المحتوى الرئيسى

جميل مطر يكتب: نخطئ إذا تصورنا ولو للحظة أن حققت أغراضها يوم جاءت برئيس جديد أو قيادة ائتلافية ..

06/25 10:14

دعاني اصدقاء لحفل توزع فيه المدعوون علي غرف الاستقبال. كان نصيبي غرفه مكتبه اختار الجالسون فيها مكانا لي بين اخرين علي «كنبه» تصدرت الغرفه وامامها علي الحائط المقابل جهاز تليفزيون. جلست في المكان الذي اخلاه بدون تردد صديق اسعده حضوري. لم افهم السبب وراء سعادته الا بعد دقائق من مغادرته الغرفه. كان اصحاب الغلبه في الجلسه قد بداوا قبل وصولي يلعنون الجحيم الذي تعيش فيه مصر ويتباكون علي النعيم الذي كانوا يعيشون فيه قبل عام ونصف.

مرت الدقائق ثقيله، ومع كل دقيقه تمر يزداد جو الغرفه كابه. لا احد يبتسم. لا نكته قيلت. لا خبر مفرحا او حكايه مسليه. خيم علي الجلسه غم شديد، فمصر الي زوال ولا امل الا بحاكم يقرقع السياط ويفتح السجون ويلجم الافواه ويقصف الاقلام، حاكم يعسكر المجتمع ويفرض الانضباط وينهي سطوه «الافنديه» ويكتم اصوات الاحتجاج، حاكم يعيد الي مصر النعيم الذي راح.

 غبت عن احاديث الغرفه وجلبتها حين جذبت انتباهي شاشه التليفزيون وهي تنقل صور مهرجان شعبي في بلد اجنبي. تكررت، في مشاهد المهرجان، صور لالعاب ناريه، كان اغلبها يبدا بشريط من النور صاعدا من اسفل كجذع شجره وفي اخره طاقه نور مبهره، ما تلبث تخبو للحظه لتتفتح بعدها في اشكال جميله متعدده وانوار اخري اشد ابهارا ولمعانا واكثر جمالا.       

هكذا اصبحت اري ثوره الربيع. بدات نورا مبهرا في تونس قبل ان تتمدد في اشكال وبلاد متنوعه. مصر بعد تونس ثم ليبيا وسوريا واليمن والبحرين والان في السودان واماكن اخري ممنوع علي الاعلام العربي والعالمي الوصول اليها، هي هناك ولكن لا نراها. انصب تركيز البعض منا خلال شهور عديده علي مراقبه هذا التمدد الافقي لظاهره الثوره او علي متابعه الصراع علي السلطه.

لم تهتم غالبيتنا بجوهر ما حدث وانما اهتمت بقشره التغيير. ركزنا علي فلول راحله وفلول قادمه. اهملنا حقيقه واضحه وضوح الشمس وهي ان الثوره التي تمددت افقيا ومازالت تتمدد، هي الان تتعمق راسيا. دعونا نقارن بين مصر اليوم، او ليبيا اليوم او تونس اليوم بمصر وليبيا وتونس قبل عام ونصف. لا نقارن الشكل او القشره، وانما الجوهر. لا احد يستطيع انكار ان عمليات الفرز السياسي والاجتماعي مازالت جاريه وتزداد قوه وعمقا مع كل يوم يمر من ايام الثوره. فكرت ان اسال الجالسين معي علي الكنبه عن حجم الزياده التي طرات علي معلوماتهم عن الطبقه الحاكمه المصريه بعد مرور عام ونصف علي الثوره. انا علي ثقه كامله في ان جميع الإفراد الموجودين في هذه الغرفه في تلك الليله صاروا يعرفون ان هناك تسعه عشر قائدا عسكريا كانوا مشاركين في حكم مصر لعدد لا نعلمه من السنوات، وانه لولا هذه الثوره ما كنا تعرفنا عليهم وتعرفوا علينا. لولاها لتجمدت معلوماتنا عن القوات المسلحة عند حرب اكتوبر 1973.

 هل ننكر ان اغلبنا «اكتشف» وزراء ومسئولين مدنيين كانوا في الحكم واستمروا فيه او رحلوا عنه لم نكن نعرف حجم ثرواتهم وضخامه نفوذهم ونواحي ضعفهم وفسادهم. وقتها لم نعرف كمحكومين درجه كراهيتهم للشعب وتعاليهم عليه. نعرف ايضا ان العلاقات البينيه بين عائلات هذه الطبقه لم تكن دائما شريفه او ودوده، وان مصالح «الوطن» كانت في غالب الوقت موضوعا للخطب والبيانات، بينما كانت مصالحهم كممثلين لطبقه او فئه او مؤسسه اسبق واهم. لم نكن نعرف علي وجه اليقين حجم المصالح الماديه التي تتولي حمايتها المؤسسه العسكريه الا عندما صدرت اثناء الثوره تصريحات تحذر من الاقتراب منها بالحديث او البحث او حتي بالفضول.. كنا نسمع بوجودها وكان المتخصصون في دراستها قادرين علي تقدير قيمتها واحجامها، ولكن لم يخطر علي الذهن وقتها انها ستكون ذات يوم سببا لاقامه سد منيع بين الشعب وقاده جيشه. بالتاكيد لم نفكر يوما في احتمال ان تنشب ثوره لتطلعنا علي اسرار الخطط الدفاعيه والتسليحيه لقواتنا المسلحه، وان كنا فكرنا كثيرا وطويلا في وجوب حدوث تغيير ديمقراطي او ثوري يجعل احترام الشعب لمؤسساته العسكريه والدينيه والقضائيه والامنيه مبنيا علي ممارسات ومعلومات حقيقيه وملموسه وليست علي اعراف وتقاليد موروثه او نتيجه خوف او قمع.

كذلك فان ما نعرفه الان عن التيارات والأحزاب السياسية في بلادنا يفوق كثيرا ما كنا نعرف. والفضل يعود الي الثوره. ينسي كثيرون اننا دخلنا خلال خمسه عشر شهرا تجارب انتخابات لم ندخل مثلها علي امتداد ستين عاما، بل ربما علي امتداد قرن كامل. تكلمنا في السياسه في سنه ونصف اكثر مما تكلمنا عنها وفيها خلال ثلاثين عاما وربما اكثر. لا نستطيع انكار ان الملايين من افراد هذا الشعب لم تكن تعرف قبل سنه ونصف عن الاسلام السياسي وجماعاته وافكاره ما تعرفه الان. يعرفون الان، واكثرهم من الشباب، ان الأخوان المسلمين يخطئون مثل غيرهم من الاحزاب السياسيه الاخري، ويعرفون انهم مختلفون عن رفاقهم الاعضاء في تنظيمات دينيه اخري، ويعرفون ان السياسه ليست مفسده للاسلاميين وحدهم، بل مفسده لهم ولغيرهم. يعرفون ايضا ان السياسه كاشفه للمستورات، ولن يسلم من لدغتها من يقترب منها سعيا وراء مال او جاه او اشباعا لشهوه سلطه او انتقام.

 لا اظن ان بيننا من ينكر اننا تعرفنا خلال الثوره علي اعلاميين مشهورين بعضهم لم نسمع عنهم من قبل، وتعرفنا علي سياسات اعلاميه لم نختبر مثلها قبل الثوره ولم نجربها. نسمع هذه الايام من يصف المرحله الاعلاميه الراهنه بانها المرحله الذهبيه في حياه بعض الاعلاميين، وان افرادا من هؤلاء الاعلاميين المحظوظين يعتبرونها المرحله الذهبيه للاعلام المصري علي امتداد تاريخه. وللحق يجب ان نعترف انه ما كان يمكن ان يصدر عن الفضائيات المصريه والعربيه كل هذا «الكلام» كما ونوعا، لو لم تنشب في مصر هذه الثوره.

ما يقال عن المؤسسات المصريه التي تعرضت لمؤثرات ثوريه خلال الشهور الماضيه يقال عن المواطن الفرد. شيء ما، وربما اشياء كثيره، تغيرت في هذا الفرد. تغيرت سلوكياته وزاد حجم معلوماته وصار مسيسا واغرقته الثوره بخطابات عن الحقوق والحريات والعدالة الإجتماعية والكرامه ودور الدين في المجتمع والعلاقه الصحيه بين الجيش والسياسه من ناحية وبين الدين والسياسه من ناحيه، كل هذا وغيره وصل الي وعي الفرد العادي. واعتقد انه لن يتسرب الي خارج الوعي فيضيع هباء. دليلي هو ان هذا الفرد مازال، رغم حملات التشكيك، يردد نقلا عن ابائه وجدوده سير عرابي وسعد و1919 ويوليو وتأميم قناة السويس. هذا الفرد لم ينس ثوراته السابقه، رغم انه لم يتفاعل بالانغماس والحماسه مع واحده منها كما تفاعل مع ثورته الراهنه.

 اكتب هذه السطور قبل ان يعلن اسم من سيجلس علي كرسي رئيس الجمهوريه. كان يمكن ان انتظر واكتبها بعد الاعلان، ولكن ثقتي في ان اسم الشخص لن يغير شيئا من توقعاتي بالنسبه لمستقبل هذه الثوره جعلتني لا انتظر. انا مقتنع بان هذه الثوره لم تكشف لنا بعد عن سرها وعما تخبئه لنا وللتاريخ.

 اقول، واصر علي قولي هذا، ان التغيرات التي حدثت خلال الشهور الاخيره لم تمس بعد جوهر «مصر التي لم نكن نعرفها»، واقصد مصر التي قضت سنوات عديده تنتظر الثوره. صحيح ان الثوره تمددت جغرافيا ولكن مازالت امامها مساحات شاسعه لتصل اليها وتحقق فيها رسالتها. وصحيح انها تحاول التعمق راسيا لتصل الي روح المجتمع المصري وقلبه. وهذه مهمه حتميه ولكن شاقه ومكلفه.

نخطئ اذا تصورنا، ولو للحظه، ان الثوره حققت اغراضها يوم جاءت برئيس جديد او قياده ائتلافيه. هذه الثوره، مثل اي ثوره، لن تكتمل وتسلم عهدتها الي التاريخ الا حين يتفرع جذعها الي ثورات عديده صغيره ومتناثره، ثوره في كل مؤسسه من مؤسسات المجتمع وثوره في عقل كل فرد وقلبه تنقله من عصر وحال الي عصر اخر وحال اخري.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل