المحتوى الرئيسى

عندما كان لهذا الدين رجال عقلاء (1)

09/26 18:11

علي الكتاب المدرسي عباره تقول "صوتك العالي دليل ضعف موقفك"، والحقيقه ان كاتبها كان ليكون اكثر دقه لو قال "عشوائيه رد فعلك دليل ضعف موقفك"، فالصوت العالي في حد ذاته ليس مشكله بقدر ما المشكله فيما يقال بهذا الصوت، فقد يكون صوتك عاليا ولكن حجتك قويه، وقد تكون متحدثا هادئ الصوت، ولكن حديثك عشوائي وحججك واهيه.

هذا ما جال بذهني وانا اتابع ردود الافعال التي يمكنن ان اصفها بثقه بـ "العشوائيه الغوغائيه" علي الفيلم المسيء للرسول عليه الصلاه والسلام.. سفارات تُهاجَم، سفير يُقتَل، انجيل يُحرَق، شيوخ يسبون بالفاظ بذيئه.. هل هكذا يُدافَع عن دين شديد الرقي كالاسلام؟

ردود الفعل العنيفه هذه لا تعطي للاخر سوي فكره واحده: "الاسلام دين ضعيف وعقيده هشّه، ولهذا فهم يخفون ضعفهم بالعنف، لانهم لو تعاملوا بهدوء وحاولوا دحض الاتهامات بالحجة والدليل لفشلوا" والاخر معذور في نظرته تلك ما دام لا يري الا العنف، او علي الاقل يراه الغالب علي رد الفعل الاسلامي.

يجعلني هذا اتحسر علي ايام قوه الاسلام، حين قدّم المسلمون المثل للعالم كله علي ان يجمع اهل الدين بين القوه والباس من ناحية، والهدوء والتعقل من ناحيه اخري، فكانت عصور قوه امه الاسلام هي التي يبدو فيها جليا رد الفعل العقلاني المتزن ازاء التحديات والطعون، بل والاهانات الموجهه للدين الاسلامي.

فلنعد بالزمن بضعه قرون.. الي العصر الذهبي للدوله العباسيه القويه.. عهد الخليفة العظيم هارون الرشيد..

كانت الدوله قد اتسعت لتشمل من جبال الهند والصين شرقا الي سواحل المحيط الاطلنطي غربا، حتي ان الخليفه كان يري السحابه تحملها الريح فيقول: "امطري حيث شئتِ فسوف ياتيني خراجك".

وكان العباسيون في عهود قوتهم لا يتهاونون في مساله الاساءه للدوله او دينها.. وكانت اهانه واحده تكفي لتجييش جيش جرار يردع من يفكر في هز هيبه الدوله.

في ذلك الوقت كانت تعيش في بلاد السند طائفه تدعي "السمنيه" وهي طائفه تؤمن بتناسخ الارواح وبان لا طريق للعلم سوي الحواس.. ارسل الرشيد لملك السند رساله مختصره: اما ان تُسلِموا، او ان تدفعوا الجزيه، او ان تكون الحرب حتي يقضي الله بيننا..

احتار الملك في كيفيه الرد، فاشار عليه كبير طائفه السمنيه بان يعرض علي الخليفه خيارا رابعا "ارسل اليّ احد فقةائك يناظر شيخ السمنيين، ومن غُلِبَ دخل مع قومه في دين الغالب".

كانت هذه مؤامره موجهه لا لمجرد صد الزحف الاسلامي (وكان قانون العالم انذاك: ان لم تغزُ غيرك غزاك هو، فكان الغزو امرا منطقيا) بل كانت موجهه للعقيده ذاتها.. قبل الرشيد التحدي وارسل احد فقهائه الي بلاط ملك السند.. وبدات المناظره..

سال السمني الفقيه: "هل ربك قادر علي كل شيء؟" فاجابه الفقيه :"بلي".. فبادره السمني بسؤاله: "اذن فهل يقدر ربك ان يخلق ربا مثله؟".. هنا كان المازق.. فالفقيه ان اجاب بالنفي فقد جحد قدره الله، وان اجاب بالايجاب فقط اشرك بالله.. فعاد الي الخليفه مهزوما.

كانت هذه ضربه موجعه، اثارت غضبا عاتيا من الرشيد، وانتظر الجميع ان يصدر عنه رد الفعل الطبيعي، وهو ان يجرد جيشا يصل اوله الي السند قبل ان يغادر اخره بغداد.. ولكن هارون الرشيد لم يكن ليسمح لغضبه ان يسيطر عليه.. فحتي لو هزم جيش المسلمين اهل السند فسيكون هذا العنف دليلا علي ضعف الموقف والعجز امام حجه الشيخ السمني.. هنا صاح الرشيد حانقا: "اما لهذا الدين من يناظر عنه؟" عندها جاء الحل من احد مستشاريه..

فمنذ نشاه علم الكلام من عباءه الفلسفه والدوله تحارب المشتغلين به خوفا من ان يؤدي تداول الناس له الي كلامهم وتفلسفهم في الذات الالهيه، وبالتالي خروج بعضهم من الاعتدال الي الشطط وبالتالي الي الكفر.. لهذا فقد داب الخلفاء علي اضطهاد وحبس "المتكلمين" ونفيهم.. فاقترح المستشار علي  الخليفه ان يستعين ببعض هؤلاء المحبوسين لممارستهم هذا العلم.

لم يتردد الرشيد في ذلك، واستدعي بعضهم الي بلاطه وطرح عليه سؤال الشيخ السمني: "هل يقدر الله علي خلق اله مثله؟" فاجاب احدثهم سنا: "السؤال اصلا في غير محله.. لان الله قديم، وليس الجديد كالقديم، فحتي لو خلق الله الها فلن يكون مثله لانه جديد والله قديم"، فارسل الرشيد الاجابه الي ملك السند وشيخ السمنيين، فاسلما واسلم قومهما، وكفي الله الجميع شر القتال.

هذا كان نموذجا علي ما يبلغه حلم وتعقل القوي الواثق من قوته.. فهو لم يستسهل الغضب والعنف والحرب دفاعا عن عقيدته، بل اصر علي قرع الحجه بالحجه ولو بلغ الامر ان تتخلي الدوله عن جزء من سياستها الداخليه -اعني منع علم الكلام واضطهاد المتكلمين- فاين نحن الان من هذا؟

واذا احتج البعض بان هذا الموقف يختلف عن موقف الاساءه للرسول في انه كان مناظره بينما الاساءه تدخل تحت بند "الشتيمه"، فلناخذ مثالا اخر.. في الاندلس، خلال حكم الولاه وقعت حادثه غريبه نقلها لنا المؤرخون الثقات، وعلي راسهم كل من العلامه الدكتور محمد عبد الله عنان صاحب كتاب "دوله الاسلام في الاندلس" والاستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش صاحب "تاريخ المسلمين في الاندلس".

فرغم حاله الوئام التي سادت العلاقه بين المسلمين الفاتحين واخوانهم الجدد في الوطن -اعني المسيحيين من اهل البلاد- فقد فوجئ الناس بتكرار واقعه في اكثر من مكان: في بلاط والٍ او دار قضاء، يدخل شاب او رجل او امراه من المسيحيين، ثم يبدا في سب الاسلام ونبيه باقذع الالفاظ وبدون اي مقدمات وبشكل مستفز، فيُقبض عليه ويُحكَم عليه بالاعدام، فيذهب الي الموت سعيدا كانما كان يسعي اليه.

كان الاسهل علي السلطات الاسلاميه ان تكتفي بقتل هؤلاء، ولكنها قررت التحقيق في الامر لاحساسها ان وراء الاكمه ما وراءها.. وقد كان.

فقد اسفر التحقيق عن كشف ما يمكن وصفه بشبكه من المتعصبين من مسيحيي الاندلس، بقياده بعض الفرنجه الذين تسللوا الي البلاد، حيث اقنع هؤلاء ضعاف العقول والبسطاء من اهل دينهم ان يفعلوا ما فعلوا بغرض ان ينالوا الشهاده ورضا الرب.. طبعا كان الغرض واضحا، وهو اولا ضرب اسفين في علاقه المسلمين بالمسيحيين في المجتمع الاندلسي العربي، وثانيا هز الصوره الشهيره لسماحه المسلمين وتحضرهم واظهارهم بمظهر المتعصبين لدينهم، مما يجعل مهمتهم في فتح البلدان المحيطه اكثر صعوبه.. فضلا عن تشويه صوره الاسلام نفسه في اعين من تحدثهم انفسهم باعتناقه.

كانت هذه مؤامره شديده الدهاء تم حبكها علي مستوي عالٍ من الاحترافيه، لكن مواجهتها بالحلم والتعقل والتحقق اجهضها وسحقها في مهدها.

والسؤال الذي لا املّ تكراره: اين نحن من هذا؟

اننا نغضب، فنندفع، فنكون اشبه بمن خرج له عدوه من وراء شجره واخذ يسبه، فانطلق بغير تفكير نحوه، فسقط في حفره قد جُهّزت له مسبقا.

واننا كذلك لنستسهل الرد العنيف علي الاساءه، بدلا من احراج المسيء بالحُجه، واظهار الفارق بين تحضرنا وهمجيته امام العالم.

المشكله هنا ان بعضنا يحتج بامر ينظر اليه الكثيرون بسطحيه بينما هو يحتاج الي تمعن ونظر.. هذا الامر هو ما تنقله لنا كتب السيره النبويه الشريفه، ان الرسول صلي الله عليه وسلم قد امر او اقر اكثر من مره بقتل بعض من سبوه او اذوه.. للاسف -كما اسلفت الذكر- ينظر الكثيرون الي هذه المساله بغير تمعن وتدقيق.. بينما واقع الامر ان تفسير هذا يختلف كثيرا عمّا يعتقدون.

1- دوله الاسلام في الاندلس: د. محمد عبد الله عنان.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل