المحتوى الرئيسى

محمد المهدى يكتب: «ثعلب الصحراء» وكرب ما بعد الصدمة

08/05 10:04

يبدو برنامجا فكاهيا لطيفا ومقلبا رمضانيا يبعث علي الضحك ونحن نري كمشاهدين الضحيه (احد الفنانين) يوهمونه بانه ذاهب لتصوير برنامج تليفزيوني في الغردقه، وبينما هو في الباص يتحدث -او تتحدث- مع فتاه اجنبيه جميله، اذ تُفتَح فجاه ابواب جهنم في صوره هجوم ارهابي علي الباص يحاول وقفه، ويقوم افراد الفريق الملثمون وحاملو الرشاشات باقتحام الباص وترويع مَن فيه، وكلهم تقريبا يتبعون فريق العمل الا الفنان الضحيه المستهدف بالمقلب. وطبعا يتم ذلك في جو من الرعب، ويتم نسف سياره امام الباص بنيران حقيقيه ليزيد ادخال الرعب علي الضحيه، ثم يتم تقييده -او تقييدها- تحت تهديد السلاح، ويمر الضحيه بلحظات عصيبه جدا حتي يكتشف في النهايه ان ما حدث كان مقلبا. فهل يا تري تسير الامور بسلام بعد هذا الحدث، ام ان اثارا ضاره تلحق بالضحيه، بعضها قد يظهر مباشره بعد الحدث وبعضها قد يتاخر ظهوره؟ علي المستوي القريب والمباشر يعاني الضحيه مما يسمي التفاعل الحاد للصدمه «Acute Stress Reaction»، ويظهر في صوره توتر شديد في الجهاز العصبي مع اضطراب في النوم وضعف الشهيه للطعام ورعده في الاطراف واستجابه مبالغ فيها للمثيرات العصبيه، مع سرعه استثاره وانفعالات زائده. اما علي المدي الاطول فيحدث ما يسمي «كرب ما بعد الصدمه» Post Traumatic Stress Disorder) PTSD)، وهو اضطراب نفسي معروف يظهر كرد فعل متاخر او ممتد زمنيا عقب حدث يحمل طابع التهديد الخطير او الكارثه الاستثنائيه التي تهدد حياه او سلامه الشخص او تهدد اخرين امام عينيه. وتبدا الحاله بعد فتره كمون تتراوح بين بضعه اسابيع وعده شهور لتظهر اعراض في صوره نوبات اجترار واعاده تذكر ومعايشه الحدث الصدمي في اثناء اليقظه او في الاحلام، مع حاله من الخوف والهلع او الاحساس بالخدر والتبلد الانفعالي والانفصال عن الاخرين وتجنب كل ما يتصل بالحادثه من رموز او علامات او ذكريات. وتشيع حالات القلق والاكتئاب كاعراض مصاحبه لكرب ما بعد الصدمه، كما تزيد نسبه التفكير في الانتحار، وقد يلجا الشخص الي استخدام بعض العقاقير او الكحوليات لتقليل حده الاضراب الذي يشعر به. وقد تتحسن الحاله بعد عده شهور، واحيانا تاخذ مسارا مزمنا قد يمتد الي عده سنوات خصوصا اذا لم تتخذ اجراءات علاجيه مناسبه. وقد تحدث تغيرات في الشخصيه نتيجه انهيار ما يسمي الافتراضات الاساسيه في الحياه لدي الضحيه، لاننا في الاحوال العاديه نشعر بان الامان هو الاصل وان السلامه هي القاعده وان حياتنا وكرامتنا وسلامتنا مصونه من الغير، ولكن حين نواجَه بحدث استثنائي كهجوم ارهابي او حادثه مروعه او زلزال او بركان فان افتراضاتنا الاساسيه تهتز ونشعر بان الخطر قائم وان حياتنا مهدده وان سلامتنا غير مؤكده، وهذا يعطي انطباعا سلبيا عن الحياه يستقر في اعماق النفس وينتج عنه مشاعر وافكار سلبيه. ويصاحب الحاله اضطراب في الجهاز العصبي المستقل في صوره سرعه في ضربات القلب وتعرُّق ورعشه في الاطراف وشعور بالاختناق وتقلصات في البطن خصوصا عند التعرض لاي شيء يعيد تذكر الحادثه المؤلمه او الصادمه.

والذين قاموا بعمل البرنامج لا ندري هل يعرفون ذلك ام لا، وقد يقولون «اننا نعلن للشخص المقصود ان هذا مقلب واننا نمزح معه»، ولكن للاسف الشديد فان معرفه الضحيه لاحقا بان هذا كان مقلبا لا تغير في الامر شيئا، لان المخ والجهاز العصبي قد استقبل الحدث وتفاعل معه علي انه حقيقه، وحدثت الذاكره الصدميه وتاكدت ولا يفيد كثيرا بعد ذلك معرفه ان هذا كان مزاحا.

وللاسف الشديد بدا هذا التوجه في العام الماضي علي نفس القناه وبنفس الاشخاص تقريبا في صوره تعريض الضيف لرؤيه اسد يقف علي باب الاسانسير بينما يتعرض الاسانسير لعطل، ويظل الشخص (الضحيه) قريبا من الاسد يشعر بالتهديد في لحظات عصيبه حتي يكتشف ان ما حدث كان مقلبا. وتزداد خطوره مثل تلك الممارسات مع الاشخاص الاكبر سنا الذين يمكن ان يصابوا باضطرابات خطيره في القلب او في الجهاز العصبي قد تودي بحياه احدهم او تترك اثارا مرضيه خطيره.ومن هنا وجب التنبيه والتحذير، وارجو ان تتبني الجمعيه المصريه للطب النفسي دعوي مناهضه مثل تلك البرامج التي تؤدي الي اضرار نفسيه علي المدي القريب او البعيد لان هذه مسؤوليه اهل العلم والتخصص. وحتي من الناحيه الفنيه فان احداث كل هذا القدر من الرعب حتي يضحك المشاهد هو من قبيل ضعف القدرات الفنيه، لان الفن الحقيقي يتميز باللطف والرقه والجمال لا بالعنف والتهديد الذي يشكل خطرا علي حياه الناس، وليس من المقبول او المنطقي او الاخلاقي او الانساني ان نعرّض حياه او سلامه انسان للخطر مقابل انتزاع ضحكات الجمهور او الحصول علي اموال طائله من الاعلانات التجاريه. يضاف الي ذلك ما قد يحدث من تشجيع للناس علي عمل مقالب لاصدقائهم علي هذه المستويات الخطره كنوع من التقليد والمحاكاه، ولا يمنع من ذلك التحذير المكتوب في بدايه البرنامج.

ولو كنا في مجتمع يحافظ علي حقوق الناس لطالب الضحايا بتعويضات عما اصابهم او ينتظرهم من ضرر بسبب ما تعرضوا له من زلزال نفسي هز استقرارهم النفسي واحدث لديهم شروخا نفسيه قد يعانون من اثارها سنوات طويله.

اتصل بنا | شروط الاستخدام | عن الموقع

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل