المحتوى الرئيسى

إبرهيم العريس يكتب :(الإسكندرية) لفورستر: موسوعة فكرية ونضال سياسي في دليل سياحي

09/01 15:31

عاش ادوارد مورغان فورستر حتي العام 1970. وهو اعتبر طوإل آلقرن العشرين، واحداً من كبار الكتاب الانكليز فيه، ثم اعتبر ايضاً واحداً من الذين اجتذبت رواياتهم كاميرات كبار المخرجين، من ريتشارد اتنبورو ألي جيمس ايفوري. ومع هذا حين رحل فورستر عن عالمنا، كان امضي نحو خمسه عقود من دون ان يكتب ايه روايه جديده.

وهو، علي ايه حال، كان توقّع لنفسه، منذ اصدر عمله الاكثر شهره، اي روايه «ممر الي الهند» بين العامين 1922 و1924، ان تكون هذه روايته الاخيره. وقد صدق توقعه.

> والحقيقه ان كتابه فورستر لـ «ممر الي الهند» لم تكن من الصدفه في شيء... كما لم يكن من الصدفه ان تعتبر هذه الروايه من اجمل ما خطّه قلم غربي عن الشرق. ففورستر امضي جزءاً كبيراً من حياته متجوّلاً في هذا الشرق، من شرق البحر الأبيض المتوسط، الي الشرق البعيد. ومن هنا، حين كتب ذلك النوع من الكتب الشرقيه، كان يكتب عن معرفه دقيقه وقدره توثيقيه تضافرت مع خيال واسع. واذا كان هذا الخيال بدا دائماً واسعاً وخصباً في كتابات فورستر الروائيه، التي كانت تبدو مع هذا اشبه بكتابه تسجيليه وثائقيه، فان ثمه كتباً له، تسجيليه/ تاريخيه، تبدو لمن يقراها وكانها نصوص روائيه جزله. ومن هذه الكتب كتابه الشهير عن مدينه «الاسكندريه» الذي يضعه كثر الي جانب رباعيه لورانس داريل الاسكندرانيه، او بالتكامل معها، بصفتهما اجمل واعمق ما كتب غربيون عن الثغر المصري المدهش.

> والغريب في الامر ان كتاب «الاسكندريه» لفورستر، ليس روايه ولا هو كتاب تاريخ بالمعني المتعارف عليه للكلمه. بل هو دليل... اجل: دليل سياحي(!). او هكذا، علي الاقل ما يعرّف به هذا الكتاب استناداً الي وصف المؤلف نفسه، ويكتشفه القارئ ما ان يبدا بتصفّحه، حتي وان كان هذا القارئ سيكتشف ايضاً ان هذا الدليل يختلف عن كل دليل كتب عن مدينه او عن منطقه من العالم. ذلك ان فورستر وسّع هنا في هذا النص الاستثنائي، مفهوم الدليل السياحي، ليجعل من كتابه نصاً تاريخياً/ سياسياً/ حضارياً/ جغرافياً ثم اخيراً: سياحياً عن الاسكندريه. بل اكثر من هذا، ضمّن المؤلف نصّ الكتاب تعريفاً ببعض كبار كتاب الاسكندريه الذين التقاهم خلال اقامته فيها، ومن اولّهم، بالطبع قسطنطين كافافي، شاعر الاسكندريه اليوناني الكبير الذي كان فورستر من اول مكتشفيه والمعرّفين باعماله في الثقافه الاوروبيه. وهو لئن كان كتب عنه بتوسع وحب في هذا الدليل «الاسكندري»، فانه في الوقت نفسه، تقريباً، كتب عنه ايضاً دراسه مطوّله نشرت كجزء من كتابه «فاروس وفاريون» الذي نشر في العام 1923.

> يكشف كتاب فورستر عن «الاسكندريه» عمق اهتمام هذا الكاتب بمصر، تماماً كما ان «ممر الي الهند» كشف عمق اهتمامه بشبه القارة الهندية، تلك المنطقه من العالم التي عاش فيها وكان يعرفها ويعرف اهلها جيّداً. وفورستر وضع كتابه عن «الاسكندريه» في العام 1922، علي شكل دليل حقيقي. لكنّ هذا الكتاب كان سيئ الحظ كما يبدو، اذ ان مستودع المطبعه التي طبعت نسخه الاولي في ذلك الحين، احترق مدمراً معه القسم الاعظم من نسخ تلك الطبعه. ومن هنا تاخر صدوره في طبعه ثانيه. والطريف هنا هو ان فورستر، الذي يروي هذه الحكايه بنفسه، يقول ان الاسكندريه كانت في ذلك الحين من التغيّر والتبدّل السريعين، الي درجه انه بعد صدور الطبعه التي وزّعت وتم تداولها من الكتاب، حدث له ان زار الاسكندريه ليكتشف انه ضائع في ازقتها وشوارعها ما ان خرج من محطة سكة الحديد. مهما يكن، فان الكتاب هو، في جزء منه، رصد معمّق للتغيرات التي طرات علي مدينه الاسكندريه عبر العصور.

> قسّم فورستر كتابه الذي يضع عند مدخله قولين لاثنين من ابرز أعلام الأسكندرية علي مدي العصور: الشاعر ابن دقماق، وفيلسوف مدرسة الإسكندرية افلوطين، قسّمه الي قسمين اساسيين وملحق. القسم الاول عنونه «تاريخ»، وتحدث في ابوابه الثلاثه عن «المرحله الاغريقيه - المصريه»، ثم «عن المرحله المسيحيه» خاتماً هذا الباب بالفتح العربي، قبل ان يتناول في الباب الثالث «المدينة الروحيه» متحدثاً عن اسكندريه اليهود، ثم اسكندريه الافلاطونيه الجديده، فاسكندريه المسيحيين، خاتماً بالحديث عن الاسكندريه المسلمه و «المدينه العربيه» و «المدينه التركيه» ليصل الي «العصر الحديث» متناولاً علي التوالي حمله نابوليون فعصر محمد علي فالمدينه الحديثه وقصف الإسكندرية.

> اما القسم الثاني من الكتاب فعنونه «الدليل»، واتي اشبه بجوله سياحيه - معرفيه مفصّله تنقّل فيها الكاتب من «القصر الكبير» الي شارع رشيد، ومن ذلك القصر الي راس التين، ثم من القصر مره ثالثه الي احياء جنوب الاسكندريه، مستخدماً كما هو واضح خط سير شعاعياً، مركزه الدائم ذلك القصر المنيف. بيد ان فورستر لا يكتفي هنا بالحديث عن الاسكندريه نفسها، اذ نراه يفرد فصلاً لابي قير ورشيد، ثم فصلاً لمناطق ما يسميه بـ «الصحراء الليبيه» وصولاً الي ابو صير ووادي النطرون. واخيراً في الملاحق، يحدثنا فورستر عن «الطوائف الدينيه المعاصره» في الاسكندريه، قبل ان يفرد فصلاً لموت كيلوباترا واخر للاناجيل المصريه المنحوله.

> يتبيّن من هذا كله كيف ان فورستر لم يشا من الاساس ان يضع دليلاً سياحياً للمدينه يكون برسم الزائرين العاديين، بل كتاباً ذكياً، حين يقراه الزائر ويزور المدينه علي ضوئه، تتخذ هذه المدينه سمات مختلفه. من هنا لم يكن صدفه ان تقول عباره افلوطين التي بها يفتتح فورستر كتابه، بعد المقتطف من ابن دقماق: «لكل رؤيه يجب ان تكون هناك نظره متكيفه مع ذاك الذي تتعين مشاهدته». ويقيناً ان كتاب فورستر هذا، هو نظره كيّفها الكاتب مع المدينه التي احبها وعاش فيها واتخذ من اعلامها، في ذلك الحين، اصدقاء له... بل قد يمكننا ان نقول ان فورستر انما كيّف المدينه كلها مع نظرته اليها وذلك قبل نحو ثلث قرن من كتابه لورانس داريل روايته الاشهر عن الاسكندريه، الروايه التي قيل دائماً انها تدين بالكثير لدليل فورستر هذا.

> في هذا الاطار، لم يكونوا بعيدين من الصواب كل اولئك الذين وصفوا كتاب فورستر بانه اشبه بان يكون نزهه ستانداليه (نسبه الي الكاتب ستاندال) وسط ربوع الاسكندريه وسحرها، مضيفين انه حتي اذا كانت المدينه فقدت مع مرور الزمان كوزموبوليتها وسحرها الماضيين، فان نظره فورستر الانسانيه، لا تزال حتي يومنا هذا قادره علي التعبير عن المدينه...

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل