المحتوى الرئيسى

ابراهيم العريس يكتب :ثورة الإسلام» لشيللي: ثورة التنوير للتخلّص من الطغاة

08/20 12:08

كان ذلك في الزمن الذي فتنت فيه الثوره الفرنسيه كتّاب اوروبا ومثقفيها في شكل عام، وراح كل واحد منهم يبدي فنه في التعبير عن ذلك الافتتان. فالثوره هذه، علي رغم ضروب الارهاب الدامي والصراعات التي عرفتها، وجعلتها تاكل ابناءها واحداً بعد الاخر، كانت اتت بافكارها وعظمتها لتعطي املاً للشعوب بتحقيق الحلم الانساني القديم والبسيط بالوصول الي «الحريه والمساواه والاخوه»، ما يمكّن الانسان من مقارعه الطغيان اين ما كان، وباي ثوب تمسّح. واللافت ان مثقفي الامم المجاوره مباشره لفرنسا، كانوا الاكثر تاثراً بها، لا سيما مثقفي انكلترا والمانيا ومبدعيهما. صحيح ان ما الت اليه الثوره لاحقاً، ولا سيما حين ورثها نابوليون بونابرت وتحول من ثائر الي امبراطور محولاً اياها من ثوره تنويريه الي دوله مستبده استعماريه، قد خيّب الامال كثيراً، غير ان عدداً كبيراً من اولئك المبدعين، عرف كيف يفرّق بين المبدا الثوري والممارسه السلطويه، بين ما قامت الثوره اصلاً لتحققه وما فعلته بالفعل علي ارض الواقع. ومن هؤلاء الذين ظلوا علي ايمانهم بمبدا الثوره الذي قام عليه الحدث الفرنسي الكبير، الشاعر الانكليزي الرومانسي بيرسي شيللي صديق اللورد بايرون، والذي سيدخل سجل الخلود الادبي اواسط القرن التاسع عشر بفضل اعماله الشعريه والمسرحيه الكثيره، وخصوصاً بفضل كتابه الاساسي «بروميثيوس طليقاً» (1820) - الذي اشتهر في شكل كبير لدي الطبقات المثقفه العربيه منذ ترجمه الي لغه الضاد الكاتب والمفكر الراحل لويس عوض - والذي سيعرف ايضاً بدفاعه الدائم عن قيم الحق والحريه. ولئن كان «بروميثيوس طليقاً» هو الاكثر شهره من بين اعمال شيللي، من المؤكد ان كتاباً اخر له، يحمل عنواناً وسمات يخصّان عالمنا الاسلامي وهو «ثوره الاسلام»، يظل الاعمق والاكثر جراه من بين اعماله جميعاً. وهو الكتاب الذي حمله كاتبه باكبر مقدار ممكن من الدلالات.

> من الصعوبه بمكان هنا تحديد السبب الذي جعل شيللي يختار عالم الاسلام وثورته، مناخاً لعمله ذاك، وان كان من المعروف ان الاسلام كان دخل المخيله الغربيه من ابواب متنوعه، منها ما هو سلبي ومنها ما هو ايجابي، في وقت كانت الامبراطورية العثمانية تشكل احدي اهم القوي العالميه واكبرها في ذلك الحين. فغرابه الاختيار تاتي من ان اوروبا، في ذلك الحين تحديداً، كانت تعيش حال صراع مع الاسلام الذي تمثله تلك الامبراطوريه العثمانيه، بل ان اللورد بايرون، صديق شيللي وزميله، شارك بنفسه في ثوره الشعب اليوناني ضد الهيمنه العثمانيه، في زمن كانت اوروبا كلها متعاطفه مع الاندفاعات البلقانيه ضد العثمانيين، في صراعات كان الشكل الديني احدها وربما اكثرها وضوحاً وقسوه.

> ومهما يكن من امر هنا، يمكن الافتراض ان شيللي، كما كان يري تناقضاً بين الثوره الفرنسيه في مبادئها التحرريه والاخويه، وبين ما الت اليه، كان يري ايضاً سموّ مبادئ الإسلام الاصيله واستقلاليتها عن ممارسات الامبراطوريه العثمانيه. وهو امر يمكن في ايامنا هذه فهمه في شكل افضل علي ضوء ما يعتري الدين الإسلامي النبيل في اصوله والتنويري في مبادئه الاولي، علي يد من يفسدونه ويريدون تدمير العالم باسمه وهو منهم براء بالطبع. «الثوره الفرنسيه» و «الاسلام» كانا بالنسبه الي بيرسي شيللي، اذاً، بمثابه الحلم والمبدا، وكلّ منهما في زمنه اي زمن بداياته وبراءته التنويريه الاولي. والحال ان هذا التوازي بين ثورتي الاسلام والمواطنين الفرنسيين، هنا، لن يبدو عشوائياً بالنسبه الي قارئ كتاب «ثوره الاسلام»، وذلك ان شيللي، في نهايه الامر، يستخدم الاسلام ككنايه واستعاره محببّه الي قلبه، وتحديداً لكي يعبّر من خلاله عن الثوره الفرنسيه كما يراها. كان التشابه بين الاثنين واضحاً بالنسبه اليه، ولا سيما من ناحية التقائهما في المبدا الانساني كما في المثل العليا. ومن هنا يمكن القول منذ الان ان الكتاب، وان حمل كلمه «الاسلام» في عنوانه وفي مناخاته، لا علاقه له، حقيقه، بالاسلام. انه كتاب عن الثوره الفرنسيه وعن الحريه.

> نشر شيللي كتابه الشعري هذا «ثوره الاسلام»، في عام 1818، وهو كان قد سبق له ان نشره قبل ذلك بعام في شكل مختلف بعض الشيء، وتحت عنوان اخر هو «لاوون وسيتنا او ثوره المدينه الذهب». وفي الحالين، لدينا لاوون وهو شاب ماخوذ بالنزعه الي التحرّر ويتّسم في الوقت ذاته باقصي درجات الفضيله. ولاوون هذا ترافقه علي الدوام اخته سيتنا، التي تحركها بدورها المبادئ نفسها. ولاوون واخته ياخذان، منذ البدايه، علي عاتقهما مهمه تحرير «شعوب الاسلام» من حال العبوديه التي يعيشون فيها مضطهدين مقموعين من قوي طغيان يصعب تحديد هويتها. ويتمكن البطل واخته، مع عدد من ابنائهما، من الانتصار علي الطغيان وازاله اقنعه الكذب عن وجوهه، فتكون النتيجه ان يهرب الطغاه الي خارج ديار الاسلام تلك، بعد ان امضوا زمناً في استضعاف شعوب تلك البلدان واضطهادها. ولكن الذي يحدث بعدئذ ان تلك القوي، اذ لا يتم افناؤها، تستعين بجيوش اجنبيه وتعاود احتلال ديار المسلمين، وما ان ينجح هذا الاحتلال الجديد، حتي تعم الديار الاوبئه والمجاعات. اما لاوون واخته سيتنا فانهما يحرقان فوق كومه من حطب بناء لنصيحه يتقدم بها كاهن يقول ان تلك هي الوسيله الوحيده التي تنقذ الديار من غضب الالهه. واذ يحرق البطلان «قرباناً» علي ذلك النحو، يكون الانتصار قد تم للطغاه... لكنه لن يكون انتصاراً دائماً بل موقتاً، ذلك ان هذا النص الشعري الطويل لا ينتهي في قصيدته الاخيره، الا وقد هزم الطغيان وساد العدل والمساواه. ولنقل بالاحري: الحريه والمساواه والاخوه، اي شعارات الثوره الفرنسيه الثلاثه.

> «ثوره الاسلام» كما اسلفنا، هو نص شاء منه كاتبه شيللي ان يكون استنهاضاً للهمم الشعبيه من اجل محاكاه الثوره الفرنسيه، وفي شكل خاص في انكلترا التي كانت في ذلك الحين ترزح تحت اعتي ظروف البؤس والفاقه من بعد سقوط نابوليون واسترخاء القوي الاوروبيه التي وقفت من الامبراطور الفرنسي موقفاً معادياً فحاربته ومن ثم التفتت ناحيه شعوبها لتقمعها بعدما صفّت حساب عدوّها الخارجي.

> وفي هذا النص يمكننا، كما يقول الباحثون، ان نجد ما كان سبق لشيللي ان عبر عنه في كتاب سابق هو «الملكه ماب» من ايمانه بقدره القوي الروحيه، وبان من طبيعه الشر ان يكون عابراً. فالشر مهما استشري لا يمكنه الا ان يزول، ويكفي في سبيل ذلك تضافر الاراده الفرديه، والقيم الاخلاقيه، والنوازع الروحيه، وهو ما يملا صفحات «ثوره الاسلام» هذه.

> في هذه القصيده الطويله، المؤلفه من 12 نشيداً متفاوت الطول، يؤمثل شيللي، اذاً، الثوره الفرنسيه وقيمتها، مستخدماً الاسلام وسيلته الي ذلك، وفي شكل يبدو واضحاً ان فيه كثيراً من الاستفزاز للمشاعر الرسميه في انكلترا، وكذلك في اوروبا. ومن ناحيه الصياغه الشعريه، يقال عاده ان شيللي بلغ هنا ذروه لم يسبقه اليها احد، درامياً علي الاقل، وان كان بعض النقاد قد اخذ عليه تضحيته احياناً بالشكل وبالايقاع من اجل التعبير عن فكر ايديولوجي مرسوم مسبقاً، لا يطلع تلقائياً من قلب النص نفسه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل