المحتوى الرئيسى

المستشار اشرف البارودي يكتب: إعلان حب

10/06 17:04

المشهد الأول : المكان والزمان، سيناء قبل عدة سنوات، كانت هي المرة الوحيدة التي زرت فيها دير سانت كاثرين ، ذهبت بصحبة "أخويا باتريس" (كما اعتدت أن أناديه) وقد اصطحبني في سيارته السيتروان الخضراء من الاسكندرية ذهابا وإيابا. كان لدي مشروع روحي كبير هو الصلاة لله سبحانه وتعالى طوال اليوم في المسجد والكنيسة تذللا واسترحاما وطلبا للمغفرة، في داخل الدير يوجد مسجد صغير جميل أبيض اللون مبني على قمة مرتفعة، تحتضن مباني الدير المسجد الصغير في إعلان حب، وهاهو المعمار يتكلم!

صعدت للمسجد لكني للأسف وجدته مغلقا وقيل لي أن الإمام غائب لبعض الوقت، وفي طريقي للكنيسة وقفت أمام ورقة أثرية مكتوبة ومعلقة على حائط داخل برواز زجاجي بأطر خشبية، كان ذلك عهد النبي صلي الله عليه وسلم لرهبان الدير، عهد بالأمان والمحبة ، وحرية العبادة، والحماية، والدفاع ولو بالسيف إذا لزم الأمر.

تذكرت أن المسلمين المهاجرين الأوائل قبل سنوات قليلة من ذلك العهد، كانوا قد حصلوا على عهد مشابه من النجاشي ملك الحبشة المسيحي نفاذا لوصية نبينا محمد وقد وصفه بأنه "ملك لا يظلم عنده أحد!" .

كانت الكنيسة من الداخل بديعة مبهرة ساكنة فائقة البساطة والجمال، قرأت الفاتحة ثم غرقت في الدعاء لله رب السموات والأرض أن يلقي في قلوبنا بالسلام والسكينة والحب، وأن يغفر لنا ويرحمنا بحق أنبيائه وكتبه ورسله ، بحق محمد وعيسى عليهما السلام وبحق أمنا العذراء مريم البتول، إلى أن سمعت بعض الضجيج فالتفتت لأجد مشهدا غريبا يقطع السكون، سائحات أجنبيات يدخلن الكنيسة، كن يسترن أجسادهن أولا على الباب، ويضعن طرحة على شعرهن قبل الدخول، وفي ثوان امتلأت الكنيسة بالمحجبات المسيحيات !

لا فرق بين مظهرهن ومظهر المسلمات، كله شبه بعضه وكأنه يوم الحشر حيث لا ينشغل الإنسان سوى بنفسه رجاء المغفرة ، لكل امريء يومئذ شأن يغنيه،عدت للدعاء، استغرقت، وتحول حزن القلب لطبقة من الدموع وأنا أتمثل مشهد المهاجرين الأوائل ، وفي قلب استغراقي شعرت بعينين ترقباني، التفتت لأجد أحد القساوسة ينظر إلي من بعيد دون أن أشعر، لا يزال شابا ، أبيض الوجه بعينين بنيتين واسعتين ولحية بنية وتبدو قسمات وجهه متبسمة باستمرار، تبادلنا النظرات للحظة قبل أن يشير إلي بالاقتراب ودنا مني هو أيضا لنقف على جانبي حاجز عبارة عن حبل مخملي يفصل جزءا من الكنيسة ممنوع دخوله إلا للاقباط اليونانيين، حيث يحتفظون برفات يد القديسة كاثرين في صندوق زجاجي وحجر موسى ، تبادلنا التحية ثم إذا به يميل علي ليسألني همسا" هيا الطائفة والملة بتاعتك إيه ؟!"

نظرت إليه مذهولا وخاطرة تبرق في ذهني بسرعة الصاروخ "يا دي النيلة! حاقول له إيه بس!" أجبت وقد اتسعت ابتسامتي " أنا مسلم يا أبونا!" ، ابتسم هو أيضا وقد فهم سبب ابتسامتي، فهمس ناظرا في قلب عيناي بعينين ضاحكتين تطفحان بشقاوة مصرية خالصة "زي بعضه!! تصلي معايا؟!" وجاء ردي على الفور" ليا الشرف يا أبونا!" ، تلفت أبونا يمينا ويسارا ليتأكد أن أحدا لا يراه ، ثم رفع الحبل يسرعة لكي استطيع المرور من تحته وكأننا عاملين عملة تاركا خلفي باتريس الذي لم يلحظنا . أخويا باتريس من الممنوعين أيضا لأنه ينتمي لطائفة الأرمن، قبل عدة أشهر في رمضان سألني باتريس أين أصلي التهجد فأجبته في مسجد المتيم تحت بيتي، فأوصاني بالصلاة في مسجد القائد ابراهيم لأن الشيخ حاتم "صوته حلو"، فرددت يومئذ ضاحكا "وماتجيش غير منك انتا يا واد! " وانفجرنا في الضحك، ولكنني نفذت النصيحة .

باتريس نفسه صوته حلو، وقد دعاني بفخر عدة مرات لأستمع إلى بروفات التراتيل التي يغني فيها في كنيسة الأرمن بالاسكندرية، التراتيل فعلا بديعة ما أجملها، ولأن إسمه غريب على آذان الكثير من المصريين الطيبين البسطاء فقد كان يغير إسمه احيانا من باتريس إلى عتريس!بالصدفة، باتريس له سنة أمامية راكبة قليلا على السنة المجاورة لها مثلي تماما، كنا عندما نبتسم لبعضنا أتخيل أننا انضربنا زمان في وجهنا ببوكس واحد، أو أننا إبان الطفولة لبسنا بوجهينا معا في ذات الحائط ! يدي في يد أبونا نسير إلى الداخل، شاهدت يد القديسة كاثرين ووقفنا للحظات أمام حجر موسى، ثم جاءت لحظة الصلاة والدعاء، لم أشعر كم مر من الوقت إلى أن انتهينا وسلمنا على بعضنا، ثم قال لي أبونا همسا"تعال، سأخرجك من الباب الخلفي!" وهكذا سربني أبونا من باب صغير ، ولم ينس أن يتلفت يمينا ويسارا قبل أن يشير لي بالخروج وكأننا عاملين عملة ! خرجت ثم التفت خلفي لألقي على أبونا نظرة أخيرة قبل أن يغلق الباب لأجده واقفا خلفه ينظر إلي بابتسامة، نظرت إليه مودعا وأنا أشعر أني أحبه من أعماق قلبي وبأنه أخي وحبيبي وقطعة من روحي. وما هي إلا خطوات حتى وجدت باتريس تائها يبحث عني ليفاجأ بصياحي فيه وكأني هبطت عليه من السماء " يا خيبتك يا خيبتك، انتا ما تدخلش ، أنا بقى .. دخلت!!

المشهد الثاني: منذ زمن بعيد جدا كنت أعيش وحدي في بيتي بالاسكندرية، وكان أن انتقل أمجد صديقي العزيز ليقيم معي لعدة أشهر، نأكل ونشرب ونذهب ونعود سويا ، جلسنا على الأرض نتفرج في استغراق على الفيلم العبقري "الناصر صلاح الدين" القائدين حسام واسماعيل .. وعيسى العوام، وبكينا سويا على المسجد والكنيسة والقدس التي ضاعت(إلى حين)، كان اليوم التالي هو عيد ميلاد سيدنا المسيح، كنت وأمجد نستعد للذهاب إلى كنيسة سان مارك آخر شياكة لابسين اللي عالحبل!

أثناء نزولنا على السلم شعرت بتأنيب ضمير مفاجيء فهتفت أناديه"أمجد!" فالتفت إلي متسائلا فقلت له" فاتتني صلاة العيد السنة دي عشان راحت عليا نومة ، أقوم أصلي معاك في الكنيسة؟!" ابتسم أمجد بخبث بريء قائلا" ياللا زي بعضه، يمكن ربنا يهديك!" فصحت مستنكرا وأنا اضحك "امششششي!" كان صوت ضحكنا عاليا أزعج أحد الجيران فخرج ينظر إلينا بتكشيرة لا تفرق بين مسلم ومسيحي! هربنا بسرعة وأنا أقول له" ياللا يا بني لا تحصل فتنة طائفية في بير السلم!".

المشهد الثالث: في بيتي في دبي اتفرج ملتاعا على شريط أخبار الحكومة يطلب من المصريين حماية جيشنا الباسل من "المتظاهرين من الأقباط"!! دعوة صريحة للقتل، نظرت ملتاعا للنار والدخان في ماسبيرو، أقشعر بدني وتثلجت أطرافي وأنا أسابق الزمن للمطار ثم إلى مصر. في الطائرة البطيئة تذكرت أمجد الذي حاول الهجرة إلى أمريكا بحثا عن حياة أفضل وكان هذا هو حلمه الكبير، ولكنه عاد بعد شهر حزينا وقد سدت كل السبل في وجهه، أخبرني أنهم أخبروه أن كل الأبواب الأمريكية ستفتح له فقط إذا قدم طلبا للجوء السياسي يقول فيه أنه يتعرض للاضطهاد الديني في مصر! وهكذا ضاع حلم أمجد، تذكرت باتريس وهو يقول لي هامسا"أشرف..أنا خايف! لو حصل حاجة في مصر حاروح فين بس!!" وأتذكر ردي عليه" ماتخافش، أنا حادافع عنك!".

تهبط الطائرة لأجري على ماسبيرو، وتحت النار وفي قلب القبح كانت هناك دماء مايكل، ومينا دانيال . في الليلة التالية ذهبت إلى ميدان التحرير، لأجد عددا قليلا من البشر، مسلمين ومسيحيين يهتفون كالغرباء" مسلم، مسيحي، إيد واحدة!"لمحت من بينهم سيدة محجبة تهتف بحماس شديد، اقتربت منها لأجدها تلك النوارة، النوارة النجم، وفي اسمها قاسم منها، جلست صامتا بجوار شاب صغير بشعر أسود فاحم وجسد شديد النحافة، بعد فترة مددت يدي لأسلم عليه قائلا" أنا أشرف" فرد علي قائلا " أعرف ، وأنا مينا" فترة من الصمت ثم رأيته يتأمل في وجهي، وإذا به يحاول أن يواسيني قائلا" معلهش، ما تزعلش!"نظرت إليه مذهولا ثم صحت في وجهه "يا ابني هوا انتا مابتاكلش؟! حاتتجوز ازاي كده؟"ضحكنا، واخذته في حضني وكأنه ولدي وأنا أهمس له من كل قلبي " سامحني يا ابني!" وجاءني رده بيده وهي تربت على ظهري .

المشهد الأخير : المسيحيون يطردون من ديارهم ويقفون بالطوابير أمام السفارات الأجنبية، قلبي يقطر دما . لقد كان أول ضابط مصري استشهد في حرب أكتوبر على الإطلاق هو اللواء/ شفيق متري سدراك في يوم 10 أكتوبر1973 ، وكان يقود فرقة مدرعة تابعة للفرقة 16 القطاع الأوسط من سيناء، استشهد لأنه لم يطق صبرا على قواته فتركها واندفع وحده إلى الأمام عدة كيلومترات يقاتل إلى أن استشهد. وهاهم المسيحيون اليوم ينفذون نصائح الدعاة المتبارين في القبح بعد أن كفرونا جميعا ، خصوصا ذلك العبقري الذي قال " إللي مش عاجبه شرع الله يركب طيارة ويمشي!"، ليس حزنا على مصر التي يتغير وجهها إلى وجه متطرف قبيح، وليس حزنا على الوحدة الوطنية إياها، ولكن حزنا على المسيحيين مباشرة دون أي سبب آخر، أما مصر، فهي اليوم ليست إلا مسرحا يتقاتل فيه الكل مع الكل،سيناء، السلفيون، الإخوان ، الأحزاب ، القوى السياسية، اللجنة التأسيسية ، ومصريون في الشوارع يطلقون النار على بعضهم بعضا ، كله عايز كله بما لا يخالف شرع الله!!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل