقلّصاتها وحركاتها.. وان في كل حاله منها تعبيرا برّانيّا لما يدور في اخْلادِ اصحابها.. ثم مضي بعد ذلك يفصّل في خصائص واخلاقيات كل نوع منها، فهناك: المقتّر البخيل، والمبذر المستهتر، والخجول، والصفيق، والمستبد المتكبر، والمنافق المتلوّن، وصاحب الراي والامّعه، والفاجر المجاهر بفجوره، واللص المتسلل الي اموال الناس واعراضهم.. الخائض في شرفهم وسمعتهم.. الي اخر هذه الخصال البشريه المتباينه.. حتي اوضاعهم الاجتماعيه استطاع الدكتور العريان ان يقراها في اقفيتهم.. فكيف استطاع هذا..؟ لا ادري، ولم اناقشه في ذلك عندما عاد الي كانبرا في ذلك الوقت فقد كنت مشغولا باشياء اخري..

 في هذا السياق، تنصح سيده عربيه علي موقعها الالكتروني قريناتها بدراسه اقفيه ازواجهن، للتعرّف علي صفاتهم واخلاقهم. اما انا فاعتقد ان المخطوبات اولي بهذه النصيحه، في الاهتمام باقفيه خُطّابهنّ قبل ان تقع الفاس في الراس...!

 ولا يهمّ بعض الساخرين من اخوانهم الا درجة حرارة  الاقفيه فيسالون: "هل اصبح قفاك ساخنا لتسويه الخبز عليه..؟" وهذا هو المعادل الموضوعي للمثل الشعبي: "خرج وقفاه يقمّر عيش".. ومن امثله السخريه بالشخص الصفيق "المتنّحْ لا علاج له الا الصفع علي القفا.."، ومن الاستخدامات المبتذله لكلمه "اقفيه" ما يذكره صحفي لبناني عميل لبشار الاسد، وهو يتهكّم علي الثورة السورية، معلِّقًا علي صورٍ ماخوذه لبعض المتظاهرين من الخلف فيقول: "انها ثوره الاقفيه..".

 ويذكر لنا  التاريخ ان احد اباطره الرومان كان يحلو له ان يامر بتركيع صفّ من العبيد ليمشي بحذائه علي اقفيتهم متّجهًا نحو عرشه.. وقد رايت بنفسي نموذجا مصغّرا لهذا، صباح يوم من ايام عام ١٩٤٣م - وانا ذاهب الي مدرسه  "الفاروقيه الابتدائيه بالزقازيق" علي باب معسكر مجاور للمدرسه - ضابطًا انجليزيا اشار الي جندي من السيخ ان يركع، ثم وضع حذاءه علي قفاه ليرتفع عليه الي صهوة جواده.. وكان ضرب السياط علي الاقفيه من اساليب التعذيب التي مارستها الكنيسه ضد معارضيها في اوروبا.. فيما عرف باسْم "محاكم التفتيش".

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل