المحتوى الرئيسى

كاتـب شـاب يعـد بالكثيـر

08/27 00:38

احمد عبد اللطيف كاتب واعد في عالم الروايه‏,‏ حصلت روايته الاولي صانع المفاتيح علي جائزه الدوله التشجيعيه في الروايه لهذا العام‏.‏ وقد صدرت روايته الثانيه عالم المندل

 منذ اشهر معدوده عن دارالعين التي نشرت روايته الاولي التي اصبح لها حضورها اللافت بما نشرته من روايات متميزه.

وقد جذبت روايه عالم المندل اهتمامي النقدي واثارت اعجابي بها, بالقياس الي روايه أحمد الأولي التي تنطوي علي بعض مزالق البدايه, فنيا, رغم عمق منظورها الفلسفي, والجاذبيه الخاصه لرمزيتها الكثيفه, وتعدد ابعاد الدلالات الكنائيه لشخصياتها واحداثها في ان. اما روايه عالم المندل فقد جاء مجالها الزمني وطبيعتها السرديه اكثر تحديدا, ومن ثم استطاع احمد السيطره علي موضوعها من ناحية, والبراعه في تصوير الشخصيه الوحيده التي تنبني عليها روايته القصيره التي تتميز بتدفقها الذي جعلني اقراها في جلسه واحده من ناحيه اخري. وتبدا الابعاد الرمزيه في الروايه في التكشف من عنوان عالم المندل الذي هو دال يقودنا مدلوله الي دلالات فوق واقعيه, تشير اولاها واهمها الي عالم السحر الشعبي الذي يوهم المتاثر به انه يري ما لا يري في الواقع الفعلي, ويسمع ما لا اصل له في الحقيقه, فالمندل هو عمليه من عمليات السحر الشعبي التي اظن انها في طريقها الي الاندثار, ان لم تكن قد اندثرت بالفعل. ويلجا فيها بعض ابناء الطوائف الشعبيه الفقيره الي بعض من يدعون المعرفه بالسحر في حالات السرقه, كي يعرفوا من سرقهم, وكيف واين ذهب بالمسروقات, فيقوم مدعي معرفه اسرار السحر الشعبي بالاستعانه بصبي او فتاه لم يصلا الي سن البلوغ, ويضع فنجانا علي الكف المفتوحه للصبي او الصبيه, وفي الفنجان سائل يشبه الزيت, وهو موضوع علي ورقه بها تعويذات سحريه, وعلي جبهه الفتي او الفتاه تعويذات مشابهه في ورقه. ويطلب الساحر من الفتي او الفتاه تركيز نظرهما علي سطح السائل داخل الفنجان. وبعد تعويذات معينه, وعمليات ايحاء نفسيه, يتخيل الفتي او الفتاه رؤيه مشاهد تحدث وتتعاقب علي سطح الزيت الموجود في الفنجان وذلك تحت تاثير الوهم والايحاء اللذين يدفعان الطفل البريء او الطفله الي توهم مشاهده وقائع وشخصيات متخيله في حقيقه الامر. ولقد مررت شخصيا, بهذه التجربه في صباي البعيد في مدينه المحله الكبري. ويبدو ان احمد عبد اللطيف مر بهذه التجربه او شهدها او سمع بها في احد الاحياء الشعبيه في مدينته الاسكندريه, فتوقف عند دلاله المندل وعندما ننتقل من الدلاله الحقيقيه لعنوان الروايه الي دلالاتها المجازيه, في سياق القراءه, فاننا ننتقل من عالم الواقع الي عالم الوهم الذي ينطلق فيه اللاشعور, متحررا من كل شيء, فتبدو الروايه كلها بمثابه حلم من احلام اليقظه الغسقيه, اذا جاز استخدام هذا التعبير, وندخل الي العوالم الشعوريه واللاشعوريه لبطله الروايه التي هي شخصيه غير سويه, افقدها توازنها النفسي القمع المتعدد الابعاد, والمتواصل عبر تاريخها العائلي الخاص والاجتماعي العام, فهي جمع بصيغه المفرد للانثي المقهوره في بعد من ابعادها الرمزيه, ان تاريخها العائلي يبدا بقمع الام التي تملا خيال ابنتها بصور الرعب من العالم في حكايات مرعبه لم تتوقف ويوازي ذلك وجه انثوي لا يتميز بالجمال, بل يفتقده افتقاد الصحراء الماء. ويزيد علي ذلك عقده الكترا التي انغرست منذ الطفوله في علاقتها بالاب الذي اختطفته منها الام التي اوهمتها بانها تعيش بالفعل في عالم من القتله والسفاحين واكلي لحوم البشر. واضيف الي ذلك ما يتسرب الي لاوعي البطله من اضطهاد ذكوري, وتمييز ضد الانثي لا يتوقف قمعه الي الدرجه التي تدفع لا وعي المقموع بالتعويض عن ذلك باستعاده اهم ملامح الذكوره في الذكر القامع.

هكذا تبدا روايه عالم المندل وتنتهي في افقها الرمزي, يحركها مبدا الرغبه لا مبدا الواقع. والزمان الروائي الذي ينبسط السرد ما بين اوله واخره لا يزيد علي اربع وعشرين ساعه, والبطله التي تستعيد تاريخها المقموع تطلق العنان لتمردها الداخلي في تيار متدفق من اللاشعور الذي يتفجر بمبدا الرغبه, فلا يبقي علي شيء في الماضي الا ودفعه الي سطح الوعي الكتابي. وما دمنا في روايه تعتمد علي تيار الوعي, فمن المنطقي ان يتحرك الزمن الروائي حركات بندوليه ترد الماضي علي الحاضر, وترد الحاضر علي الماضي في حركه سياق الزمن, كاشفه عن حزمه الاسباب التي جعلت هذه البطله علي ما هي عليه, ولا باس لو راينا ما يدعو الي تذكر الواقعية السحرية في ادب امريكا اللاتينيه, فكاتب الروايه متخصص في الادب الاسباني, وترجم عنه ما يشمل اربع روايات لخوسيه ساراماجو, فضلا عن ماركيز, وكلاهما حاصل علي جائزة نوبل. ولا شك ان اطلاعه علي العوالم بالغه الغني للروايه والقصة القصيرة في ادب امريكا اللاتينيه قد دفعه الي معرفه اسرار عالم الرموز ودهاليز القص في عوالم التحول لبورخيس. او عوالم الوهم لساراماجو, او عوالم التبدلات في كتابات ماركيز وعوالمه المخايله. وقد تركت هذه الثقافه اثارها الخفيه في تلافيف عالم المندل وصانع المفاتيح واكسبت احمد عبد اللطيف الروائي جساره انطاق المسكوت عنه من اللاوعي الانثوي المقموع,.

ويتوازي تيار الشعور المتدفق, لغه, مع موجات اللاشعور علوا وانخفاضا, فنقترب من اللغه الشعريه احيانا علوا, ونهبط الي ادني درجات العاميه مفردات وكتابه في ان. وكما يحدث في كل روايه من روايات تيار الوعي, يمضي التيار في تدفقه, متصاعدا كالموسيقي التي لابد ان تصل الي الذروه( الكريشندو) التي يكون بعدها الصمت او نقطه الختام. هكذا تصعد تداعيات البطله المقموعه, حضورا ووعيا, الي ان تشارف الذروه, فتخرج البطله الي شرفه غرفتها, مسلمه نفسها تماما الي عالم وهمي, يحملها بجناحيه, مبتسمه ابتسامه امراه امسكت اخيرا بزمام حياتها, فتتوهم انها قادره علي الطيران. وبالفعل تندفع من الشرفه الي الهواء, فترتطم بالارض, ولا تشعر في ذروه توهمها بتحطم اضلعها. فقد ذاقت لحظه السعاده التي منحها لها الطيران, وكان اخر ما راته جوادها الاسود يبتسم لها اخيرا, فترسل له قبله. ويتوقف تدفق تيار الوعي مع نقطه الختام في هذه الروايه التي لابد من تهنئه كاتبها الذي يعد بالكثير في عالم الروايه الذي ينوس, فعلا, بين عالم المندل وعالم الواقع, حيث لابد من اقامه توازن رهيف, يسمح بالتداخل بين العالمين, واستبدال احدهما بالاخر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل