المحتوى الرئيسى

عن الحوارات وطقوس الكتابة

07/30 11:45

لا شك ان محاوره مبدع ما، في شتي مجالات الابداع الكتابي او الفني، عن تجربته، تعد من المسائل الحيويه، وهي ايضا جزء هام من عمل الصفحات الثقافيه والبرامج الاذاعيه والتلفزيونيه التي تهتم بالثقافه في اي مكان.

ان تستضيف ذلك المبدع، وتطرح عليه عددا من الاسئله التي من المفترض ان يجيب عليها بكل نزاهه وتجرد، توضح نقاطا معتمه في تجربته، ربما يحتاجها قارئه من اجل الدخول الي تلك التجربه، او يستخدمها الناقد والدارس حين يتناول بالتفصيل عملا لذلك المبدع.

وهناك كتاب كثيرون اجادوا فن الاجابات علي محاوريهم تماما كما اجادوا الكتابه، ولم تخل حواراتهم من متعه يمكن ان تشد القراء اليها كما تشد القصيده الجيده والروايه المكتوبه باتقان. وقد ترجم الروائي الاردني الياس فركوح حوارات مع كتاب مثل ميلان كونديرا وخوان غوتسيلو واخرين، ضمنها في كتاب هام تحدث فيها هؤلاء عن تجاربهم وطقوس الكتابه عندهم ومواقفهم السياسيه والانسانيه ازاء القهر والظلم، وارائهم في توظيف الجمال والفن في ما يكتبون.

الكاتب والفيلسوف التشيكي ميلان كونديرا

واعتبر ما قدمه فركوح من الكتب التي يمكن قراءتها بنفس المتعه التي يقرا بها العمل الادبي لهولاء، ذلك ان الاضاءه داخلها كانت باهره، والعوالم التي لا نستطيع الامساك بها كامله داخل النص الابداعي، يمكن ان تاتي كامله هنا.

وكما فعل فركوح فعل اخرون، غالبا من محرري الصفحات الثقافيه المتميزين، حين وضعوا حواراتهم التي اجروها مع مبدعين علي مدي سنوات داخل كتب ليسهل اقتناؤها ومن ثم قراءتها. ومن هؤلاء الصحفي السعودي طامي السميري الذي نشر مؤخرا كتابا جميلا عن حواراته مع المبدعين، ضم كتّابا من اجيال عربيه مختلفه ومدارس متعدده.

علي ان تلك الحوارات رغم فائدتها الكبري التي ذكرتها، يجب ان لا تكون شغلا شاغلا للمبدع، يلهيه عن عمله الاصلي وهو الابداع، بمعني ان يتاني المبدع كثيرا قبل الموافقه علي اجراء اي حوار، ولا يستجيب الا لتلك الحوارات التي تعد اعدادا جيدا من محاور ينبغي ان يكون ملما الماما كاملا بتجربه الكاتب، قبل ان يدخل معه في حوار.

فالحوار الناقص او الحوار الذي يعد من السمع فقط، ومن قراءه اخبار هنا وهناك عن الكاتب، دون قراءه نصوصه، يؤدي بلا شك الي تشويه التجربه، ويمكن ان يحس الكاتب -ومعه القارئ ايضا- بالسام من تكرار اسئله بعينها، والمشي علي طرق معبده سلفا، لا تؤدي الي جديد يستهوي او يشد.

وفي تجربتي الخاصه علي مدي العامين الماضيين، لا يمر يوم دون ان اجد اسئله في بريدي تبحث عن اجوبه، ورجاءات بالموافقه علي اجراء حوارات، او اعثر في كثير من الاحيان علي تجميعات من حوارات سابقه، واسئله لم تطرح علي من قبل، تمت الاجابه عنها نيابه عني ووضعت في الصحف، سواء تلك الورقيه منها او الالكترونيه، ونتيجه لتلك الضغوط، لم اعد اجد وقتا للكتابه، لا استطيع التفكير بصفاء، ولا استطيع ان اعثر علي بداياتي ونهاياتي، ونصوصي التي احب كتابتها، وتحب هي ان اكتبها، رغم كل ما نسببه لبعضنا من كابه.

ما انطبق علي، ينطبق علي غيري من الكتاب الذين تم اشغالهم ايضا في حوارات مكثفه، وبعضها غير مدروس ابدا، مثل محاوره قدمتني مره في برنامج اذاعي بصفتي كاتبا لمائتي روايه، وبالطبع لا يمكن لاحد ان يكتب هذا العدد من الروايات، حتي لو عاش اضعاف عمره، وهذه المحاوره بالقطع لا تعرف عن تجربتي شيئا، ولا اتوقع انها سمعت باسمي قبل ان تجري ذلك الحوار الذي لم يخل من الاسئله المعتاده التي اجبت عليها عشرات المرات من قبل.

ايضا اخبرني احد الزملاء الروائيين انه تلقي حوارا من صحفي يساله عن اعمال كاتب اخر، وطقوس كتابتها، وكيف استوحاها، ورسم شخصياتها، باعتبارها اعماله هو. ولو كانت تلك المحاوره او الصحفي الذي ارسل الحوار لزميلي مهمومين بالثقافه بالفعل، وليس مساله اداء عمل روتيني، لكان الحواران مثمرين بكل تاكيد.

"الكاتب الكبير الطيب صالح انه كان يحب الكتابه ليلا، في مكان شبه مفتوح، وباقصي درجه من التوتر".

ايضا ثمه خلط كبير في اسئله المحاورين، بين ما هو خاص بالتجربه الكتابيه عموما وما هو خاص بالسيره الذاتيه التي ربما لا يريد الكاتب ان يزيح عنها الغطاء لاعتبارات شتي، ربما باعتبارها لا تهم احدا، او تؤدي الي اشكالات لا يود الكاتب ان يخوض فيها في الوقت الحاضر.

وشخصيا ورغم تورطي في الاجابه عن اسئله شديده الخصوصيه من قبل، فانني طالما تمنيت ان اسال عن تجربتي في الكتابه فقط، من اين اتي بالنصوص، والشخصيات، دون التدخل في تلك الطرق التي سلكتها حتي اصبحت هدفا للحوارات. هذا يمكن ان اكتبه في سيره ذاتيه، اذا ما قررت كتابه سيره ذاتيه ذات يوم.

بالنسبه لطقوس الكتابه عند اي كاتب، هذا شيء مهم يغفله معظم المحاورين، وفي رايي ان طقوس  الكتابه لدي كل من يكتب، لا تخلو من الطرافه والامتاع ايضا، اذا ما القي عليها بعض الضوء. هناك من يكتب في الامكنه المغلقه الهادئه، كمن يحافظ علي سر، وهناك من يكتب في المقاهي، وفي اركان الشوارع الضاجه، وهناك من يكتب نهارا ومن يكتب ليلا، ومن لا يكتب الا في ساعه التوتر القصوي، ومن يكتب ساعات محدده في اليوم، وفي فصول محدده من السنه، ومن يكتب في اي زمن واي ساعه يعثر فيها علي كتابه، وهكذا.

وقد ذكر لي الكاتب الكبير الطيب صالح انه كان يحب الكتابه ليلا، في مكان شبه مفتوح، وباقصي درجه من التوتر. وقد كتبت من قبل عما يمكن ان نسميه اماكن الالهام، وهي اماكن يقترحها الكاتب لنفسه، ويتوهم ان لا كتابه ستاتي الا فيها، وفي الغالب لا يكون الامر حقيقيا، ولكن مجرد ايحاءات نفسيه، تمنح تلك الاماكن قامات اعلي منها، وتلبسها قداسه لا تملكها حقيقه، لان ذلك الكاتب يستطيع ان يكتب ان كان لا بد ان يكتب، في اي مكان اخر بعيد عنها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل