المحتوى الرئيسى

الحكمة المؤنثة (4-7) استعادةُ الفَجْرِ الفائِت بذكْرِ الرَّبَّةِ ماعت

04/03 21:38

لما بدا الأحياءُ فى عينىَّ كالموتى، تركتهم جميعاً غير آسف على الفراق، وجلستُ عند طرف اللسان البحرى الممتدّ فى الليل والماء. وبعد حينٍ من التحديق، لمحتُ فى الأفق البعيد بشاراتٍ لا تظهر واضحةً فى هجير النهار، ثم رأيتها ناصعةً عند انعكاس ضوء القمر على صفحة اسوداد البحر، المتموِّجة بلمسات نسمات المساء. استبشرتُ بإشراقٍ قلبىٍّ قريبٍ، يتجلَّى فيه العقل الفعَّال. ما خابَ ظنى ولا ساء سعيى، فقد بدا نوره عندما انتصف الليل، فبدَّد كل الويل الذى عانيته طيلة الليلة السابقة التى امتدت بنا عاماً أو أقل، فى قول، وفى قولٍ آخر امتدتْ لسنةٍ تامة من السنوات الكبيسة.. أسعدنى سطوعُ العقل الفعَّال بداخلى، وإشراقُ شموس الباطن، فأخذتنى عند صلصلة الجرس نشوةُ المأخوذ من الهوس، ثم غمرتنى السكينةُ حين توالتِ الفيوضاتُ وتتالتِ المفهوماتُ.

بعد ذاك تذكَّرتُ قومى، فاشتكيتُ هوانَ الأهلِ واضطراب الديار. وابتهلت إلى السماء كى تنثر نجوماً لامعات فى العتمة، لتهدى التائهين إلى سواء السبيل، بعدما استدام بهم السوءُ وانكشفت منهم السوءات، ومات هَدَراً كُلُّ مَنْ مات. فلما حكيتُ الأمر إجمالاً بلسان الحال، أخبرنى النورُ البهىُّ بأنه لا غنى عن ترجمة تفاصيل ذلك بالمقال، مع وعدٍ منه بالإفاضة بالإفادة إذا استطعتُ تلخيص ما جرى فى ساعات الليلة السابقة التى استطالتْ. فشرعتُ فى الكلام من فورى، آملاً أن يصل صوتى والصدى لآخر المدى، وقلتُ متخيِّراً من الألفاظ الأفصحَ.

قبل تلك الليلة استدام الهجيرُ بديارنا، فكانتِ الأعوامُ العجافُ طوالاً حتى عَسِرَ حسابها بالسنين، فقال بعض الناس إنها ثلاثون، وأكد غيرهم أنها ستون. لكن الجميع اتفق على قبح ما جرى خلالها، إذ تصدَّعت الجدرانُ وتشقَّق البناءُ المدهون بطلاءٍ ردىءٍ له لونُ الغبار. وبعدما صبروا، ثم غضبوا، ثم وصل بهم السيل الزُّبى، ثار الناسُ حين سمعوا الصوتَ الصارخ فى البرية يقول إن الأرض قد يرثها الصالحون، وإن الحزانى بعد حينٍ سوف يُعزَّون، وإن القوم موعدهم الصبحُ القريب. وهكذا خرج الأهلُ من بيوتهم الغابرة يستطلعون الغيب، فاعترضهم قارئُ الكفِّ وزعم أن عنده الخبر اليقين، لكنه كان يكذب. رَمَته الصبايا مع الصبية بالحصى، فتوارى سريعاً ليوارى ما انكشف من سوءاته ويعالج خزيه وخيباته، وانفسح الطريق.

تقدَّم الناسُ صاخبين، مؤكدين للملأ أنه من حَقِّ العصافير إزعاج النائمين على السرير، وأن إسقاط الآيل إلى الانهيار حقٌّ مشروع، وأن الإناء الذى يغلى بنيران الغضب رَشَح، وأن السبيل قد اتضح. فأرسل الفاسدُ للثائرين غلمانه، ودفع نحوهم كل فئرانه، فما ارتاع الثائرون بل تجرَّأوا على الطلب، وراحوا إلى حيث البنادق المصوَّبة نحوهم، بنحورهم، وقذفوا فى وجه الطلقات دماءهم. فلم تجد الأقدارُ بُدّاً من الانصياع لمطلبهم، ولكن على مضض. وعلى ذلك جرى الأمرُ المقدورُ، فلما انقضى النهارُ واحتجب النورُ، توالت ساعاتُ الأمسية، قاسيةً، من بعد وقائع ذلك اليوم المشهود.

فى الساعة الأولى بعد الغروب: تدافعت الحشودُ فَرحةً بالتنحِّى المعلن، ورافعةً من اللافتات الكبار ما يلفت الأنظار إلى أن الزمان قد استدار فاختفت الفراعين مع المزيَّفين، وانكشف الكذبُ فانكسف كهنةُ الكهف المشبوه، وانهار بيت السَّفَّاح الذى كان يستولد الزوانى بالحمل السفاح.. ونسى الناسُ لوهلةٍ، أن النقاهةَ لازمة بعد طول المرض، فاستعجلوا الفرح بالشفاء وطلبوا المرح. فخرج عليهم المهرِّجُ القديم وقد ارتدى الزِّىَّ الجديد، فلما صفَّق له الحاضرون رفع فوق رؤوس الناس أعلاماً من الإعلام، تُشير إلى عبارات العالمين المؤكدة أن الثائرين هم الصفوة، وليس لفارسٍ منهم أىُّ كبوة. سأله المشاهدون عما يجب عليهم، فقال: لا شىء إلا الابتهاج بالأفراح، والضحك الكثير الذى به يحيا القلب، وليس عليكم الالتفات إلى ما مضى أو سوف يكون. فقد انقضت الأحزانُ، والحياةُ الآن تحتاج الراحة مع المرح والمجون.. فصدَّق مزاعمه الأكثرون.

فى الساعة الثانية من الأمسية: جاء الشاعر الذى كان لسانه مسجوناً، فوجد الناس حول المهرِّج يتحلَّقون وعيونهم تدمع مع اشتداد الضحك، فسكت حيناً حتى مَلَّ القومُ من تهريج المضحكين الذين أفلسوا سريعاً. فمالَ الجميعُ إلى استماع القول المكين، فدبج الشاعرُ قصيدةً جديدةً يقول فى مطلعها وختامها: قد تكسَّرت هياكل المجوس وانطفأتْ كل النيران التى كانت بالنفوس تجوس، فعليكم الآن بترديد النغمات لأن الأغنيات تُؤرِّق الطغاة.. أعجبت القصيدة بعض الصغار فخرجوا يردِّدون من أبياتها فى الميادين، فانزعج النائمُ على السرير، فاسترضاه الرفقاءُ القدماءُ بقطع بعض الألسنة، فما رضى. واستسمحه السَّدنةُ الغابرون فى التجاوز عن صخب الصغار، فما ارتضى. فما وجد أولئك وهؤلاء سبيلاً لتهدئة الحال، إلا التضحية ببعض الرقاب، فأرسلوا ابن آوى منـزوعَ المخالب ثابت الأنياب، فأنشبها فى القلوب وسالت من العيون دماء.

فى الساعة الثالثة من الأمسية: ظهر فجأةً داعٍ دَعِىٌّ حوله مُلتحون، وصرخ فى الأجواء بأن المهرج والشاعر سواء، وليس للعباد إلا المعاد. فردَّد لسانُ المؤمنين «آمين».. كانت الساحة خاليةً، والناسُ ساكنين فى مخادعهم، يحوطهم هَمٌّ مقيم. فتقدم الداعى واعتلى منصَّة العِظَات، وحَمَدَ الله ثم أثنى عليه، ومن بعد ذلك قال: يا أولى الألباب، كيف غاب عنكم أن المهرِّج واحدٌ من أذيال السلطان، كان يُضحكه عليه فصار يُضحكه عليكم، ويضحك معه. وأما الشعراءُ فمعروفٌ عنهم بلايا، وهم بالأغنيات يَغْوون البلهاء بحلم الغد المشرق، ثم فى ساعة النـزال يهربون، فتراهم بأنحاء الدلتا وأقاصى الصعيد يهيمون، ويهيِّمون القلوب بحكايات العشق المحرَّم المؤدى إلى جهنم، والحقُّ صَدَعَ والذكرُ صدح بأنهم دوماً غاوون، ويقولون ما لا يفعلون. ردَّد لسانُ المؤمنين «آمين».

فلما شاعتْ مواعظُ الداعى، تشجَّع الناسُ وخرجوا من خيمة المهرج، وانقطعوا عن الساحات لأنهم ارتابوا فى قصيدة الشاعر، وفى أنفسهم، واكتفوا من الموسيقى بخبط الدفوف ومن المعارف بما هو مصفوف منذ قرونٍ فوق الرفوف.. وهكذا ابتهج الداعى فأهاب بالجميع أن يهبّوا للدفاع عن القدير العالى المدافع عن الذين آمنوا، وعن الذين أمَّنوا للسلطان السلامة والراحة فوق السرير. وأضاف لمستمعيه الذين يتكاثرون فى المجالس بالانقسام، أن المرزبان الذى أبان بالتأييد القدوسى عن ألوان النعيم فى الجنات، بعد تمام الوفيات، واستدل على يقين ما يقول بشهادة الأموات، يخبركم يا أهل الحق بأنه عن قريبٍ آت، ومعه البيِّنات، وليس يريد منكم إلا الدنيا ليعطيكم فى الآخرة الجنَّات، فردَّد لسانُ المؤمنين «آمين». وبعد حين أطلَّ المرزبان من كُوَّة، فأطال الرجالُ السجود واللِّحى، وحجبوا الغيد الأماليد ليرضى عنهم مرسالُ السماء.. اختفى الداعى، ومعه بعض النساء الملفوفات بالاسوداد، فخلت الساحةُ للمرزبان، الذى خطب فى الأسماع وأنشأ يقول: الآخرةُ هى المراد، فعلى الصالحين السعى وإعطاء الأصوات، وعلىَّ الوفاءُ بعد الوفاة.

واعلموا أن درء مفاسد الفن البديع، أجدى من جلب المنافع بالعصيان المريع. وتيَّقنوا من أن الحق الوحيد، هو الذى أقول، ولا بأس من بعد ذلك إذا فرَّ الفلول قبل سداد دية المقتول. وقد أتى أيها الناس وقتُ تزويج العروس بعدما أتقنتِ الواقفةُ الجلوس، وتأدَّبت الناشز، فليستعد كُل الخراف والماعز لزفافٍ قد تأجَّل، وعلى راكبٍ للأهوال أن يترجَّل، فقد انزاح عن المجاهدين هَمُّ الكفاح، وراح الذى راح، فَلْيرتَحِ الآن العابرون بالشوارع، من تشويش تزاويق الثوار. فالحوائط طفحت بالصور الوثنية، وهى تطلبُ الآن المسح. وليس لكم من بعد العرس إلا الفَسْح، وإطفاء لهيب المتحرِّق المحروم، المشتاق إلى بَلِّ الريق برحيق الأنثى المستلقاة على بطنها فوق الركام المقبَّب، ولا فرق آنذاك بين إناءٍ وإناء، فانكحوا ما طاب لكم من السَّبايا فى التكايا، ولا فرق فى اللذة المشتهاة ما بين بكر أو ثيِّب.. وقال إن الفجر قريب.

فى الساعة الرابعة من الأمسية: وَرَدَتْ رسالةٌ عاجلة من الوادى المقدس طوى، ممهورةً بختم الجانب الأيمن من البقعة المباركة، وعليها صورةُ الشجرة. ولما قرأ بعضُ الناس ما فيها ألجم لسانهم الوجل، ونطق منهم متهورٌ أعلن للناس فحوى الرسالة، وصرَّح بأن المرزبان يؤمن السلامة للسلطان، لأنه يطمح إلى نكاح النواشز والمهجورات من حريمه، ويحتال بصنوف الحيل لحين استلام القياد من القواد، والقوّادُ قوّاد، فانتبهوا أيها الناس قبل فوات الميعاد، فالندم لا ينفع يوم المعاد.. وأعلن أيضاً، أن الفجر الذى بشَّر به المرزبان كاذب. فلما سمع الناسُ هذا الكلام سقطت منهم الآمال والأحلام، والشعب الذى ثار أمام العالمين انكبس، فجلس على دكة المشاهدين المشلولين ينتظر بزوغ الفجر الموعود.

سألنى العقلُ الفعَّال عما أريد من بعد بيان هذه الأحزان، فقلتُ: التبيان. فقال منك السؤال وفيك الإجابة، فانزعْ عنك أوهام المهابة وأسرعْ إلى زيارة المتحف المفتوح على ميدان التحرير، وابدأ مسارك فيه من اليسار ثم انتهِ إلى جهة اليمين، وقبل خروجك من هنا سوف تجد المفتاح، فلا يفوتك من بعد اليوم كنز الكنوز الموصدة خلف الرموز، ولسوف تدخل بذاك المفتاح إلى الموصد فى وجهك من بلاد الأفراح ومراح الأرواح. من فورى ذهبتُ إلى القاهرة التى كانت بالأحرار عامرةً ثم صارت موئلاً لراغبى الهجرة عن الديار.

فى الطريق وقفت حيناً أتأمل الموات فى قسمات العابرين، حتى جاءتنى من الحسين بن منصور الحلاج خاطرةٌ تقول: «المريدُ هو العارج بكل ما فيه نحو مطلوبه، فلا يلتفت حتى يصل». لحظتها استفقتُ وتركتُ الموتى يدفنون موتاهم، وخففتُ الخطو فأدركتُ المتحف قبل إغلاقه الأبواب حزناً على ما أُلقى منه فى النيل القريب. عند البوابة سألنى عن وجهتى كاهنٌ قد أزرى به الزمان، فقلت لا شأن لك ولا لك إلى ادِّعاء الكهانة سبيل، فابتسم وخلع عن وجهه قناع الذكورة، فإذا هو امرأةٌ واهبةٌ للخير والنماء، تقدَّمتنى بين الأروقة المليئة بالتماثيل وهى تقول: أسرعْ بالمرور فقد لا يطول بقاء ما ترى، فالغافلون المتسيِّدون سوف يسمون التذكارات كلها أصناماً تُضِلُّ، وتُخبِّل وتُخلّ. وليس لها عند هؤلاء، من بعد سُبات الناس وحلول الظلام، إلا تكسير الأركان حسبما نصحهم المرزبان الذى اختفى خلف الزحام.

قلتُ للكاهنة أرشدينى فى الطرقات، فقالت بأسى: وهل لى مهمةٌ هنا غير الإرشاد، لكن الرشد لا يكون لغير المسترشدين، فعليك أن ترى بعين القلب وتسمع الخافت من الكلمات، واعلم أن هذه الآثار باقيةٌ عن القرون الخالية المسماة التباساً «الدولة القديمة» والناصحون يدعونها «المملكة القديمة» والخائبون لا يعرفون فيكتفون بوصفها بالأمم التى خَلَتْ.. سألتُ: فما اسمها الصحيح؟ قالت: زمنُ البدايات، الذى به تصحُّ النهايات ويشرق الفجرُ الفائت من جديد.

فى أول المسار استوقفتنى أمورٌ، منها أن تماثيل الرجال والنساء صِنوان، وأن الإلهات الواهبات كثيرات. فشككتُ فيما تعلّمته فى الصغر، وسألتُ الكاهنة المرشدة عن السِّرِّ فى رسم النساء مساوياتٍ للرجال، وهنَّ المخلوقاتُ من ضلع الرجل الأعوج، وهُنَّ الناقصات؟ فصرختْ فى البهو بصوتٍ سحيق القدم، قائلةً بقلبٍ يلتاع: أَوَليس الرجل مخلوقاً من رحم النساء الموصومات بالنقص، فكيف يُقامُ البنيانُ بالعكس ويتقدَّمُ القدمُ على الرأس. وما الذكورة والأنوثة إلا صنوان، وبغياب أحدهما لا يكون الإنسان، فلا تسمع لمن استهان واستعلى بالبطلان حيناً ثم هان..

قالت ذلك ثم صمتت، فصارت مثل البرابى القديمة، أو صارت كأيقونةٍ، فتوسَّلتُ للعقل الفعال كى يدعوها لمسامحتى فأفاض بما معناه: هى لن تصحبك بعد الآن، فاستكمل مسارك وحدك، ولسوف تراها ثانيةً قبل خروجك من هذى الدهاليز.

رأيتُ فى المتحف وما رأيتُ، ونظرتُ ففهمتُ أشياءَ، وغابت عنى من خلفها أكثرُ الأشياء. ولما استكملتُ دورتى واقتربت مجدَّداً من الباب، وجدتُ الكاهنة التى كانت مرشدتى، تقف عند ناووسٍ أسود كبير كان ينام فيه فرعونٌ صالح ينتظر لحظة الخروج إلى النهار. بأدبٍ واستعطافٍ سألتها عن الفرق بين الناووس والتابوت، فردَّت بلا اهتمامٍ بأنهما كلمتانِ تترادفان، وكلتاهما ليست من كلامنا وإنما من كلام السريان. فتشجعتُ وسألتها عن صورة المرأة المنقوشة فوق رأس الفرعون، وعن الكلام المكتوب بحروف الطير، فنظرت نحوى بحنوٍّ وإشفاق يدل على الصفْح، ثم قالت بلسان المنْح: هذه واحدةٌ من صور «ماعت» حسبما صاغها الأوائلُ الذين عبَّدوا الطريق، فآونةً يرسمونها امرأةً فتية تمسك بمفتاح الحياة المسمى اللسان القديم «عنخ» وآونةً تراها امرأة مجنحة تبسط نظام السماء على الأرض، وآونةً هى امرأةٌ رشيقة على رأسها الريشة التى تزين أعمال المتوفى يوم القيامة والبعث. والمكتوب على التابوت، نقشه النائم فى الناووس ليشهد على نفسه بالعبارة «عاش فى ماعت».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل