المحتوى الرئيسى

أخلاق الثوار.. مرة أخرى

05/05 09:40

هناك خطا شائع مصدره الجهل والتشوه العقلي والروحي الذي اشاعه حكم الطغاه اللصوص وتحكمهم الطويل في مسار حياه شعوبنا واوطاننا، الا وهو الظن بان عنف واجرام الاعداء (ديكتاتوريين وغيرهم) لا بد من مواجهته بافعال من الجنس نفسه، غير ان هذا النوع من التفكير الغرائزي البدائي يفضي عاده الي كوارث ويصنع اسلحه فاسده سرعان ما ترتد قذائفها القاتله الي صدور الثوار انفسهم، وشعوبهم ومجتمعاتهم ايضا.

ان الحفاظ علي حدود وروادع اخلاقيه والابقاء عليها مرعيه ومقدسه في اثناء ممارسه افعال المقاومه والثوره، هو اصلا ضروره عمليه وليست مجرد التزام معنوي بقيم ومبادئ ساميه، تؤكد ان الثوار والمقاومين يناضلون لبناء نموذج حياه انسانيه ارقي واكثر تحضرًا، ويسعون لرسم مستقبل بملامح نقيضه تماما لملامح الواقع الملوث بالفحش والظلم والقهر والقسوه.

لكن، لماذا التفوق الاخلاقي لاي ثوره هو ضروره عمليه؟! لسببين، اولهما الاختلال الفادح في توازن القوي بين الثوره واعدائها، اذ دائما وابدا ما يتمتع العدو بقوه قمع واله بطش مادي رهيبه، ومن ثم هناك استحاله مطلقه ان ينجح الثوار في مجاراه عنف العدو ومواجهته بمثله، فضلا عن هزيمته بهذا السلاح، لذلك فالسبيل الوحيده لتعويض هذا الفارق الرهيب في القوه الماديه، هو تعظيم قوه الاخلاق التي تبدا بعداله قضيه الثوره ونبل مقاصد الثوار وتصل الي ذروتها بصرامه الالتزام بالمعايير والروادع الاخلاقيه.. عندئذ ينسحق العدو رويدا رويدا ولا تعود لالته القمعيه ايه قيمه سوي انها تفاقم ازمته وتقرب يوم هزيمته.

اما السبب الثاني فهو ان التوسل بالعنف الاهوج واستباحه الخروج علي معايير الاخلاق واستسهال ارتكابات وممارسات واطيه ومنفلته من عقال القانون والضمير بحجه ان العدو واطي ولا اخلاق له ولا ضمير، هو امر اذا بدا ومر مرور الكرام فلن ينتهي بهزيمه الخصوم، ولكنه سيفتح كل ابواب الجحيم وستطال نيرانه حتما صفوف اخوه الثوره ورفاق الكفاح، فياكلون بعضهم بعضا بحجج وذرائع لا اول لها ولا اخر.. وهذا هو درس تاريخ الثورات التي تسامحت مع العنف المجاني والانفلات الخلقي.

واختم بواقعه واحده من سيل وقائع الثوره الفرنسيه سجّلها مؤرخها الاعظم «ميشيليه».. يصف المؤرخ الفرنسي الكبير جزءا من مشهد اقتحام ثوار باريس سجن الباستيل الرهيب يوم 14 يوليو 1789 «صار يوم العيد الوطني لفرنسا» قائلا:

.. بعدما ياس القومندان «دي لوني» قائد حرس الباستيل من قدره قواته علي صد الثائرين وهزيمتهم، طلب من قاده الثوار ان يسمحوا له بالاستسلام بشرط الحفاظ علي حياته، فوعده رجل يدعي «هولان» بالامان.. الا ان الرجل وجد صعوبه بالغه في الوفاء بوعده، فمن ذا الذي يستطيع ان يكبح روح الانتقام عند جماهير شُحنت عبر قرون طويله بالقهر والظلم.. كانت الجماهير غاضبه وعمياء وسكرانه بالنصر، ومع ذلك لم يقتلوا في فناء الباستيل سوي رجل واحد من الحرس، لكن عندما تحرك الجمع الغفير متجها الي ميدان «الجريف» انضمت اليه جماعات اخري من الناس لم تشترك في معركه اقتحام السجن الرهيب، وعز عليها ذلك، فقررت ان تشارك بشيء ولو بقتل الاسري، فقتلوا واحدا في شارع تورنيل، وقتلوا اخر علي رصيف نهر السين.. وبقي القومندان «دي لوني» في حمايه «هولان»، الذي استخدم ضخامته وقوته البدنيه الهائله في صد قبضات الجماهير الهائجه عن اسيره.. وظل الرجل يتلقي الضربات ويستبسل في الدفاع عن القومندان حتي سقط في دوامه كتله بشريه مهوله حاصرته وضغطت عليه بجنون، ففقدَ توازنه لحظه، وعندما عاد ليصلب طوله من جديد راي راس «دي لوني» معلقًا في طرف حربه..

هذه السطور معاده، واهديها الي بعض شبابنا الثوري النبيل الذي اخشي انه بات ينزلق رويدا رويدا ومدفوعا بالبراءه الي نوع من الفوضي العقليه التي تزين له استبدال الوسائل بالاهداف وتمجيد الاولي علي حساب الثانيه، واعتبار مجرد الخروج الي الشوارع عملا ثوريا بذاته ودون النظر الي مشروعيه الغايه او السبب (المشاركه في احتجاجات «اولاد ابو اسماعيل» مثالا نموذجيا.. مع الاقرار ان التضامن مع حق هؤلاء في التعبير السلمي وادانه جريمه العدوان الهمجي عليهم واجب لا يمكن التنصل منه)، لكن الاخطر والاهم ضمن مظاهر الفوضي هذه، ما بدات المحه من ابتعاد شبه غريزي «ولو متردد» عن الايمان بان سلميه وسائل وادوات الاحتجاج هي اقوي وامضي الاسلحه الثوريه.

اتصل بنا | شروط الاستخدام | عن الموقع

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل