المحتوى الرئيسى

رمضان 1213هـ

07/25 09:52

مدينه حزينه ومهزومه هي القاهره في هذا العام، اقبل رمضان وجنود الفرنسيس يجوسون في حاراتها نصف المهدمه دون ان يجرؤ احد علي التعرض لهم، هذا اول اعوام الاحتلال، وقد قدم نابليون بونابرت اعظم خدمه للمصريين عندما خلصهم من كابوس المماليك، تلك الديدان الشرهه التي علقت بالجسد المصري تمتص خيراته وتذل ابناءه علي مدي مئات السنين، وهم يشبهون مماليك هذه الايام الذين كشفتهم الثوره، فعندما اقتحم الفرنسيس بيوتهم المهجوره، وجدوا فيها صناديق طافحه بالذهب والجواهر واللالئ، هذا غير الثروات التي حملوها معهم في رحله هروبهم الي الصعيد، وقد ادهشهم ان يوجد في مدينه بهذا البؤس حكام بكل هذا القدر من الثراء، ورغم ذلك فقد قامت المدينه بثورتها الاولي بعد ثلاثه اشهر فقط من الاحتلال، جاءت الشراره الاولي من الجامع الازهر، وقد حاول نابليون استماله شيوخه وكسب ولائهم، ولكنهم رفضوا التعاون مع كافر مثله، عدو للدين والسلطان التركي، ولانهم لم يجدوا العدل الذي كانوا ياملونه، فقد استبدلوا احتلالا باخر، واستجاب العامه والحرافيش للمشايخ، فسدّوا الطرقات وقتلوا قائمقام القاهره واعوانه، ولكن الفرنسيس ردوا بقسوه، ودمروا اجزاء كبيره من المدينه وقتلوا اهلها، وجاء رمضان والناس لم يفيقوا بعد من مراره الانكسار.

اعلن ساري العسكر «نابليون» صفحه عن الجميع، وطلب ان يحتفلوا بقدوم الشهر كعادتهم، ودفع بعضا من تكلفه موكب الرؤيا، ووقف وحوله بقيه الجنرالات يشاهدون الموكب وهو يمر امامه، في المقدمه سار ارباب الطرق الصوفيه باعلامهم الملونه وهم يدقون الصنوج، كان الفرنسيس قد استولوا علي اوقافهم ومنعوا عنهم النفقات وعطلوا حلقات الذكر التي يقيمونها في المقطم، تلاهم اصحاب الحرف والصناعات، كانت المدافع التي نُصِبت فوق القلعه قد فتحت عليهم ابواب الجحيم، وانهمرت عليهم قذائف «القنبر» التي دكت حوانيتهم ودمرت احياءهم، وتلاهم شيوخ الازهر وطلبه المجاورين والعميان، كان جنود الفرنسيس قد اقتحموا باحه المسجد بخيولهم، فحطموا المكتبات وكسروا المصابيح واحرقوا المخطوطات، وتحولت اماكن الصلاه ودروس الفقه الي حظيره مليئه بالرّوث، لم يجد المشايخ الكبار بُدًّا من الذهاب الي ساري العسكر والتوسل اليه حتي يسحب خيوله بعد ان امتلا بيت الله برائحه الصنانه، وهكذا توالت الطوائف حتي انتهي الموكب وثبتت الرؤيا، واكد الفرنسيس علي اصحاب البيوت ان يضع كل واحد منهم قنديلا امام بيته، وان يحرص علي بقائه مشتعلا طوال الليل، وللمره الاولي ظلت الدروب مضاءه، ذهبت الوحشه ولم يعد هناك خوف من لصوص الظلام، ولكن احوال المعيشه كانت قاسيه، الاسعار مرتفعه، والبضائع المجلوبه من بلاد الروم لم تعد موجوده، فالاسطول الانجليزي يحاصر الشواطئ، ويمنع الصادر والوارد، وتعطلت الحرف والمهن التي تعتمد علي هذه المواد، واغلق الصناع ورشهم، واصبحوا «مكاريه» يسوقون الحمير، فلا احد يدري سر غرام جنود الفرنسيس بركوب الحمير والطواف بها طوال اليوم وهم يغنون ويضحكون، وسط مدينه مليئه بالعاطلين والجوعي، وزاد من احساس المصريين بالمراره ترفُّع اسافل النصاري من القبط والشوام والاورام واليهود الذين يخدمون الفرنسيس وسخريتهم من عاداتهم في الصوم بكلمات فاحشه.

وبعد طقوس الاذلال الاولي عمل الفرنسيون علي ابهار المصريين، وعلي حد تعبير نابليون، فقد طمع في مصر العديد من الامم لخيراتها وموقعها المركزي في العالم، ولكنها لم تشهد شيئا مثل غباوه الترك وتخلفهم، وكان محقًّا في ذلك، فقد خيم علي مصر ليل عثماني دامس دفعها الي مهاوي التخلف، وعادي الاتراك كل صيحات التقدم، ويكفي انهم منعوا دخول المطبعه الي امبراطوريتهم الشاسعه لمده نصف قرن من الزمن، وبينما كانت مكتبات اوروبا وجامعاتها مليئه بالكتب والمراجع في شتي انواع العلوم، كان العثمانيون ما زالوا يكتبون المخطوطات المذهَّبه الفارغه من كل معني، واحضر الفرنسيس معهم اول مطبعه بحروف عربيه، ومعها علماء في الكيمياء والطب والفلك، ادهشوا المصريين بتجاربهم، ولكن الاهم كان قدرتهم علي اختراع الالات التي تسهِّل من مشقه العمل، فعندما كانوا يقومون بتوسيع الطرق صنعوا للعمال عربه صغيره تسير علي عجلتين تساعدهم علي حمل الاتربه بدلا من الغَلَق والمقطف، وعندما غرقت احدي السفن التي تحمل البن في السويس، استخدموا الحبال والالات الرافعه حتي اخرجوها من جوف البحر، وكذلك اتبعوا وسائل صارمه في النظافه مكَّنتهم من منع انتشار الطاعون، ولكن الذي ادهش المشايخ حقًّا هي تلك الاله التي اخترعوها لتحديد مواقيت شهر رمضان، فقد صنعوا مزوله تعمل وفق اشعه الشمس نهارا، وضوء القناديل مساء بحيث تحدد مواعيد الصلاه بدقه، واصبح مدفع الافطار يطلق في وقت محدد، دون مجال للتخمين، ويستغرب الجبرتي من فعلتهم، فليست هذه عقيدتهم ولا يهمهم امرها ومع ذلك اعملوا فيها عقولهم حتي وضعوا لها هذا التنظيم.

ولم يرضَ نابليون ان يبقي داخل حدود مصر كفار حبيس، فحاول ان يرد علي حصار الانجليز بتحقيق حلمه بصنع امبراطوريه في الشرق تقطع امامهم الطريق الي الهند، بدا ذلك بان اجتمع مع المشايخ والعلماء ونبه عليهم عدم اثاره اي نوع من المشكلات، فهو لن يغيب الا شهرا واحدا يؤمِّن فيه البلاد الشاميه، وسيؤدب كل من تسول له نفسه الخروج عليه، ثم جهَّز قواته، وجمع كل الجمال والبغال والحمير، واخذ معه المترجمين واصحاب الحرف من حدادين ونجارين، وقد باشروا عملهم علي الفور، فصنعوا عشرات المحفّات التي تجرها البغال لتركب فيها محظيات من الشركس والجواري السود اللواتي استولي عليهن الجنود من بيوت المماليك، وانضمت اليهن عشرات المغنيات والراقصات، وقد تزينَّ جميعا بزيّ نساء الافرنج، لم تكن المدينه في حاجه اليهن في رمضان علي اي حال، ولكن جيش الفرنسيس كان يعتقد ان هذا السلاح لا يقل اهميه عن المدافع، كل هذا دون ان يفطن احد انهم تركوا المدينه تعاني من العطش في عز رمضان، فقد تسبب غياب البغال والحمير في عجز السقائين عن جلب المياه من النيل، واصبح علي الاهالي ان يعتمدوا علي ابارهم القديمه ومياهها غير العذبه.

توالت انتصارات نابليون طوال رمضان، فقد اعلن المنادي في الاسواق انه قد استولي علي قلعه العريش، وعرض موكبا يضم جنودا من المماليك المنهزمين، ولم يعتد اهل القاهره ان يشاهدوا المماليك في هذه اللحظه الذليله، وبدا انه لا توجد قوه قادره علي ايقاف نابليون، فقد سقطت غزه وبعدها خان يونس، وتوالت مواكب المهزومين، وكانت اعنف المعارك عند حصن يافا، فقد ظل نابليون يدكّ اسوارها بالمدافع، وفي نفس الوقت يرسل التطمينات الي الاهالي بانه لا يريد بهم سوءًا، فقط الانتقام من الوالي التركي «الجزار باشا»، ولكنه نسي كل وعوده عندما تمكنت مدافعه من احداث ثغره في سور المدينه، وتدفق منها جنوده الي الداخل، وقتلوا من اهلها اربعه الاف انسان في يوم واحد، وقد اثارت هذه المذبحه رعب الجميع، وادركوا انه لا امان لنابليون ولا لكلماته المعسوله، وكان الاسري من يافا هو اخر ما شاهدته القاهره، اختفت اخبار نابليون بعد ذلك، ولم يعرف احد ان اسوار عكا قد اوقفته، وان الطاعون قد هزم الجيش الذي عجز العثمانيون عن هزيمته، وارتفعت تكبيرات العيد، وبدات المدينه الحزينه تلملم شملها، وتحاول التغلب علي احزانها وتواصل الحياه كما يليق بمدينه عتيقه.

اتصل بنا | شروط الاستخدام | عن الموقع

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل