المحتوى الرئيسى

قراءة فى محاضر لجنة دستور 1923

04/12 08:08

متعة حقيقية يصادفها القارئ لمجموعة محاضر اللجنة العامة لدستور 1923 التى تمثل كنزا تاريخيا بين كنوز أخرى كثيرة تزخر بها مكتبة معهد البحوث والدراسات العربية. متعة خاصة حين يطالع القارئ تفاصيل ما جرى فى تلك اللجنة وفى ذهنه الواقع البائس الذى نعيش فيه، مع أنه قد يكون مثلى غير منتم فكريا أو سياسيا لفترة ما قبل ثورة 1952، فما بالك إن كان من أنصار حزب الوفد أو الحزب الوطنى حين كان وطنيا بحق؟

انظر نَأى رئيس اللجنة حسين رشدى باشا بنفسه عن الاستحواذ السياسى الذى هو آفة مصر حتى بعد ثورة يناير، وذلك حين دعاه محمود بك أبوالنصر إلى أن يتولى تشكيل لجنتين إحداهما لوضع المبادئ العامة للدستور والأخرى لوضع قانون الانتخاب فيرد بإيجاز «أخشى أن أخطئ فى تقديرى». ومن بعد يتقرر دمج اللجنتين معا فى لجنة واحدة يقال لها اللجنة الفرعية. قَاوَم إذن رشدى باشا إغراء الهيمنة على أعمال اللجنة، كما قاوم كل أعضاء اللجنة إغراء تملق الملك حين دعا منصور يوسف باشا إلى الإشادة بـ«حسن مساعى جلالة الملك» فى رفع الحماية ووضع الدستور، ورفض الكل الدعوة إلا المقترح. وأكثر استبداد الحاكم من صنع المحكومين.

تابع عزيزى القارئ الرقى الشديد فى اللغة الذى لا تكاد تجد معه خطأ نحويا واحدا، وسعة الاطلاع على دساتير العالم كما تتجلى من الاستشهاد بالدساتير الفرنسية والأمريكية والبريطانية بل وأيضا البولونية والبلجيكية والأسبانية فى زمن لم يكن الاطلاع فيه على التجارب الدستورية للدول الأخرى وأحيانا بلغاتها الأصلية من موبقات الاستعمار ومخلفاته كما فى أيامنا هذه. وراقب أدب الاختلاف فى الرأى الذى ينبع من أن أيا من الأعضاء لم يَدع أنه يملك كل الحقيقة وسواه على غير هدى. يثور النقاش حول ما إذا كان مطلوب النص فى الدستور على أن الحكومة نيابية بمعنى مسئولة أمام البرلمان أم يُكتفى بالنص على أنها دستورية بمعنى مُشكَلة وفق الدستور، وينقسم الحضور إلى فريقين، ثم بعد أخذ ورد يقول على بك ماهر إنه لم يعد يتمسك بالإضافة ويكفيه النص فى الدستور على قواعد الحكومة البرلمانية ومن ذلك يُفهم شكل الحكومة. ثم ينشأ سجال حول ما إذا كان يجوز لمجلس الشيوخ والنواب بحث مشروع قانون واحد فى وقت واحد، فيذهب عبدالعزيز بك فهمى إلى أنه يجوز ويرى إلياس بك عوض العكس، وتنفض الجلسة العاشرة على ذلك. ثم يبدو أن فهمى عاد فيما بعد إلى خبرات دستورية دولية ليستوثق من الأمر فلا يجد حرجا من أن يعلن فى مستهل الجلسة الحادية عشرة ما يلى «يلزمنى إنصافا لحضرة إلياس بك عوض أن أقول إنى كنت مخطئا فى الجلسة الماضية».

لاحظ معى كيف أن القضايا التى نتداولها الآن بعد تسعين عاما بالتمام والكمال كانت مثارة وموضع نقاش فى اللجنة، فهل يعنى هذا أن التاريخ يعيد نفسه أم أننا الذين نعود للتاريخ ولا نتجاوزه؟ خذ مثلا حزمة القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، ومنها حق المتهم فى المحاكمة أمام قاضيه الطبيعى واقرأ معى كيف اقترح على بك ماهر فى الجلسة الخامسة عشرة النص على عدم جواز «محاكمة غير رجال العسكرية أمام المحاكم العسكرية إلا أثناء الحرب ولأمور متعلقة بها». وتابع النقاش الطويل حول تنظيم حق الانتخاب ووجاهة الحجج التى يسند بها كل عضو موقفه. ينبرى على بك ماهر فى الجلسة السابعة للدفاع عن أهمية خفض سن الترشح لعضوية مجلس النواب من ثلاثين عاما إلى خمسة وعشرين عاما وحجته الأبرز أن الشباب «قد شاركوا فى حركة البلاد من سنة 1918 إلى يومنا الحاضر» وأن القاضى يباشر عمله فى سن الخامسة والعشرين والمستشار فى سن الثامنة والعشرين فلم إذن اشتراط السن الأعلى فيمن يتولى مسئولية النيابة البرلمانية؟. ويرد عليه عبدالعزيز بك فهمى بقوله إن من الصحيح أن سن القاضى هو خمسة وعشرين عاما لكن المشرع الذى يضع القانون للقاضى لا يقل عمره عن ثلاثين عاما. ثم أنه يرى أن ما ذهب إليه على ماهر لا يعدو كونه مجرد زخرف لم يطلبه لذاته «بل لغرض آخر هو مكافأة الشباب الذين قاموا بالحركة». وبتم البحث فى نظام التصويت، فيدعو إلياس بك عوض فى الجلسة السادسة إلى اعتماد نظام القائمة لأنه يسمح بتمثيل الأقليات ولأن بلدانا ديمقراطية كفرنسا تأخذ به. فيعقب عليه عبدالحميد باشا مصطفى قائلا إن الناخب فى نظام القائمة لا يعرف من انتخبه «وهذا يجعل التمثيل غير صحيح»، وإن فرنسا تقلبت على مدار واحد وسبعبن عاما (1848 ـ 1919) بين نظامى القائمة والفردى أربع مرات.

وفيما يخص قضية التمثيل السياسى (البرلمانى تحديدا) للأقليات التى كانت موضوع نقاش واسع فى الجلسة السابعة والعشرين، يتزعم توفيق بك دوس الاتجاه المطالب بهذا التمثيل لقطع الطريق على تدخل بريطانيا لحماية الأجانب والأقليات، فترن فى آذاننا تعبيرات جميلة جرت على ألسنة مؤيديه ومعارضيه على حد سواء. فى تأييد التمثيل وجده عبداللطيف بك المكباتى «احتفاظا بالوحدة العائلية ومنعا للامتعاض»، ووجده على بك المنزلاوى «حفظا لاتحادنا الجميل الذى لولاه لوجد الإنجليز لمناهضتنا سبيلا». وفى معارضته التمثيل رأى عبدالعزيز بك فهمى أن «الكفاح فى الانتخابات بين آراء سياسية وأحزاب مختلفة و«ليس بين دينين»، وأمن على رأيه أحمد باشا طلعت بدليل «أن المحامين انتخبوا فى ثلاث سنوات متوالية نقيبا لهم قبطيا وهذا لم يحصل لغيره».

بطبيعة الحال يرخى الواقع الاجتماعى ستائره على مناقشة حقوق اجتماعية معينة كحق البنات فى التعليم الذى كان قد اقترحُ أن يكون إلزاميا مثله مثل حق البنين، لكن صالح لملوم باشا والشيخ بخيت وآخرين عارضوا النص على إلزامية تعليم البنات فحُذف التحديد. كما أن الواقع السياسى المتمثل فى نظام ملكى وراثى يملك فيه الملك ويحكم كان لابد أن يفرمل الاتجاه الداعى للفصل بين السلطات وعدم تدخل الملك فى عمل السلطة التشريعية لكن هذا لم يمنع من تقليب الأمر على مختلف وجوهه. ويكفى أن الجلسة الثانية عشرة شهدت استعراض حقوق الملوك فى دساتير ست عشرة مملكة بينها ممالك «السرب» وبروسيا ولوكسومبورج، ودفاعا مجيدا من أمثال زكريا بك نامق عن سيادة الأمة إلى حد وصف النص الخاص بالدور التشريعى للملك بأنه «نص مرعب». يا الله! سوف تتدخل يد السياسة لاحقا فتعبث بالدستور وتبطله وتعيده لكنه لا يعود قط كما كان فى الأصل والمنشأ.

أخيرا تطل عليك عزيزى القارئ من بين ثنايا الجلسات لمسات إنسانية مؤثرة كما فى اعتذار حسين باشا رشدى رئيس اللجنة فى الجلسة الثالثة عن اضطراره للتغيب فى الجلسات المقبلة نزولا على رأى الطبيب ولولا ذلك ما كان يتغيب رغم أنه كان من قبل يُعرض بعمله «للتعاسة زوجة هى جديرة بأن تكون نموذجا للزوجات وأطفالا صغارا هم فى حاجة كبرى لأبيهم». لم يخجل الباشا من التحدث بلسان الزوج والأب المحب لأسرته على الملأ، ولم يقف رغم جلال المحفل والمناسبة كحائط إسمنتى لا تثقبه الأحاسيس. كذلك تضعك وقائع الجلسات فى أجواء أرستقراطية بحكم طبيعة تكوين اللجنة من علية القوم ووجهائهم، فلا تجد أطرف من النقاش الجاد حول حق الأعضاء فى إجازة صيفية. يتقدم عديد من الأعضاء فى الجلسة الثالثة عشرة بتاريخ 21/6/1922 بطلب إلى رئيس اللجنة لرفع الجلسات حتى 8/8 خصوصا «وأن حضرات السكرتاريين قد تغيبوا» فيعترض إبراهيم بك الهلباوى مفضلا «أن يستريح بعض الوقت من يريد» دون الباقين، ويستنكر عبداللطيف بك المكباتى متسائلا «لقد وضعت ألمانيا دستورها وهى فى حال ثورة فى شهر واحد، فهل نستريح نحن شهرا ونصفا؟». أما على بك المنزلاوى فيتبنى الرأى الآخر ويحذر من أن بعض الأعضاء «قد سافر بالفعل إلى أوروبا وسيتبعه البعض الآخر». وبين قوسين أقول إن الجلسات ظلت تنعقد بمقر الجمعية التشريعية بالقاهرة حتى الجلسة الثالثة عشرة، لكن اعتبارا من الجلسة الرابعة عشرة وحتى الجلسة الرابعة والخمسين انتقل العمل إلى مقر المجلس البلدى بالإسكندرية هربا من حرارة الجو.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل