المحتوى الرئيسى

لجام دستورى للتعصب

09/27 08:46

تعجبني كثيرا الروايات التي تندرج تحت مسمَّي «روايه الحقيقه القصصيه» او «روايه الصحافه الجديده»، وهي روايات يمتزج فيها فن السرد الادبي بحِرفيه التحقيق الصحفي المعمق، وينهض بها كُتاب من الطراز الرفيع يمتلكون ناصيتي الفن والحرفه معا، والحمد لله ان بيننا استاذا من اساتذه هذا الاختراق العابر لفنون النثر، الاستاذ محمد حسنين هيكل، الذي هو قطعا احد ساده هذه الكتابه في العالم وليس في عالمنا العربي وحده، اطال الله عمره ومتعه بالصحه والعافيه واليقظه الجميله، وثاقب الرؤيه التي تكشف الايام عن دقه استشرافاتها، وشجاعه اعلانها في وقت مبكر، وضد التيار الجارف من هوج العواطف وركاكه الحسابات. فليتنا نصقل عواطفنا ونُحكِم حساباتنا، بينما نحتفل بدخول استاذنا في عام جديد من عمره المديد السعيد باذن الله. كل سنه وانت طيب، وانت بيننا، يا استاذ هيكل.

هذا النوع الروائي الذي انتبه له النقد العالمي منذ عقود، ونكاد نكون غير منتبهين له نقديا، اراه تعبيرا حقيقيا عن حادثات ايامنا، التي بات الواقع فيه مثقلا بما يشبه الخيال، بل يتجاوزه احيانا. ومن هذا النوع قرات مؤخرا روايه صدرت في الولايات المتحده منذ سنوات قليله بعنوان لافت وموجز هو «زيتون» بقلم الكاتب الصحفي والروائي الامريكي «داف ايجيرس» مرفقه بالصور الوثائقيه لابطال الروايه، وقدمت دار الشروق ترجمه عربية متقنه لها قام بها الدكتور محمد عناني، والروايه تحكي قصه حقيقيه بطلها مغترب سوري اسمه عبدالرحمن زيتون، كان يقيم منذ عام 1985 في نيو أورلينز عاصمه ولايه لويزيانا الأمريكية وقت ان اجتاحها اعصار «كاترينا» الماساوي عام 2005، ولانه بحار ابن بحار من جزيرة أرواد القريبه من شاطئ طرطوس السوري، فقد اجترح ماثره من البطوله بعد ان اغرق طوفان الاعصار المدينه التي نزح معظم سكانها ولم يبق فيها غير الكادحين والمرضي وكبار السن والحيوانات الاليفه المهجوره، ووحده زيتون الذي كانت اسرته قد غادرت المدينه، وبواسطه قارب بسيط كان يمتلكه، راح يبحر بين الشرفات والسقوف الغارقه مادا يد الانقاذ لكل من يحتاجها من انسان وحيوان وطير، فانقذ من الغرق كثيرين، ومن الموت بالجوع والعطش اكثر. ولانه مسلم متدين ومتزوج من امريكيه اعلنت اسلامها، فقد صار موضع ريبه من المباحث الفيدراليه، وبدلا من تكريمه بطلا في تلك الشده التي ضربت قلب امريكا، تم القبض عليه بشبهه الارهاب، ولم يخلصه من براثن هذه التهمه غير دفاع من محامين امريكيين شرفاء وصحافه واعلام امريكيين حرين لم يقعا في هاويه التعصب، وزوجه امريكيه وصفها الكاتب علي لسان احد ابطال الروايه الحقيقيين بانها نموذج للطهر والكرامه.

هذه الروايه الحقيقيه البديعه والمؤثره، خلابه المشاهد والمشاعر، كشفت عن وجود التعصب الفردي في المجتمع الامريكي كما في اي مجتمع اخر، ومنه مجتمعنا الذي نتعامي عن تمادي التعصب فيه، لكنها كشفت ايضا عن لجام عام تمسك به الدوله الامريكيه لكبح التعصب، ولنقرا هذا المشهد من الروايه لكاثي زيتون زوجه عبدالرحمن الامريكيه التي اعتنقت الإسلام وهي بصحبه امها التي كانت رافضه لاسلامها:

«كانت المنازعات كثيرا ما تنشب بصدد حجابها. كانت تعود الي المنزل، وتضع حقائبها»، ثم يقول احدهم: «الان تستطيعين نزع هذا الشيء». كانوا لايزالون يقولون لها ذلك، بعد انقضاء خمسه عشر عاما علي اعتناقها الاسلام، كانما كان الحجاب شيئا تلبسه مُكرَهه، وفي صحبه زيتون فقط، او كانه قناع تنكري يمكن ان تطرحه في غيابه، او قل كانما كانت تستطيع في بيت اسره دلفين، اسرتها، ان تجد ذاتها اخيرا وان تستمتع بحياتها. وكان ذلك في الواقع هو الامر الذي اصدرته والدتها اليها في اخر زياره قامت بها كاثي، اذ قالت امها: «انزعي هذا الشيء من راسك، واخرجي لقضاء وقت سعيد!».

لكنه كان يحدث في بعض الاحيان ان يتغلب اخلاص الام لابنتها علي موقف والده كاثي من الاسلام. فمنذ سنوات ذهبت كاثي مع امها الي اداره المرور لتجديد رخصة القيادة الخاصه بكاثي. وكانت كاثي انئذ تلبس حجابها، وكانت قد تلقت بالفعل عددا لا باس به من النظرات المريبه من العملاء والعاملين في اداره المرور قبل ان تجلس لالتقاط صورتها. ولكن الموظفه القائمه علي اله التصوير لم تُخف احتقارها.

قالت المراه: «انزعي ذلك الشيء!».

كانت كاثي تعرف انه من حقها ان تلبس الحجاب عند التصوير، لكنها لم تشا ان يتحول الامر الي مشاجره.

فسالتها كاثي: «هل لديك فرشاه شعر؟». حاولت ان تحيل الامر الي فكاهه فقالت: «لا اريد ان يبدو شعري ملبدا في الصوره». كانت كاثي تبتسم، ولكن المراه كانت تحدق دون ان يرمش لها جفن. واستمرت كاثي تقول: «حقا، لا ابالي ان خلعت الحجاب لكن بشرط ان تكون لديك فرشاه شعر..».

وكانت تلك هي اللحظه التي هبت فيها والدتها لانقاذها، باسلوبها الخاص.

وصرخت والدتها: «لها ان تلبسه! لها ان تلبسه ان ارادت!».

وتحول الموقف الي مشاده، وكان كل من في اداره المرور يتفرج! وحاولت كاثي نزع فتيل النزاع قائله: «لا باس ياماما ! حقا لا باس ! هل معك فرشاه شعر يا ماما؟».

ولم يبد ان والده كاثي استوعبت ما سمعت، بل تركز اهتمامها علي الموظفه التي تمسك باله التصوير، وهتفت صائحه: «لا تستطيعين ارغامها علي خلعه! انه من حقوقها الدستوريه!».

واختفت المراه اخيرا في مؤخره المكتب ثم عادت بعد ان حصلت علي الاذن من رئيستها بتصوير كاثي بالحجاب. وعندما اومض ضوء التصوير حاولت كاثي الابتسام «بتحليل هذا المشهد نجد اما رافضه لاعتناق ابنتها لدين مختلف، ومع ذلك تظل امومتها اقوي من رفضها، وتتجلي هذه الامومه في مواجهه موظفه متعصبه تكيد للابنه بكراهيه وفظاظه، فلا تجد الام ما يدعم عاطفتها ورفضها لاهانه ابنتها المختلفه معها في الدين غير الدستور، تستدعي حقوق الانسان الامريكي الدستوريه، ومع تصعيد الموقف واستشاره فعاليه اعلي، ينتصر الدستور للمسلمه المقهوره، ويُخزي الموظفه المتعصبه».

ولنسال انفسنا الان، بعد ان صرنا مجتمعا تُبثُّ فيه سموم الكراهيه والتعصب الطائفي والمذهبي ليل نهار، في الشوارع والاسواق وعبر شاشات فضائيات الفظاظه والجلافه وغلظه القلب والحس والشعور، من كل لون ومله، هل من نَصِّ دستوري مصري، وقوه دستوريه يحرسها القانون، تحمي انسانا من اضطهاد انسان اخر له لاسباب تتعلق بالعقيده الدينيه؟ وهل هناك من امل في موقف دستوري يشكل مشهدا كذلك الذي عرضناه من صفحات روايه «زيتون»؟

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل