المحتوى الرئيسى

حرب وَرَثة الديناصورات

08/02 10:10

واضح انني فاجاتهما باشعالي النور وهما ملتحمان في هذا الوضع الغريب فاربكتهما المفاجاه. لم يبديا هذه البراعه في الفرار والقدره الفذه علي الاختفاء لدي بني جنسهما في الحاله الفرديه. وهي براعه شغلت علماء الالكترونيات واستلهموها في تطوير حركه الروبوتات اعتمادا علي اكتشاف ان المسننات التي تدرع ارجل هذه المخلوقات ليست اعضاء حسيه كما كان يُظن، بل تشكيلات ميكانيكيه لقهر صعوبه الحركه علي الاسطح العسيره. وقد اكتشف علماء الاحياء ان لهذه الكائنات ضفيره عصبيه خاصه تمتد من الراس الي الذيل وتجعلها تنتبه للخطر من اي اتجاه يطل.

قدَّرت ان التحامهما الحميم، ظَهرا لظَهر، اعاق اتخاذهما قرارا بالفرار ينجيهما من هجوم يتوقعانه بما بات معروفا عن جنسهما من امتلاك ذاكره متقدمه تجعلهما من اذكي الكائنات رغم وضاعه محتدهما. ولم يكن هذا الجمود التاعس الذي اصابهما فور اشعالي للنور هو الذي جعلني احجم عن سحقهما. بل التريث في تاملهما بشيء من الاشفاق لان هذا العناق الزوجي يمكن ان يكون الاول والاخير بالنسبه للانثي. فالانثي يحدث ان تلتقي بالذكر مره واحده فقط في حياتها، فتظل تنجب حتي نهايه عمرها، مُعطيه ما يقارب مائه وخمسين من الابناء. فكيف ابطش بذلك الوضع العاطفي الوجودي التراجو اسطوري!

احضرت ورقه ومررتها تحتهما بحذر حتي لا اثير هلعهما، وحملتهما علي هذا البساط الورقي الطائر الي سله القمامه ليكملا عناقهما في مكان لا يستنكفانه، فهما من القمامه يجيئون، ومع القمامه يذهبون، وبالقمامه ينتشرون. ولم انس امرهما لانني كنت مشغولا منذ فتره بشان نوعهما، وذلك الاجتياح الذي لم يتوقف مع ارتفاع حراره الصيف علي مطبخ شقتنا والحمامين، ومطابخ وحمامات شقق الجيران في عمارتنا وعمارات الحي شبه الراقي الذي نسكنه. واكتشفت عندما اعيتني الحيل المعتاده في مقاومتهم انها ظاهره تعم القاهره وربما مصر كلها كما اخبرني مسئول شركه خاصه في المكافحه الكيميائيه يراسها دكتور باحث بدرجه استاذ في احد المراكز القوميه العلميه المتخصصه.

تصوروا كائنا يستطيع ان يعيش اسبوعا علي قيد الحياه بعد قطع راسه. ولا تتوقف حياته علي الفور بعد ان يتوقف قلبه الانبوبي الذي يضخ دمه الابيض في الاتجاهين. يحيا بلا طعام لعده اشهر، وبلا شراب لمده شهر، ولا يتنفس لثلاثه ارباع الساعه مغمورا تحت الماء. يتحمل 15 ضعفا للجرعه المميته من الاشعاع النووي التي تقتل الانسان فينجو من حرب نوويه او تسرب اشعاعي كارثي. كائن بعيون مركبه وراس صغير وذاكره متطوره تكوِّن برامج محكمه للتصرف العاجل في المازق، ومنها برنامج للهروب الفوري يعتمد علي استكشاف دقيق للفروق الطفيفه بين النور والظلام تتيح له الاختفاء البارق في الثقوب الدقيقه بقدره عجيبه علي ضغط جسمه في عُشر حجمه. كائن يرجع تاريخ وجوده الي عصر الديناصورات التي انقرضت وبقي هو عبر 150 مليون سنه حتي وُصِف بانه «سيرث الارض». فهل ترث الصراصير ارضَنا؟

اي نوع من الصراصير هذه التي تزحف علي بيوتنا وعاصمتنا ووادينا وتبلغ اوج زحفها في هذا الصيف المصري الحار؟ اردت ان اعرف لعلي استطيع استنباط طرق ذاتيه بسيطه لمكافحتها، فوجدتني استخدم طريقه «التشخيص بالاستبعاد» في مواجهه احتمالات متعدده متشابهه. واحتمالات الصراصير الشائع غزوها للبيوت تكاد لا تخرج عن ثلاثه: الامريكي، والالماني، والشرقي او الافريقي، وهي تسميات ليست سياسيه وان كان ممكنا ان نري فيها ذلك فيما نواجهه من ابتلاء نحن مسئولون عنه اولا واخيرا.

الصراصير المُجتاحه لمصر حاليا صغيره داكنه اللون متوسط طولها من الراس الي الذيل نحو 15 ملليمترا وتفضل الاماكن الدافئه والرطبه وهي شديده البراعه والسرعه في الفرار والاختباء بمجرد تعرضها للضوء، ولا يمكن ان تكون من فئه الصرصور الامريكي التي ضربت بيوتنا وحياتنا منذ عده سنوات، فالصرصور «الامريكي» متوسط طوله 30 ملليمترا، لونه بني براق باجنحه طويله لا يطير بها، اما الصرصور «الشرقي» فهو وان كان يتشارك مع «الالماني» في متوسط الطول، الا انه يختلف في اللون وسرعه الحركه. وهكذا لا يبقي امامنا غير «الالماني» الذي يُعتَبر من اكثر الصراصير صمودا امام الوسائل الشائعه في مكافحه الحشرات التي اعياني تجريبها، فلجات لشركه الاستاذ الدكتور المتخصص!

حضر رجلان ليبدا الرش الذي جاء في اعلان الشركه انه لا يتطلب اخلاء المكان ولا مغادره المنزل ولا تنبعث عن مواده ايه روائح وتكفي مده ساعه من اغلاق الاماكن المرشوشه لضمان عدم ظهور الصراصير لمده سنه، او خمس سنوات في حاله اضافه ماده للقضاء علي اليرقات. واخترت بالطبع ان استريح لمده خمس سنوات. ومع الدقائق الاولي لبدء المعركه اكتشفت ان الذي سيموت فورا ليس الصراصير الالمانيه بل الرجل الذي نتع انبوبه الرش علي كتفه ودخل الحمام بلا كمامه وقد كان ممصوصا وضئيلا وبقفص صدري مقبوض ويتنفس بعسر مما يشي بانه مريض بربو مزمن، فاوقفت الرش لانني لم احتمل ان يموت في بيتي. عندئذ تدخل الرجل الثاني الذي وضح انه «فنِّي» يراس الاول، وبدا الرش بسخاء مفرط فحوَّل ارض الحمام الي بركه من السائل الابيض السام الذي يرشه. ولا حظت انه يخوض في هذه البركه بشبشب في قدميه فتذكرت حالات التسمم بالمبيدات التي كانت تكاد تودي بالفلاحين في مواسم مقاومه دوده القطن لانهم كانوا لا يفطنون الي امكانيه تسممهم عبر الجلد بينما يذيبون المبيدات في البراميل باياديهم العاريه قبل الرش ويخوضون في سوائل الرش باقدامهم الحافيه بعد ذلك. ونبهت «الفني» لكنه طمانني بثقه العارف الخبير، فيما كانت رائحه الرش تخنقنا.

انتهت المعركه ماموله النتائج مع الصراصير الالمانيه. واستغربت عندما اخبرني «الفني» انه استهلك 16 لترا في حمامين ومطبخ صغيره كلها. ولم يكن امامي الا الاذعان والدفع والحصول علي «ضمان» السنوات الخمس. وبعد الغلق والفتح والتنظيف بدت ساحه المعركه في اليوم الثاني وكان الصراصير قد غادرتها الي الابد، لكنني في اليوم الثالث ضبطت صرصورين صغيرين يعاودان الظهور وان في ترنح. ثم في اليوم الرابع عثرت علي صرصور نشيط افلت من المطارده. وكان ان قعدت مهموما افكر في الوضع، بما هو حاضر ومستقبلي، تكتيكي واستراتيجي. خاص وعام!

اكتشفت ان تلك الصراصير وما يشابهها من حشرات، ستظل تهاجمنا طالما تواصلت نكبه الزباله في حياتنا دون حلول جذريه لها. وهي نكبه مصدرها تلوث النفوس وسعار الفلوس وهمجيه التكدس وقله الحياء في مواجهه القذاره. ليس في الاحياء الفقيره وحدها بل الاحياء الراقيه وشبه الراقيه ايضا، فمسلسل الخيبه هو نفسه الذي يفاقم تراكم الزباله في الشوارع وحول البيوت، حيث تتكاثر الحشرات فيها وضمنها تلك الصراصير الالمانيه البارعه جدا في تسلق الحيطان ومواسير المياه والصرف والغاز والوصول الي مطابخنا وحمامتنا، وربما غرف نومنا في المستقبل.

جوهر الحل في معضله الزباله، كما غيرها من معضلات حياتنا المصريه، هو: «ايجاد المنظومه»، الفعاله والمستمره باليات شفافه، تفارق ممارسات الفساد التي ادرَّت علي احد القراصنه من «شله» وريث زمن الغفله ما يُقدَّر باربعه عشر مليارا من الجنيهات كونها من شركه نظافه شبه وهميه غسلها بشركه اخري اكثر شياكه في قطاع الخدمات، وسرعان ما اختفت الشركتان واختفي معهما ذلك القرصان عقب سقوط النظام السابق. فهل حصلنا علي «منظومه» جديده لحل معضله الزباله في العهد الجديد؟ حتي الان لم يحدث، واخشي القول بان ذلك لن يحدث طالما اعتمدنا علي «التفكير المدرسي» الذي تكشفت لنا حدوده الضيقه في الفتره الاخيره، بدلا من «الرؤيه الابداعيه» في حل مشاكلنا ذات الاولويه ومنها مشكله الزباله التي احد تجلياتها جائحه الصراصير.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل