المحتوى الرئيسى

التفكير غير المنطقى فى زمن الثورة

04/12 00:28

يُقال إن الحقيقة هى أولى ضحايا الحروب، وربما كانت القدرة على التفكير المنطقى هى أولى ضحايا الأزمنة الثورية. الثورات تفاجئنا بأحداث ومواقف متغيرة ومتسارعة فى تبدلها، تضغط على أعصابنا بأسئلة أخلاقية وسياسية يتحتم الإجابة عنها فى زمن قصير جداً، تداهمنا بشخصيات ورموز جديدة علينا، وظواهر غير مألوفة، تضعنا دائماً فى مواقف حدية، تتماس مع تفاصيل حياتنا وحياة من حولنا، فينصهر «الشخصى» و«العام» ويصعب التمييز بينهما.

فى الحالة الثورية يصبح «التفكير المنطقى»، بما ينطوى عليه من استدلال واستنتاج وربط بين المقدمات والنتائج واعتماد الأسلوب العلمى فى تفسير الظواهر، أمراً صعباً. ومرد هذه الصعوبة- فى نظرى- يرجع إلى خمسة عوامل:

العامل الأول هو التداخل بين الشخصى والعام، فالثورات- بوصفها زلزالاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً هائلاً- تؤثر على حياة كل منا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يتحدد موقفك من الثورة ونظرتك لها تبعاً لموقعك فى المجتمع، وكذا لملاحظاتك المباشرة لما يحدث حولك فى دائرتك الصغيرة فى الأسرة والعمل والحى.

 وهذا التأثير يحدث غالباً دون أن تدرى، ويعتمد على تراكمات لا يمكن تمييزها بشكل علمى، فلا يعنى- مثلاً- كونك غنياً ألا تؤيد ثورة ترفع شعارات حقوق الفقراء، بل قد يحدث العكس ربما من باب «غسل الذنوب» والتطهر من الفساد. وقد رأينا شيئاً من هذا فى ثورة يناير، حيث عج الميدان فى الثمانية عشر يوما من شهر يناير 2011 بنخب من الطبقة الوسطى العليا والطبقة العليا، بصورة شكلت مفارقة واضحة، خاصة أن «الريف الفقير» كان الأكثر بعداً عن الثورة (حالة الصعيد نموذجاً). وهذا مجرد مثال واحد على كيفية تأثير مواقعنا على مواقفنا وآرائنا فى زمن الثورة بصورة غير متوقعة وتجافى المنطق، وهو ما يبعدنا قطعاً عن التفكير المنطقى، ويقربنا أكثر من «شخصنة» الظواهر والمواقف.

العامل الثانى يتمثل فى صعوبة الفصل بين ما هو سياسى وما هو أخلاقى، فالثورات تسلط علينا أسئلة- فى مجملها- أخلاقية: هل تقف مع الحق أم الباطل؟ هل تسند العدل أم تدعم الظلم؟ هل تقبل بالحلول الوسط على حساب ما ينبغى أن يكون؟ هل تساوم فى الدم؟ هل تقبل أن تضحى أنت- أو الأعزاء لديك- مثل من ضحوا؟.

 ومثل هذه الأسئلة الأخلاقية تستدعى، بطبيعة الأمور، إجابات ومواقف أخلاقية، وهنا، يبتعد المرء أكثر فى تحليله للظواهر وتقييمه للحلول عن مربع التفكير المنطقى/ السياسى، ويقترب أكثر من منطقة التفكير الأخلاقى/ المثالى. وحتى وإن غلف مواقفه وآراءه بإطار سياسى، يظل المنطلق أخلاقياً فى جوهره. العامل الثالث يتمثل فيما يُعرف بـ«عقلية القطيع»، وأبسط تعريف لها هو أن يتصرف عدد كبير من البشر بنفس الطريقة فى الوقت نفسه، وهذه الظاهرة معروفة فى عالم الاقتصاد وصرعات الموضة، وتفسر فى أحيان كثيرة السلوك غير المنطقى للمستثمرين فى أسواق المال، عندما يدفع الذعر بعضهم- تحت تأثير معين- إلى بيع الأسهم، فيتبعهم الآخرون بشكل غير منطقى، فى صورة قطيع متدافع، فتنهار البورصة.

 وفى زمن الثورة يكون لعقلية القطيع تأثير أكبر فى التفكير والمواقف، إذ تحدث الثورة حالة عامة من الاضطراب، وعدم الثقة فى المستقبل، والخوف من المجهول، وفى مثل هذه الحالة، يكون الإنسان أقرب نفسياً لأن ينضوى تحت لواء الأغلبية التى يشعر فى كنفها بالاطمئنان، فضلاً عن الاعتقاد الراسخ فى اللاوعى لدى أغلبية البشر بأن الأغلبية قلما تكون على خطأ، وهنا يصبح على المرء أن يقوم باستمرار بضبط إيقاع تفكيره ومواقفه على نفس موجة تفكير الأغلبية. وخلال العام الماضى يمكن بسهولة ملاحظة كيف يؤدى هذا الضرب من التفكير إلى إثارة قضايا واتخاذ مواقف معينة فى الساحة الإعلامية/ السياسية، ثم خفوت هذه القضايا وصعود أخرى، لتحتل الصدارة بشكل فجائى وغير منطقى يشبه تقلبات البورصة التى يتسبب فيها سلوك القطيع.

أما العامل الرابع فينصرف إلى تأثير المصالح على المواقف، فالثورات تطيح بمصالح راسخة ومستقرة ارتبطت بالعهد الساقط، وتفرز فى نفس الوقت مصالح جديدة ومحتملة تتصل بالزمن الآتى. وقد صك المصريون مصطلحاً معبراً لوصف المصالح المرتبطة بالعهد البائد وتأثيرها على سلوك ومواقف أصحابها، وهو مصطلح «الفلول»،

 فتجدهم يقولون: «لا تستمع له.. ده فلول»، ويعنون بذلك أن مصالحه هى التى تصبغ أفكاره وآراءه فى الثورة. وبرغم أن هذه الفكرة تبدو مقبولة ومفهومة من الناحية الظاهرية، إلا أنها تحمل مغالطتين منطقيتين واضحتين، الأولى هى التسرع فى وصم كل من يفكر تفكيراً مختلفاً فى مجريات الأمور وتطورات الأحداث بـ«الفلولية»، وبالتالى سعى الكثير من الذين يمارسون التفكير فى الشأن العام- ربما حتى دون أن يدروا- لتجنب أن يوضعوا فى هذه الخانة عبر مجاراة التفكير السائد. والثانية هى عدم القدرة على تقييم الآراء واتجاهات التفكير بمعزل عن مصالح صاحبها، ومدى ارتباطه بالعهد البائد، وذلك بغض النظر عما قد تحمله هذه الآراء وتلك الاتجاهات من وجاهة أو حجة.

 الأكثر من ذلك، أن أحداً لا يلتفت إلى أن المصالح المحتملة أو المستقبلية قد تؤثر على المواقف والآراء تماما كما تؤثر المصالح القديمة الراسخة، فالمتطلعون إلى مكانة معينة فى ترتيبات ما بعد الثورة- السياسية والاجتماعية والاقتصادية- يفكرون ويصوغون مواقفهم تبعاً لهذه المكانة المأمولة. وفى كل هذه الحالات، ينزوى التفكير المنطقى تحت تأثير المصالح، القديمة أو المحتملة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل