المحتوى الرئيسى

علاء خالد يكتب: أمكنة

09/15 11:38

تعتبر «محطة مصر» نقطة التلاقى الحقيقية فى الإسكندرية بين الريف والمدينة. هى وكل المحطات التى تقع على هذا الشريط الحديدى. فى كل صباح بداية من السادسة تجد عائلات كاملة قادمة فى قطارات بلا نوافذ ولا أبواب، ليبيعوا بضاعتهم فى المدينة. حلل وطسوت ألمنيوم انقرضت تماما فى المدينة، أكياس مشمع كانت تستخدم من قبل لتخزين الأسمدة، قفف، أحبال وأحذية بلاستيكية. تحت الغطاء تجد مربعات الجبنة القريش، أو حبات الباميا الويكا، المش، أو ذكور البط، والأوز، التى اشتاق لأكلها «أبو العلا» بطل فيلم «الزوجة الثانية» لصلاح أبو سيف. رحلة يومية يتنقلون خلالها بين أرصفة القطار، عبر القضبان والأرصفة العالية، التى تحتاج إلى مساعدات وأيادٍ تمتد لتنشل تلك العائلة وطسوتها من قاع الحياة. يتسللون من أبواب خلفية، ربما اختصارًا لرحلة الخجل اليومى، من أن يمروا أمام مقاعد ركاب القطارات المكيفة الذاهبة أو الآتية من القاهرة. أيضًا تجدهم، دون طسوتهم، على أبواب المستشفيات الحكومية، والعيادات الخاصة التى تشخص أمراض السرطان والكبد الوبائى وغيرهما من الأمراض المستوطنة فى ريف مصر. بعد الثورة تحولت محطة مصر إلى مكان عشوائى ليس له قانون اجتماعى سوى حالات التعايش الجمعى بين البسطاء والمهمشين وإنتاج فضاء عدمى لا أمل له سوى تثبيت ملكيته لمكان ما، ورسم علامات للفقر بطول واتساع هذا المكان. لحظة مؤقتة احتل فيها الفقراء مركز المدينة. تمامًا مثل الفترة التى تفرق بين هدم فيلا، وبناء عمارة جديدة مكانها. تتحول هذه الأرض الفضاء إلى مرعى لفراخ، لشياطين الخلاء، لغفير الحراسة الذى سيقذف له السكان المجاورون للأرض بكرسى فوتيه مهترئ، يجلس عليه كملك مخلوع، ويصبح هو الآمر الناهى على هذه المساحة المنكوبة. لم يعد هذ المكان الذى يحوط بمحطة مصر ريفًا يقتات على مدينة وينسحب فى آخر النهار، وإنما أصبح قطعة عشوائية مقيمة. يشعرك بأننا فى عصر نهاية المدن، وبداية عصر جديد لا معنى فيه لأى فردية، أو لتلك المساحة الخاصة التى يتحرك فيه الجسم. أناس من كل الطبقات المسحوقة، طبقات ما بعد الهامشية، بكل تصنيفاتها، وضوضائها، ومكبوتاتها، ومحرماتها، وسبل رزقها، وطعامها، وشرابها، احتلت المحطة وأغلب شوارع الإسكندرية كما حدث مع ميدان التحرير فى القاهرة.

يوم الجمعة 7 سبتمبر كانت هناك حملة إزالة على شارع النبى دانيال ومحطة مصر لتنقية الأجواء وضبط المخالفات، وفصل مظاهر الريف عن المدينة. حملة عنيفة بدأت من الساعة الثانية صباحًا. فى كل مكان ألواح زجاج مهشمة. استوقفنى رضا أبو المجد من مواليد 1930. ورفع يده بأداء تمثيلى لينزل الله صعقة على من هدم كشكه الذى كلفه كما يقول مئة وخمسين ألف جنيه. هناك من يقف على عربة كبدة ومن خلفه قائمة أسعار خيالية لا تجدها إلا فى الريف الجوانى القديم الذى يقايض المحصول بالطعام. موديلات خاصة من الأحذية، وكراتين مفتوحة تستخدم كأسرة، وبطانيات برتقالية من تلك التى يأتى بها الحجاج ويزحمون بها الطائرات فى مواسم الحج. فندق مفتوح فى الهواء الطلق. بعد انحسار كتل المظاهرات، جاءت كتل أخرى لتشغل مكانها، ولتثبت حقها فى هذا البلد. تعاضد فى ما بينهم صنعه الفقر وتاريخ طويل من التهميش والاستبعاد. وهناك أيضا من يحمل «مُلة» سرير، يود أن يصحبه معه فى الأوتوبيس. مَن يجلس تحت ظل شجرة كبيرة وبجانبه عدة الشاى، كأنه يجلس ساعة الراحة على قمة حقل. فى أكثر من مكان على صوت الزجاج المهشم الذى نسير عليه، تسمع سبابًا مباشرًا لمرسى، الذى جاء إلى هذا المكان من قبل، وخطب فى الناس، وقال لهم إنه سيقف مع البياعين وأصحاب التكاتك. صاحب عربة الكبدة الفصيح قال إن ثورة مصر كانت ثورة من أجل البياع. وأضاف «مش أبو عزيزى كان بياع.. الثورة أصلها بياع». أصبح بوعزيزى هو أيقونة أى ثورة أو أى شعب، ومحرم على أى شخص أو سلطة الاقتراب منها أو المساس بها.

2-شريط من البيوت الطينية والملابس الملونة والكلاب الضالة

بداية من منطقة «مرغم» وامتدادًا حتى ضاحية «كينج مريوط» تمتد هذه البيوت الطينية لتصنع هذا الشريط من العائلات والقبائل العربية

أثناء سفرى إلى القاهرة، وفى بداية الطريق الصحراوى، عند منطقة معينة، دائمًا ما أبادر بالتفاتة تلقائية ناحية مجموعة من البيوت البسيطة، والمتناثرة على استحياء على جانبى الطريق. شىء شبيه بالساعة البيولوجية التى تجعلك ترى وتقرأ ما حولك بإيحاء من عقارب تدور بداخلك. أصبحت مدرَبا على التقاط علامات هذه البيوت بالرغم من ذوبانها وسط كم هائل من تلك المبانى التى تكاثرت فى الطريق الصحراوى. بداية من منطقة «مرغم»، وامتدادًا حتى ضاحية «كينج مريوط» ومدينة «برج العرب» تمتد هذه البيوت الطينية والملونة لتصنع هذا الشريط من العائلات والقبائل العربية التى شغلت هذه الصحراء. جاءت هذه القبائل العربية من الغرب، ووقفوا على الحدود الصحراوية لمدينة الإسكندرية، لم يشاؤوا أن يدخلوها ويسكنوا فيها، فرحلتهم عبر الصحراء كان أهم شروطها أن لا يتخلوا عن هذا الفضاء الذى يمرحون فيه بأعينهم وبأجسادهم.

منهم من سكن على حواف بحيرة مريوط، وامتهن مهنة الصيد من البحيرة، ليقلل ارتباطه بالمدينة الكبيرة ويجعلها فى حدوده الدنيا. فى الستينيات وبداية السبعينيات كان الخروج للطريق الصحراوى يعنى انتقالا حقيقيا من مكان إلى آخر مختلف، تشعر بأنك على أعتاب عالم جديد. الصحراء ورمالها الصفراء، وتلك القبائل وملابس نسائها الملونة، وأشجار التين، هى أهم مكونات هذا العالم الجديد.

فى وقت من الأوقات كانت هذه الصحراء، وهذا الفضاء الذى يحيط بها، ملكا لهذه القبائل دون منازع. سُكنى الصحراء لم تكن من الأشياء المحببة لأهل المدن، كما يحدث الآن. فى الثقافة الفرعونية، تمثل الصحراء الجانب الشرير من الحياة، وإلهها «ست». وفى عصور الاضطهاد القبطى، كانت الصحراء هى المأوى للفارين بعقيدتهم الجديدة، والمكان الآمن الذى ازدهرت عبر أديرته الديانة المسيحية، واكتسبت حسها الزاهد.

تلك الأزمنة القديمة كانت الاستثناء الوحيد فى حياة هذه القبائل الصغيرة، الفردوس الذى يودون العودة إليه، بعد أن بسطت الدولة نفوذها، ودخلت الاستثمارات، وبنيت المصانع، والمدن السكنية، الفاخرة والرخصية، فقد أصبح لهذا الفضاء ثمن فى عين وخيال الآخرين. أصبحت شركات البترول، بواجهاتها اللامعة، وألسنة اللهب التى تتصاعد من مداخنها، تسيِّج هذا الشريط من البيوت.

أعرف هذا الطريق جيدا منذ طفولتى فى الستينيات. ليس له علامات أتذكرها، سوى الملابس الملونة وأشجار التين، وهذه البيوت الطينية، ومراوح المياه، والكلاب الضالة، والسيدات اللاتى يضعن طرحة سوداء شفافة على وجوههن، ويحملن أطفالهن خلف ظهورهن. طريق بلا علامات كثيرة، كالتى نراها فى المدن، ولكنه ثرى. ربما هذا الفضاء هو الذى منح كل علامة من تلك العلامات، فرادتها وثقلها فى الذاكرة، وجعلها غير قابلة للنسيان. الندرة، وتوقع الزوال هى القوانين الخفية التى كانت تمنح هذه العلامات، وهذه القبائل، أسطوريتها وخلودها المؤقتين فى الذاكرة.

هناك غرفة منفصلة عن البيوت يتصاعد منها الدخان، وبعض النسوة يقفن أمامها فى الانتظار. وعلى بعد مسافة منهن، وقف مجموعة من الرجال سوت الشمس أعمارهم على نار هادئة. تشم رائحة الخبيز التى كانت فى مقدمة الروائح التى تميز الريف القديم. بين البيوت بعضها البعض، امتدت عدة أحبال للغسيل، لتضيف رابطا آخر غير رابط القرابة والدم.

كان الأطفال يلعبون لعبة «المستعجلة»، وهى إحدى ألعاب أى طفولة، صنعها لهم آباؤهم من الخشب. هناك مهارة فى صنع هذه اللعبة وبهذه الدقة من بقايا أخشاب، كأنك أمام عمل فنى كل جزء فيه مقصود. بدا شكلها كأنها لعبة أثرية تعود للعصور الفرعونية، بسبب خشبها المعتق ومهارة صانعها. هذه الأماكن الحدودية أيضا تشكل طفولة المدن، قبل أن تتعقد وتبلغ وتصيبها الشيخوخة.

3 – حياة بلا حقائب

لا توجد ملابس تخص فلانًا أو فلانًا.. الملابس مشاع بين الجميع.. لا توجد خصوصية بالمعنى المتداول فى المدن

العديد من قبائل «البدو» تعيش على تخوم مدينة دمياط، على جانبى الطريق السريع الدولى، الذى يعبر بهذه المدينة. تعمل تلك القبائل فى الرعى والزراعة. الزراعة مهنة جديدة أضافتها إلى رصيد خبراتها بعد انتقالها

من الصحراء للعيش على تخوم المدن. الحدود عادة نقطة التقاء بين الريف والمدينة. فضاء منفلت. طوال حياتهم يبحثون عن الأراضى الخالية لترعى فيها خرافهم ومواشيهم، وأيضا ليثبتوا بها خيامهم. الخيام وحدها يمكنها أن تحكى حكايتهم، فهى عبارة عن كولاج من الأقمشة القديمة التى استُهلكت فى رحلات سابقة. بقايا جلابيب، ملاءة، بطانية، لحاف. تتجمع هذه البقايا لتصنع هذا الرمز البسيط الذى يدلل على حياتهم المتنقلة والموزعة بين أماكن كثيرة.

لا تعرف هذه القبائل معنى كلمة الاستقرار، الذى نعرفه فى المدن. تلك التفاصيل اليومية المعتادة التى تصنع ذاكرة أليفة ورابطة مع ما حولها. حياتهم عكس هذا تمامًا، الذاكرة متجددة باستمرار، ولا تعرف الحنين الذى يعرفه أهل المدن، سوى الحنين إلى الفضاء. يسيحون فى أرض الله الواسعة، لا يشعرون بوجودهم إلا وسط هذا الخلاء، ويمنحهم بدوره هذا الخلاء وهذه الطبيعة حرية تعوضهم عن قوانين وأعراف القبيلة الصارمة.

نموذج «الرحالة» كان من أهم النماذج التى اخترعتها خبرتنا الإنسانية، وأكثرها جاذبية. من يرحل ليبحث عن مكان، عن إجابة لسؤال، أو عن مأوى، عن آخر لا يعرف عنه شيئًا. وأيضًا من يرحل ليبحث عن الله. الجميل فى الرحلة أنها تعدك بأنك ستصادف مفاجأة ستغير حياتك الرتيبة رأسًا على عقب.

تعود أصول هذه القبائل إلى سيناء، حيث كانت نقطة عبور هامّة بين الصحراء العربية ومصر. منهم من بَنى البيوت الأسمنتية، وانفصل عن هذه الحياة الشاقة، ومنهم من استمر على حاله، ليكمل الرحلة التى بدأها أجداده، على الرغم من السقف الواطئ لهذه الحياة، حتى بعد أن تكاثرت من حولهم المصانع، وأنشئ ميناء دمياط، وتسارع إيقاع التريللات على هذه الطرق السريعة التى يعبرونها بأغنامهم ومواشيهم. أصبحت هذه الطرق جزءًا من شبكة عالمية للتجارة لا يمكن أن تتوقف أمام «بدوى» يدفع أمامه قطيعًا من الأغنام ليعبر بها الطريق.

الجميع يعيش ككتلة واحدة، سواء تحت الخيمة أو فى هذا الخلاء. من الصعب أن تتحرك بمفردك، وإنما فى جماعة تحيط بك من كل جانب.

جلسنا تحت إحدى الخيام لكبير القبيلة. كانت الملابس تحوطنا من كل جانب. كثير منها معلق فى سقف الخيمة، وهناك أكوام أخرى على أحد الجوانب. على الرغم من السفر المستمر، فإن حياتهم بلا حقائب. لو أذن الرحيل، تطوى الملابس سريعًا داخل إحدى الملاءات، وتقذف بها على عجل فى العربة، أو يحملها أحدهم. مثل البُقجة الكبيرة التى كان يُشاهد بها القروى، فى الأفلام، عند حلوله فى المدينة الكبيرة. أو مثل البقجة والعصا اللتين يحملهما الصوفى فى رحلته وراء منازل الأولياء. لا توجد ملابس تخص فلانًا أو فلانًا. الملابس مشاع بين الجميع. لا توجد خصوصية بالمعنى المتداول فى المدن، فالخصوصية ابنة حدود، والحدود هنا من الصعب العثور عليها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل