المحتوى الرئيسى

هدية إلى الزعيم فى ذكرى رحيله

10/04 08:49

لم اذهب يوما الي ضريح الزعيم في ذكري رحيله، وانما تعودت ان اغتنم اي فرصه وانا امر به للوقوف دقائق قليله لقراءه الفاتحه، خاصه عندما كان الضريح مفتوحا في اي وقت قبل ان يغلق لاعتبارات قدرتها اسره الزعيم في حينه. كنت اصادف احيانا واحدا او اسره يفعلون ما افعله، وكان التاثر دائما يبدو واضحا علي وجوه الزائرين، وفي احدي المرات دخلت الضريح فوجدت فلاحا متهدم البنيان يبكي بحرقه امام الضريح دون ان ينبس بحرف، وقدرت حاله اذ كانت الهجمه علي انجازات الزعيم قد بلغت ذروتها، ومن يدري فقد يكون فلاحا سُلبت منه ارضه التي سلمها له عبدالناصر في 1952، وفي مره ثانيه دخلت لاجد عربيا من الخليج يقف في خشوع امام الضريح ويدعو لصاحبه بصوت مسموع، وهلم جرا. لكنني هذه المره بالذات احسست ان الذهاب الي الضريح في ذكري الرحيل له معني خاص ورساله الي من يعنيه الامر بان المشروع مازال حاضرا وصالحا ومطروحا للمساهمه في بناء المستقبل.

مر بي وانا في طريقي الي الضريح شريط طويل من الذكريات عن تاثير الرجل ومكانته. حُفر صوته في قلبي وانا ابن السابعه وهو يواصل خطابه في جماهيره لحظه محاوله اغتياله في 1954، وكذلك وهو يعلن بعد سنتين تاميم شركه قناه السويس. لم اكن افهم ما يدور انذاك، لكن ابن التاسعه قدر في عام 1956 ان وطنه يمر بمخاض عسير وميلاد جديد. مازال الصوت يلازمني ولا انساه وهو يعلن في انكسار في اكتوبر 1961 قبوله الامر الواقع بعد الانقلاب العسكري الذي فصم عري الوحده المصريه ــ السوريه، او وهو يتحمل في شجاعه في يونيو 1967 مسئوليه الهزيمه وحده ويعلن تنحيه عن منصب الرئاسه. عادت بي الذاكره الي ايام الرحيل في 1970 والحضور الجماهيري غير المسبوق وفاء للزعيم في رحلته الاخيره. تذكرت عام 1966 عندما ذهبت مع وفد محدود العدد من شباب الجامعات لزياره تركيا، وقيل ان هذه خطوه ضمن خطوات مماثله لاذابه الجليد في العلاقات المصريه ــ التركيه، وهناك فوجئنا بان عددا من شباب فلسطين الذين كانوا يتلقون دراستهم الجامعيه في تركيا انذاك يحيطون بنا اينما ذهبنا، ويلاحقوننا في كل مره باسئله لا تنتهي عن عبدالناصر علي نحو ما يسال الحبيب عن محبوبته، ثم يستحلفوننا لحظه المغادره بالله وبكل غالٍ لدينا بان «ناخذ بالنا» من عبدالناصر وكاننا من افراد اسرته او العاملين الي قربه او بعض حرسه.

امتد بي شريط الذكريات الي عام 1976 في اثناء وجودي في «لاهاي» في منحه لاستكمال المعلومات المطلوبه لرساله الدكتوراه كنت شديد الداب في العمل لقصر المده وكذلك كان زميل شاب من المغرب (اصبح وزيرا للتربيه في بلاده لاحقا) ظللنا نجلس متباعدين شهرين من الشهور الثلاثه المخصصه للمنحه. كنت اتجنبه صراحه بسبب تدهور العلاقات المصريه ــ المغربيه انذاك نتيجه الانحياز المصري للثورة الجزائريه في صدامها العسكري مع الجيش المغربي كواحد من تداعيات الخلافات الحدوديه بين البلدين، وظل الحال كذلك الي ان جمعتنا مائده واحده في حفل عشاء اقيم علي شرف الممنوحين فسالني عن بلدي فقلت له وصارحته بما كان يدور في نفسي، فاذا بعلامات الدهشه البالغه ترتسم علي وجهه ويردد في شجن: عبدالناصر! اتعلم ان صوره موجوده في كل بيت مغربي اكثر من صور الحسن الثاني بكثير؟ ثم تصل بي الذكريات الي جلسه جمعتني في اوائل التسعينيات مع مليونير سعودي (لعله اصبح مليارديرا فيما بعد) كان يمول العمل البحثي الذي كنت علي راسه في اطار واحد من المراكز البحثيه العربية المرموقه، وقلت لنفسي ساعتها تري ما هو الحديث الذي يمكن ان يدور بين باحث لا يملك سوي راتبه وبين مليونير، فاذا بالرجل يقطع صمتي ساعتها ويقول: حدثني عما الت اليه تجربه عبدالناصر في مصر، وما ان بدات في الكلام حتي انخرط في حديث فائق الرومانسيه عن الرجل، وكيف كان يتحايل هو وغيره من الشباب السعودي المؤمن بالتجربه كي يروا عبدالناصر في زيارتيه للسعوديه في عام 1954 (للعمره والتنسيق) و1965 (للتفاوض علي اتفاقيه جده التي كان من المفترض ان تضع حدا للحرب الاهليه اليمنيه انذاك).

ذكرني هذا علي الفور بالجلسه التي جمعتني اواخر التسعينات في اثناء فاعليات مهرجان الجنادريه واثنين من المصريين احدهما صديق عزيز مع قياده سعوديه بارزه (عليها رحمه الله) كانت تشغل منصبا رفيعا في منظومه الحرس الوطني تحت قياده الامير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد انذاك. استضافنا الرجل في بيته وما كدنا نجلس حتي قال: اريد ان اعرف من انتم؟ ما هي افكاركم؟ كان لطلبه وقع المفاجاه، وكنت بحكم جلستي الي جواره اول المتحدثين. صعب علي المرء ان يكون ظاهره مناقض لباطنه، فحسمت امري اذ فات اوان التقيه وقلت انا من ابناء ثوره يوليو، ومن انصار زعيمها مع اعترافي باخطاء التجربه، فاذا بالرجل الوقور يربت علي ساقي برفق ويقول: ابق علي ما انت عليه. لكن صديقي والزميل العزيز الثالث كان رايهما غير ما رايت بل ان حديث ذلك الزميل في نسف تجربه عبدالناصر قد شابته حده ظاهره. فاذا بالرجل ــ وليس انا ــ من ينبري للرد عليهما، ثم اخذ بعدها يروي كيف كان عبدالناصر هو مصدر الامل له ولغيره من الشباب السعودي في الاصلاح، وكيف حاولوا المستحيل في بدايه الثوره ان يلتقوا بعبدالناصر في القاهره، لكن محاولاتهم باءت بالفشل الي ان علموا يوما انه سيحضر عرضا سينمائيا في سينما «ريفولي» فانتظروه حتي انتهي العرض واستوقفوه للحديث والحوار وطلب الراي، فوقف معهم بعض الوقت بعد ان امر حرسه بعدم التعرض لهم، ودار بينهم حوار ثري كان لايزال ماثلا في ذهن مضيفنا.

انقطع بي شريط ذكرياتي الذي لا ينتهي عندما وصلت السياره الي الضريح. وجدت صوره مصغره لانصار الزعيم ومشروعه: حضور من افراد اسرته وبعض مساعديه الذين حملوا باقتدار مسئوليه ما كلفوا به من مهام وطنيه رفيعه، ونخبه من المثقفين والسياسيين المصريين والعرب انحازوا اليه اقتناعا لا نفاقا، ومازالوا علي موقفهم حتي الان، لكن اللافت كان الحضور القوي للشباب وهذا يحمل معني الاستمرار، وكذلك المراه، وهي رساله مهمه لمن يريدون الغاء وجودها، بل ولاطفال لابد انهم سمعوا شيئا عن الزعيم وسيرته من اسرهم، غير ان التطور الاهم في هذه الذكري كان اعلان اندماج الاحزاب الناصريه الاربعه في الساحه المصريه. كان يؤرقني دائما ان الشارع الذي ظلت غالبيته علي ايمان بمشروع يوليو رغم كل محاولات الهدم قد حمل وزر الضعف المؤسسي الذي شاب تجربه عبدالناصر، فكانت الاحزاب الناصريه اينما وجدت في الوطن العربي ضعيفه، والاخطر منقسمه علي نفسها، وادي هذا الي دخول بعضها احيانا في تحالفات غير سويه مع من يفترض انهم خصوم مشروع يوليو، ولا انسي عندما كنت اتلقي دعوات من الحزب الإشتراكي العربي الناصري لالقاء محاضره او المشاركه في ندوه كيف هالني في المره الاولي ان المكان غير لائق ولا ازيد، والحضور بالغ الضعف، والفوضي تسود الموقف بصواني الشاي التي تتراص فوقها اكواب الشاي المتلاصقه، وبحاملها الذي لا يفتا يخترق الصفوف كي يبيع بضاعته، وكلما وجد زبونا اخذ يقلب له السكر في كوبه بحماس فائق تنتج عنه اصوات مزعجه تخرج المرء عن تركيزه، ويرتفع من حين لاخر صوت مسئول كبير في الحزب يصرخ في بائع الشاي دون جدوي، وكيف كنت اغادر المكان في كل مره محبطا مكتئبا.

في هذه المره اختلف الامر، فقد اظهرت الانتخابات الرئاسية ان انصار يوليو وزعيمها ليسوا قله، حصل حمدين صباحي وهو من ابرز الرموز الناصريه علي المرتبه الثالثه في الجوله الاولي بخمسه ملايين صوت، وهو عدد اكثر من كافٍ لاطلاق «تيار شعبي» او البدء في تاسيس حزب ناصري قوي. صحيح ان نسبه من الاصوات التي حصل عليها حمدين قد تكون ذهبت اليه لشخصه والحمله الانتخابيه الناجحه التي ادارها، لكن المعنى الواضح ان نحو خمس الي ربع الهيئه الناخبه الفاعله يناصر مرشحا ناصريا، او علي الاقل لا يجد غضاضه في ان يكون رئيسا للجمهوريه، ولذلك كان لابد من البناء علي هذه الحقيقه، وقاد صباحي عمليه تكوين «التيار الشعبي» واطلاقه، ثم جاءت خطوه الاندماج بين الاحزاب الناصريه الاربعه في الساحه المصريه، وهي خطوه في الطريق الصحيح اتمني ان تكون نابعه من احساس داخلي بالحاجه الي الوحده في التنظيم والحركه وليس من مجرد تنسيق ضروري لابد وان يسبق الانتخابات التشريعيه الموعوده، وان تؤدي الي تراجع المصالح الضيقه لحساب الصالح الوطني، وان تكون بدايه لمؤسسه حزبيه قويه وراسخه والا ضاع الجميع، وان تعقبها جهود هائله كي يمكن لهذا التطور ان يسهم في بناء مصر الجديدة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل