المحتوى الرئيسى

ضمور ما لا يستعمل

09/19 12:43

تسود في الطبيعه كما خلقها الله قاعده شامله هي ان ما يعطل (طوعا او كرها) عن الاستعمال يضمر تدريجيا ثم يتفكك ويفني. هذه القاعده تنطبق علي الاجسام الحيه والمواد الميته مثلما تنطبق علي المهارات والافكار. ابسط مثل للتوضيح هو البداوه التي تعني قدره الانسان علي التعامل مع الموارد الشحيحه والتقلبات الطبيعيه في الصحراء وتسخيرها للبقاء علي قيد الحياه.

البداوه بهذا المعني كانت احدي المهارات في الصحاري، وكانت نمط حياة مسيطر، ثم ابتدات تتراجع لصالح الانماط الحضريه. اليوم مازال عندنا الاعتزاز باصولنا البدويه التي استطاعت قهر عوامل الفناء الصحراويه، ولكننا فقدنا المهارات والقدرات البدويه القديمه علي التعامل مع الصحراء. هذه فقدناها بسهوله مدهشه وغير متوقعه خلال عشرات قليله من السنين النفطيه، لسبب غبي وعابر هو القدرة علي شراء المقتنيات الحضريه الماديه بالمال.

اذهب الي الدهناء او الصمان او اي صحراء شئت في شمال وغرب وجنوب المملكه، وسوف تري قطعانا من الابل، لكنك لن تعثر علي مالكها البدوي السعودي او علي بعض ابنائه وبناته، سوف تجد شخصا من جنسيه اخري يعيش مع الابل والماشيه في الصحراء السعوديه، يرعاها نهارا ويجمعها ليلا، يسقيها ويحلبها ويعرفها باسمائها واصولها، لو سالته عن مكان العم الكفيل لقال لك انه في الديره، ياتي مره او مرتين في الشهر لتفقد الاحوال علي جيب رباعي الدفع ، يدور حولها وهو خلف المقود ونادرا ما ينزل الي الارض ويحتك مباشره بممتلكاته الحيوانيه. الشخص الملتزم باداء المهارات البدويه ليس بدوي الاصل، بل هندي او بنغالي لا يتكلم العربيه، الا ان يكون احيانا من السودان الشقيق. هذا الراعي، اي المسؤول عن الرعيه، ان سالته عن كفيله البدوي هل هو بدوي فعلا، يجيبك بانه ليس متاكدا، لكنه يدعي البداوه ولا يبدو كذلك ولا يستطيع العيش كذلك ايضا. ابناؤه ياتون ايام الربيع او الاعياد للفرجه علي قطعان الوالد والتفحيط والتطعيس، ثم يعودون الي الديره قبل ظلام الليل. المهارات والمواصفات اللازمه للتعامل مع شروط الحياه الصحراويه ضمرت وتفككت عند البدوي القديم، واوشكت علي التلاشي النهائي عند الاولاد والاحفاد.

المسار نفسه ينطبق علي الفلاح السعودي، والضمور نفسه وصل اليه. يوم الخميس الماضي كتب في جريده الشرق خالد السيف (شيخ الحداثيين او حداثي المشايخ)، كتب رثاء علي طريقه قفا نبك من ذكري، كله حرقه وتحسر علي استيلاء الهنود والباكستانيين والبنغال والافغان علي مجمل شؤون النخيل والتمور في القصيم. اصبح الغزاه من الهند والسند امهر واشطر في التعامل مع النخله ويجنون من ذلك الملايين، بينما الفلاح القصيمي وذراريه يبحلقون فيهم بحسره واندهاش وينتظرون مخصصات حافز.

قديما كان الفلاح المحلي وابناؤه يحرثون ويسقون الحقول والبساتين من القلبان والابار، ويؤبرون ويلقحون النخل ثم يجمعون المحاصيل بكد مستمر من الفجر الي المساء ولكن علي انغام الاهازيج والاناشيد. الزوجات والبنات والخالات والعمات كن ينثرن البذور ويحصدن الاعلاف ويحلبن الماشيه ويدبرن كل اقتصاديات المنزل.

اليوم اصبح الفلاح السعودي وذريته في كفاله الهنود والبنغال والافغان والباكستانيين، تماما مثل البدوي صاحب الماشيه الذي اصبح في كفاله الرعاه من نفس الجنسيات.

شراء المدنيه باموال النفط ادي الي ضمور المهارات الفلاحيه والبدويه وما يتعلق بها من مقومات اللياقه البدنيه. اذاً ضمرت المهارات والعضلات وتيبست المفاصل نتيجه لعدم الاستعمال، كما هو متوقع حسب قوانين الحياه، اي ضمور ما لا يستعمل.

علي ان ضمور المهارات والابدان ليس بالضمور الاهم، واهم منه ضمور المخ حينما يتحول من ورشه عمل ومصنع افكار الي مستودع مظلم لتخزين البضائع القديمه. هذا النوع من الضمور هو موضوع الحلقه القادمه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل