المحتوى الرئيسى

من مدينة الجن والملائكة.. إلى عشوائيات سفوح التلال

09/27 10:50

المدينة.. العالم الذى صنعه الإنسان ويستنكره على الدوام. والحق فى المدينة لا يقتصر على حرية الفرد فى الحصول على الموارد الحضرية؛ بل هو الحق فى تغيير أنفسنا بتغيير المدينة، وذلك من خلال ممارسة سلطة جماعية لإعادة صياغة عمليات التحضر. تصادف نشر هذه الورقة البحثية للأكاديمى البريطانى ديفيد هارفى، المتخصص فى علم الانثروبولجيا والجغرافيا، منذ عدة سنوات، والتى تحمل نفس عنوان حملة «الشروق»، مع صدور كتاب جديد للمؤلف حول موقع المدينة فى قلب الاحتجاجات والثورات على مر العصور، وحتى أحداث وول ستريت وما شابهها.

نحن نعيش فى عصر انتقلت فيه مبادئ حقوق الإنسان إلى مركز الصدارة، سياسيا وأخلاقيا على حد سواء. وهناك جهد كبير يبذل فى الترويج لأهميتها فى بناء عالم أفضل. لكن الجانب الأكبر من المفاهيم لا يدور بالأساس حول تحدى منطق السوق الليبرالى والنيوليبرالى المهيمن، أو الأنماط السائدة للشرعية وتصرفات الدولة. إننا، وقبل أى شىء، نعيش فى عالم تسبق فيه حقوق الملكية الخاصة ومعدلات الفائدة ما عداها من الحقوق.

هل أسهمت عملية التحضر المذهلة التى شهدتها الأعوام المائة الماضية، بالسرعة والمستوى الذى بلغته، فى رفاهية الإنسان؟ إن المدينة عند عالم اجتماع التحضر روبرت بارك هى:

«أنجح محاولات الإنسان لإعادة صنع العالم الذى يعد أكثر ما يعيش فيه بعد رغبات قلبه. لكن إذا كانت المدينة هى عالم من صنع الإنسان، فهى كذلك العالم الذى يستنكره منذ أن يسكنه. وبهذا، وبشكل غير مباشر، ودون أى إحساس واضح بطبيعة مهمته، يعيد الإنسان صنع نفسه وهو يصنع المدينة».

والسؤال عن نوع المدينة التى نريدها لا ينفصل عن السؤال حول نوع الروابط الاجتماعية والعلاقة بالطبيعة وأسلوب الحياة والتقنيات والقيم الأخلاقية التى نتمناها. والحق فى المدينة لا يقتصر على حرية الفرد فى الحصول على الموارد الحضرية؛ بل هو الحق فى تغيير أنفسنا بتغيير المدينة. وهى، فوق هذا، حق عام وليس فرديا، حيث إن هذ التحول يعتمد على ممارسة سلطة جماعية لإعادة صياغة عمليات التحضر. وأود أن أقول إن صنع مدننا وأنفسنا وإعادة صنعها هو من أثمن حقوقنا الإنسانية، وإن كان أكثرها إغفالا.

منذ بدايتها، ظهرت المدن من خلال التجمعات الجغرافية والاجتماعية لفائض الإنتاج. ومن هنا، يعتبر التحضر دائما ظاهرة طبقية، حيث يسحب الفائض من مكان ما ومن شخص ما، بينما يكون التحكم فى توزيعه عادة بيد القلة. وبالطبع، يستمر هذا الوضع العام فى ظل الرأسمالية؛ لكن بما أن التحضر يعتمد على حشد فائض الإنتاج، فهناك علاقة وثيقة بين تطور الرأسمالية والتحضر. وعلى الرأسماليين تقديم المزيد من الإنتاج لإنتاج قيمة مضافة؛ وفى المقابل، يجب إعادة استثمار هذا لتحقيق المزيد من فائض القيمة. وتكون نتيجة إعادة الاستثمار المتواصل زيادة فائض الإنتاج بنسب مركبة وبهذا ترتبط المنحنيات اللوجستية (النقود والناتج والسكان) بتاريخ التراكم الرأسمالى، وتتوازى مع طريق نمو التحضر فى ظل الرأسمالية.

إن الحاجة الدائمة إلى إيجاد مجالات مربحة لإنتاج واستيعاب فائض إنتاج رأس المال هى التى تشكل سياسة الرأسمالية. كما ينبغى أن يكتشف الرأسماليون وسائل جديدة للإنتاج عموما وللموارد الطبيعية بصفة خاصة، وهو ما يفرض ضغوطا متزايدة على البيئة الطبيعية للحصول على المواد الخام اللازمة واستيعاب الهدر المحتم. إنهم بحاجة لفتح مجالات لاستخراج المواد الخام، وهو ما يشكل فى العادة هدفا للمساعى الاستعمارية والاستعمارية الجديدة.

كما أن قوانين المنافسة الشرسة تقضى بتطبيق تقنيات وأشكال تنظيمية جديدة، لأنها تمكن الرأسماليين من التفوق على أولئك الذى يستخدمون أساليب متدنية. والمبتكرات تحدد الرغبات والاحتياجات الجديدة، وتقلل الدورة الزمنية لرأس المال واختلاف المسافات، الذى يقيد المجال الجغرافى الذى يمكن للرأسماليين البحث فيه عن إمدادات كبيرة من قوة العمل، والمواد الخام، وغيرها. وإذا لم تكن هناك قوة شرائية كافية فى السوق، فلابد من إيجاد أسواق جديدة من خلال توسيع التجارة الخارجية، وتشجيع المنتجات وأساليب الحياة المبتكرة، وخلق أدوات جديدة للائتمان، والدولة القادرة على تمويل الديون والإنفاق الخاص. وأخيرا، إذا كان معدل الفائدة منخفضا للغاية، يمكن التغلب على هذا عن طريق تنظيم الدولة لـ «المنافسة المدمرة»، والاحتكار (عمليات الاندماج والاستحواذ) وتصدير رأس المال.

وإذا تعثر إزاحة أى من العوائق السابقة فلن يتمكن الرأسماليون من إعادة استثمار فائض إنتاجهم. وإذا تعثر التراكم الرأسمالى فسوف يواجهون أزمة يمكن أن تكون سببا فى انخفاض قيمة رأسمالهم بل وتلاشيه فعليا فى بعض الحالات. إذن، كيف تسهم الحاجة إلى تجاوز هذه العقبات وتوسيع مجال النشاط المربح فى تعزيز التحضر الرأسمالي؟ أرى هنا أن التحضر له دوره الفعال، إلى جانب ظواهر مثل الإنفاق العسكرى، فى امتصاص فائض الإنتاج الذى يواصل الرأسماليون تقديمه فى بحثهم عن الربح. 

لنأخذ أولا حالة باريس خلال الامبراطورية الثانية. فقد شهد عام 1848 أول أزمتين، واضحتين وعلى نطاق أوروبا، لفائض رأس المال غير المستغل وفائض قوة العمل. وقد ضربت الأزمة باريس على وجه الخصوص بشدة، وانتهت بثورة قام بها العمال العاطلون والبرجوازيون الطوباويون الذين رأوا فى الجمهورية الاجتماعية ترياقا للنهم والظلم الذى ميز ملكية يوليو. وقمعت البورجوازية الجمهورية الثوار بالعنف لكنها فشلت فى حل الأزمة. وكانت النتيجة صعود لويس نابليون بونابرت إلى السلطة، وهو الذى دبر انقلاب 1851 وأعلن نفسه امبراطورا فى العام التالى. وفى سبيل البقاء سياسيا، لجأ إلى قمع الحركات السياسية البديلة على نطاق واسع. وقد تصدى للوضع الاقتصادى عن طريق برنامج ضخم للاستثمار فى البنية الأساسية فى الداخل والخارج على حد سواء. وبالنسبة للخارج، كان هذا يعنى بناء طرق سكك حديدية تمر عبر أوروبا فى طريقها نحو الشرق، وكذلك دعم مشروعات كبرى مثل قناة السويس. وكانت تعنى فى الداخل تعزيز شبكة السكك الحديدية، وإقامة الموانئ والمرافئ، وتجفيف المستنقعات. واستلزم الأمر، فوق كل هذا، إعادة تشكيل البنية التحتية الحضرية لباريس. واستقدم بونابرت جورج يوجين هوسمان فى 1853 ليكون مسئولا عن الأشغال العامة فى المدينة.

وأدرك هوسمان بوضوح أن مهمته هى المساعدة فى حل مشكلتى فائض رأس المال والبطالة عن طريق التحضر. وقد استوعبت عملية إعادة بناء باريس أعدادا كبيرة من العمال ومبالغ ضخمة بمقاييس زمنها، وكانت، إضافة إلى كبح تطلعات قوة العمل فى باريس، قاطرة أساسية للاستقرار الاجتماعى. واعتمد على خطط أتباع فورييه وسان سيمون التى ناقشوها فى أربعينيات القرن التاسع عشر لإعادة تشكيل باريس، لكن بفارق واحد كبير، وهو تغيير المقياس الذى تخيلوه لعملية التحضر. فعندما عرض المهندس المعمارى جاك هيتوف على هوسمان مخططه لإقامة شارع جديد، ألقى هاوسمان به إليه قائلا: «ليس عريضا بالقدر الكافى.. أنت جعلت عرضه 40 مترا وأنا أريده 120 مترا». وقام بضم الضواحى وأعاد تصميم أحياء مثل «لى هال» Les Halles. وفى سبيل تحقيق هذا، احتاج هوسمان إلى مؤسسات مالية وأدوات جديدة للقروض والتمويل، مثل كريديه موبيلييه Crédit Mobilier وكريديه إيموبلييه Crédit Immobilier، اللتين قامتا على أساس أفكار السان سيمونيين. وساعد ذلك بالفعل فى حل مشكلة تصريف فائض رأس المال بإقامة نظام يرتكز إلى أفكار كينز لتحسين البنية التحتية الحضرية عن طريق التمويل بالدين.

وعمل النظام بصورة جيدة على مدى 15 عاما تقريبا، ولم يقتصر عمل النظام على تغيير البنية التحتية الحضرية، بل شمل كذلك بناء أسلوب جديد للحياة وشخصية حضرية جديدة. وأصبحت باريس «مدينة النور»، ومركزا كبيرا للاستهلاك والسياحة والمتعة؛ وغيرت المقاهى ومراكز التسوق وصناعة الأزياء والمعارض الحياة الحضرية بحيث يمكنها امتصاص الفوائض الضخمة من خلال النزعة الاستهلاكية. لكن النظام المالى المترامى والقائم على المضاربة والبنى الائتمانية انهار فى عام 1868. وأقيل هوسمان؛ ودخل نابليون الثالث، يائسا، الحرب ضد ألمانيا بسمارك، وخسرها. وفى الفراغ الذى تلا ذلك ظهرت كوميونة باريس، وهى واحدة من أعظم الحلقات الثورية فى تاريخ التحضر الرأسمالى، التى قامت، فى جانب منها، بدافع الحنين إلى العالم الذى دمره هوسمان والرغبة فى استعادة المدينة على جزء من الأجزاء التى نزعت ملكيتها بسبب أعماله.

ولننتقل سريعا الآن إلى أربعينيات القرن الماضى فى الولايات المتحدة. فقد أسهم الحشد الضخم لمجهود الحرب، مؤقتا، فى حل مشكلة امتصاص فائض رأس المال التى بدت عصية على الحل فى الثلاثينيات، وكذلك البطالة. لكن خشى الجميع مما يمكن أن يحدث بعد الحرب. كان الموقف خطيرا من الناحية السياسية: كانت الحكومة الفيدرالية تدير اقتصادا مؤمما بالفعل، وكانت فى تحالف مع الاتحاد السوفييتى الشيوعى، بينما كانت الحركات الاجتماعية القوية قد ظهرت منذ الثلاثينيات. وكما كان الحال على عهد لويس بونابرت، طالبت الطبقات الحاكمة وقتها بجرعة قوية من القمع السياسى؛ وما زال تاريخ المكارثية وسياسات الحرب الباردة، التى لاحت بوادرها فى أوائل الأربعينيات، معروفا. ومن الناحية الاقتصادية، ظل السؤال عن كيفية امتصاص فائض رأس المال مطروحا.

وفى 1942، نشر تقييم مطول لجهود هوسمان فى «المنتدى المعمارى» Architectural Forum. حاول فيه روبرت موزيس تحليل أخطاء هوسمان مع التأكيد على كونه واحدا من أعظم صناع التحضر فى التاريخ. والجدير بالذكر أن روبرت موزيس فعل فى نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية ما فعله هوسمان فى باريس، لكنه غير طريقة التفكير فى عملية التحضر. ومن خلال نظام للطرق السريعة وتغييرات فى البنية التحتية، وإضفاء طابع الضواحى وإعادة تصميم كامل للمنطقة المتروبوليتانية وليس المدينة وحدها، أسهم فى حل مشكلة تصريف فائض رأس المال. ولتحقيق هذا، أنشأ مؤسسات مالية جديدة واستحدث ترتيبات للضرائب كان من شأنها فتح الائتمان أمام تمويل التوسع الحضرى عن طريق القروض. وكان لهذه العملية دور حاسم فى تحقيق استقرار الرأسمالية العالمية بعد عام 1945، وهى الفترة التى تقدمت الولايات المتحدة فيها لشحذ مجمل الاقتصاد غير الشيوعى عبر إدارة العجز التجارى.

لم يكن إضفاء طابع الضواحى فى الولايات المتحدة يعنى مجرد إنشاء بنية تحتية جديدة. فكما كان الحال بالنسبة لإعادة بناء باريس، تضمنت خطة موزيس تغييرا جذريا فى أسلوب الحياة، وجلبت منتجات جديدة، من الإسكان إلى المبردات وأجهزة التكييف، وكذلك تحديد اتجاهين للطرق الخاصة وزيادة ضخمة فى استهلاك النفط. كما غير من المنظور السياسى، حيث كان تمليك المنازل المدعومة للطبقة الوسطى سببا فى تركيز الاهتمام على الدفاع عن قيم الملكية والهوية الفردية، وهو ما جعل أصوات الضواحى تذهب للجمهوريين المحافظين. وقيل إن مُلاَّك المنازل المثقلين بالديون أصبحوا أقل ميلا للدخول فى إضراب. وقد كان المشروع ناجحا فى استيعاب الفائض ودعم الاستقرار الاجتماعى، وإن حدث هذا على حساب تفريغ المدن الداخلية وإشاعة الاضطرابات المدينية بين أولئك الذين حرموا من الازدهار الجديد، من الأمريكيين الأفارقة بالأساس.

وبنهاية عقد الستينيات، التف التقليديون حول جين جاكوبز فى محاولة للتصدى لمشروعات موزيس التحديثية القاسية بإضفاء جماليات محلية على الأحياء. لكن الضواحى كانت قد بنيت بالفعل، وكان للتغيير الجذرى لأسلوب الحياة نتائج اجتماعية كثيرة، وأدى، على سبيل المثال، إلى تركيز دعاة حقوق المرأة سخطهم على الضاحية بالأساس. وإذا كان للهوسمانية دورها فى ديناميكيات كوميونة باريس، فقد كان للحياة اللا إنسانية فى الضاحية كذلك دور حاسم فى الأحداث المؤثرة التى شهدتها الولايات المتحدة فى عام 1968. إذ دخل طلاب الطبقة الوسطى البيض الساخطون مرحلة التمرد، وحاولوا إقامة التحالفات مع الجماعات المهمشة المطالبة بحقوق الإنسان وتظاهروا ضد الإمبريالية الأمريكية، سعيا إلى إقامة حركة لبناء عالم من نوع آخر، وتجربة مختلفة للتحضر.

فى باريس، ساعدت الحملة من أجل وقف مشروع الطريق السريع على الضفة اليسرى وتدمير الأحياء التقليدية بسبب غزو «العمارة الشاهقة»، مثل ميدان إيطاليا أو Place d’Italie وبرج مونبارناس Tour Montparnasse، فى شحذ الآليات لثورة 1968 بفرنسا. وفى هذا السياق، كتب الفرنسى هنرى لوفيفر «الثورة الحضرية»، الذى لم يكتف بالتنبؤ بأن التحضر سيكون عاملا أساسيا فى بقاء الرأسمالية وسيصبح من ثم بؤرة حاسمة للصراع السياسى والطبقى، بل أشار كذلك إلى دوره فى طمس الفروق تدريجيا بين المدينة والريف من خلال توفير فضاءات مندمجة على المستوى القومى، إن لم تتجاوزه. 

شهدت عملية التحضر تحولا آخر فى مداها. فقد أصبحت، باختصار، عالمية. وساعد انتعاش سوق العقارات فى بريطانيا وإسبانيا، وكذلك فى بلاد أخرى كثيرة، فى تقوية الدينامية الرأسمالية بطرق تشبه ما حدث فى الولايات المتحدة إلى حد كبير. أما التحضر فى الصين خلال السنوات العشرين الماضية فكان ذا طابع مختلف، بتركيزه الكبير على تطوير البنية التحتية، لكنه يعتبر أكثر أهمية من تجربة الولايات المتحدة فى هذا المجال. وقد تسارعت وتيرته بشكل كبير بعد ركود قصير فى عام 1997، لدرجة أن الصين تحتاج حاليا إلى نصف إمدادات العالم من الإسمنت منذ عام 2000. وتعدت أكثر من مائة مدينة صينية حاجز المليون ساكن فى هذه الأثناء، بل وأصبحت قرى كانت صغيرة، مثل شنجن، حواضر ضخمة تضم بين 6 ــ 10 ملايين نسمة. كما أن مشروعات البنية التحتية الضخمة، ومن بينها إقامة السدود والطرق السريعة، الممولة بالدين، غيرت من واقع الأمور. وكان لها أيضا نتائجها على الاقتصاد العالمى وامتصاص فائض رأس المال: انتعشت شيلى بفضل ارتفاع أسعار النحاس، وازدهرت استراليا والبرازيل والأرجنتين (إذ يعود جزءا من تعافى الأخيرتين إلى قوة الطلب الصينى على المواد الخام).

أصبحت الصين مركزا لعملية تحضر عالمية، من خلال التكامل المذهل للأسواق المالية التى استغلت مرونتها فى تمويل التنمية الحضرية بالقروض. فعلى سبيل المثال، كان البنك المركزى الصينى فعالا فى سوق الرهن العقارى الثانوية بالولايات المتحدة، بينما كانت جولدمان ساكس مشاركة بقوة فى سوق الرهن العقارى المرتفعة فى مومباى، وكانت هونج كونج تستثمر رأسمالها فى بالتيمور. وفى ظل تدفق موجة من المهاجرين الفقراء، ازدهر البناء فى جوهانسبرج وتايبيه وموسكو، وكذلك فى مدن فى قلب البلاد الرأسمالية، مثل لندن ولوس أنجلوس. وظهرت مشروعات عمرانية عملاقة مذهلة فى الشرق الأوسط فى أماكن مثل دبى وأبو ظبى، لتبدد فوائض الثروة النفطية بأكثر الطرق الممكنة وضوحا، وظلما اجتماعيا، وتبديدا من الناحية البيئية.

كان للابتكارات المالية التى ظهرت فى الثمانينيات: توريق وتصنيف الرهون العقارية لبيعها للمستثمرين فى العالم، وإيجاد قاطرات جديدة للوفاء بالتزامات الديون المضمونة، دورا حاسما. وكان من بين فوائدها الكثيرة نشر المخاطر وتوفير أوعية ادخار للفوائض أكثر سهولة فى الحصول على فائض الطلب على الإسكان. كما ساهمت فى خفض معدلات الفائدة، بينما راكمت ثروات ضخمة للوسطاء الماليين الذين كانوا يصنعون هذه العجائب. أضف إلى هذا أن توزيعها على نطاق واسع يشجع على سلوكيات محلية أكثر خطورة، لأن الالتزامات يمكن نقلها إلى أى مكان وبدون ضوابط تقييم مناسبة، فإن هذه الموجة من «الأمولة» financialization تحولت إلى ما يعرف باسم أزمة الرهن العقارى ذى التصنيف الائتمانى المنخفض وقيمة أصول الإسكان. وتركزت التداعيات فى الحالة الأولى داخل المدن الأمريكية وحولها، مع تداعيات خطيرة على محدودى الدخل بصفة خاصة، والأمريكيين الأفارقة فى المناطق الفقيرة من المدن والأسر التى تعولها نساء بمفردهن. كما أثرت على غير القادرين على دفع أسعار المساكن الفلكية فى المراكز الحضرية، خاصة فى الجنوب الغربى، حيث اضطروا إلى اللجوء إلى شبه أطراف الحواضر؛ وهناك، أخذوا يشيدون مجمعات سكنية بنسب فائدة أولية مريحة، لكنهم يواجهون الآن تكاليف انتقال متصاعدة بسبب ارتفاع أسعار النفط، وارتفاع مدفوعات الرهن العقارى مع تفعيل معدلات الأسواق.

كما كان الحال فى كل المراحل السابقة، أدى التوسع الجذرى الأحدث فى عملية التحضر إلى تغييرات غير معقولة فى أسلوب المعيشة. فأصبحت جودة حياة الحضر سلعة، وكذلك المدينة نفسها، فى عالم أصبحت فيه النزعة الاستهلاكية والسياحة والصناعات الثقافية والقائمة على المعرفة سمات أساسية للاقتصاد السياسى الحضرى.

تحيط بالتجربة الحضرية المعاصرة هالة من حرية الاختيار، مفترضة توفر المال. وتتكاثر مراكز التسوق والمجمعات الترفيهية، وكذلك محال الوجبات السريعة والحرف، فلدينا الآن «تهدئة بالكابتشينو»، على حد تعبير عالمة الاجتماع شارون زوكين. حتى تنمية المجمعات السكنية فى الضواحى، المتنافرة والمنافية للذوق والمملة، التى لا تزال سائدة فى كثير من المناطق أصبح لها الآن ترياقا متمثلا فى حركة «التحضر الجديد» التى تروج لبيع المجتمع وأساليب البوتيكات لتحقيق أحلام التحضر. إنه عالم أصبحت فيه الأخلاق النيوليبرالية لتكثيف التملك الفردى، والانسحاب السياسى من أشكال العمل الجماعى، نموذجا للتفاعل الاجتماعى الإنسانى. وقد أصبح الدفاع عن قيم الملكية مصدر قلق سياسى متزايد، وهو ما يظهر من إشارة مايك ديفيز إلى تحول جمعيات ملاك المساكن فى ولاية كاليفورنيا إلى معاقل لرد الفعل السياسى.

إننا نعيش إلى حد كبير فى مناطق حضرية مقسمة وعرضة للصراع. وخلال العقود الثلاثة الماضية، أعاد التحول النيوليبرالى السلطة الطبقية إلى النخب الغنية، وظهر فى المكسيك 14 مليارديرا منذ ذلك الحين. وفى عام 2006 تباهى هذا البلد بأغنى رجل على الأرض، كارلوس سليم، فى الوقت ذاته الذى تدهورت فيه دخول الفقراء أو تلاشت. والنتائج نجدها محفورة على فضاءات مدننا، التى تتألف من مساحات صغيرة حصينة، وتجمعات «مسورة» ومساحات عامة «مخصخصة» تحت الرقابة المستمرة. وفى البلاد النامية على وجه الخصوص، تنقسم المدينة إلى أجزاء منفصلة، تأخذ شكل العديد من «الدويلات». ويجرى إمداد أحياء الأغنياء بكل أنواع الخدمات، مثل المدارس القاصرة عليهم، وملاعب الجولف والتنس، ودوريات الشرطة الخاصة التى تجوب على مدار الساعة المنطقة المتداخلة مع مناطق أخرى مخالفة للقانون حيث لا يتوافر الماء إلا فى الصنابير العامة، ولا يوجد نظام للصرف الصحى، ولا تتوافر الكهرباء المسروقة إلا للقلة المحظوظة، وتتحول الطرق إلى مجار موحلة حين تمطر... ففى هذه المناطق الأخيرة يعد السكن المشترك هو القاعدة، وتبدو كل قطعة وكأنها تعيش وتعمل مستقلة ذاتيا، وتتمسك بكل ما استطاعت الحصول عليه فى صراعها اليومى من أجل البقاء.

فى ظل هذه الأوضاع، أصبح من الصعب المحافظة على أفكار مثل الهوية الحضرية، والمواطنة، والانتماء وتهدد الأنشطة الإجرامية أمن الفرد عند كل منحنى، معرضة المطالب الشعبية لقمع الشرطة. حتى الفكرة التى تنظر إلى المدينة ككيان سياسى جماعى، وموقع يجب أن تنبثق منه الحكومات الاجتماعية التقدمية، أصبحت غير قابلة للتصديق. لكن هناك مع ذلك حركات اجتماعية حضرية تسعى إلى كسر العزلة وإعادة تشكيل المدينة على هيئة مختلفة عن تلك التى قدمها المطورون، المدعومون بأموال الشركات والأجهزة التى تتمتع بعقلية المقاول المحلى.

استيعاب الفائض عن طريق التحول الحضرى له جانب أشد قتامة. فهو يستلزم مرات متكررة من إعادة الهيكلة عبر «الهدم الخلاق» التى تنطوى على بعد طبقى فى أغلب الأحيان، حيث يكون الفقراء، المهمشون والمحرومون من السلطة السياسية، أكثر وأول من يعانى من هذه العملية. كما يتطلب الأمر ممارسة العنف من أجل بناء العالم الحضرى الجديد على حطام القديم. فقد مزق هوسمان مثلا أوصال الأحياء الباريسية الفقيرة، مستخدما سلطة المصادرة، باسم التقدم والثورة المدنية. وعمد إلى هندسة إزالة معظم الطبقة العاملة والعناصر المشاكسة الأخرى من مركز المدينة، حيث كانوا يشكلون تهديدا للنظام العام والسلطة السياسية. وأنشأ شكلا حضريا كما كان يعتقد ـ من باب الخطأ، كما تبين لاحقا فى عام 1871 ـ أن مستويات كافية من الرقابة والحكم العسكرى يمكنها الحفاظ على الانضباط لضمان إحباط الحركات الثورية بسهولة.

وتقع عملية الإحلال، التى سميت «تراكما من خلال نزع الملكية»، فى قلب عملية التحضر التى تتم فى ظل الرأسمالية. فهى انعكاس لصورة استيعاب الفائض عن طريق التنمية الحضرية، كما تثير صراعات هائلة حول الاستيلاء على أرض مرتفعة القيمة من سكان منخفضى الدخل، ربما يعيشون عليها منذ سنوات كثيرة.

فى مدينة سول فى التسعينيات استأجرت شركات البناء والتنمية العقارية مجموعات من البلطجية على نمط مصارعى السومو، لغزو الأحياء الواقعة على سفوح التلال فى المدنية. ولم يهدموا فقط المنازل بالمطارق الثقيلة، بل ضربوا مالكيها الذين بنوا منازلهم فى الخمسينيات على أراض امتلكوها بوضع اليد. وتغطى الآن معظم سفوح تلك التلال أبراج عالية، لا يبدو عليها أثر للتعامل الوحشى الذى تم فى سبيل بنائها. وفى مومباى، استقر 6 ملايين شخص، وهم سكان الأحياء الفقيرة، فى الأرض دون وثائق رسمية؛ فتترك معظم خرائط المدينة هذه المواقع كمساحات شاغرة. وفى محاولة لتحويل مومباى إلى مركز مالى عالمى ينافس شنغهاى، تسارعت وتيرة قفزات تطوير الإنشاءات. ويقدر أن قيمة دارافى، أحد أبرز الأحياء الفقيرة فى مومباى، تعادل مليار دولارى. وتتصاعد يوميا الضغوط لإزالته لأسباب بيئية واجتماعية تخفى الرغبة فى الاستيلاء على الأرض. وتضغط مراكز القوى المالية المدعومة من الدولة باتجاه الإزالة الجبرية للأحياء الفقيرة، وقد نزعت بالعنف فى بعض الحالات ملكية مساحة من الأرض كان سكانها يشغلونها لجيل كامل. وهكذا، يحدث التراكم الرأسمالى عن طريق ازدهار أنشطة العقارات، فى أماكن تمت حيازة الأرض فيها بدون تكلفة تقريبا.

فهل يحصل من تتم إزالة منازلهم على تعويضات؟ ربما حصل المحظوظون على قليل منها. ففى الهند قالت المحكمة العليا إن الاعتراف بهذا الحق يعنى مكافأة اللصوص على تصرفاتهم. ولا يكون أمام ساكنى العشوائيات إلا المقاومة والنضال، أو الرحيل مع متاعهم القليل إلى معسكرات بالخارج على جانبى الطريق السريع، أو أى مكان آخر يستطيعون إيجاد مساحة ضئيلة لنفسهم به. وفى الولايات المتحدة، فقد انتهك حق الحكومة فى الاستيلاء العام، وبسبب هذا نزح السكان المستقرون إلى إسكان معقول، لمصلحة تنظيم أرقى لاستخدامات الأرض، كالمجمعات السكنية والمتاجر. وعندما طعن فى هذا أمام المحكمة العليا الأمريكية، حكم القضاة بأن من حق المحاكم المحلية دستوريا التصرف على هذا النحو من أجل توسيع قاعدة الضريبة العقارية.

وفى الصين، ينزح الملايين من الأماكن التى شغلوها لفترات طويلة ـ ثلاثة ملايين فى بيجين فقط ـ وحيثما يفتقرون إلى حقوق للملكية الخاصة يكون بإمكان الدولة إزالتهم بمجرد إصدار أمر بذلك، مع عرض مبلغ مالى ضئيل لمساعدتهم على تدبير أمورهم قبل تسليم الأرض إلى شركات التنمية العقارية مقابل ربح كبير. وفى بعض الحالات، ينتقل الناس فى يسر، إلا أن هناك أيضا تقارير عن مقاومة واسعة النطاق، وعادة ما يكون رد الفعل عليها قمعا وحشيا على يد الحزب الشيوعى.

أهم أخبار صحة وطب

Comments

عاجل