المحتوى الرئيسى

باب الـوداع

04/01 23:17

مرت بخير كل اللحظات الحرجة المتوقعة هذا الصباح‏,‏ فقد دخل الحمام بمساعدة الممرضة دون اعتراض أو تذمر‏,‏ ولم يحرن ولا دبدب بقدميه كالمعتاد‏,‏

وظل صامتا وساكنا وهي تعطيه الحقنة وتلبسه ملابسه, وحين تصدر المائدة ظل رأسه منكسا وهي تضع علي صدره البافتة وتوثقها حول رقبته, ولما تشككت في سلامة صحته, مدت أناملها لترفع ذقنه قليلا, ثم نظرت مليا إلي عينيه حتي تأكدت أن بؤبؤهما يتحركان فاطمأنت, وبدأت تدس ملعقته في الطعام وتدفسها في فمه.

كانت تعليمات الطبيب أن يسمح له بحرية التجوال داخل مسكنه لمدة ساعة عقب كل وجبة, وأن يترك علي حريته في العبث بالأثاث والأجهزة غير الكهربية, وأن تبعد من طريقه الأواني الخزفية والزجاجية, حتي لا تتهشم فتخدش أمانه وتثير أعصابه, وطيلة الساعة التي قررها الطبيب لم تسمع جلبة من الحدود التي يتحرك فيها, وعندما فتحت عليه باب إحدي الغرف وجدته واقفا يتأمل صورة جماعية للأسرة بدهشة, ربتت ظهره بحنو فالتفت إليها ورماها بنظرات زائغة, سألته: تحب تلبس أنهو بدلة النهارده؟ اذدادت حيرته وبدا غير فاهم, دخل الطبيب في تللك اللحظة جاذبا ساعدها بعنف وهو يوبخها بصوت هامس أيضا: عشرين مرة اقولك مش دي نوعية الأسئلة اللي توجه لمريض الزهيمر, ثم استدار مواجها مريضه, راسما بسمة عريضة علي وجهه ومحافظا علي مسافة بينهما,وقال موجها كلامه للممرضة بقصد تعليمها: أولا تحافظي علي مسافة بينك وبين المريض, ومتعليش صوتك قدامه, واوعي تلمسيه خالص, وصيغة السؤال تبقي كده, ثم سأل مريضه بصوت خفيض: تحب سيادتك تلبس البدلة الكحلي, أومأ المريض برأسه, اتسعت ابتسامة الطبيب أمام الممرضة, وخرج منتشيا, بينما الممرضة تكاد تبتسم ساخرة.

وحين وقفت السيارة الفخمة أمام المدخل الخاص المسقوف بالرخام والجرانيت,هرع السائق لفتح باب السيارة للعضو المنتدب وطبيبه.

الحفل بدأ بالتلاوة الكريمة, وبعدها تم بث فيلم تسجيلي عن إنجازات الشركة خلال الـ50 عاما الماضية, ثم خطب المدير العام خطبة مؤثرة عن التكافل الاجتماعي بين العاملين, ولما طالت خطبته توتر الطبيب الذي كان يتمني أن ينتهي الحفل بسرعة, قبل أن ينفد مفعول حقن التهدأة التي حقن بها مريضه, فالعدد الكبير الموجود بالقاعة من المحتمل أن يوتر مريضه فيحدث ما لا يحمد عقباه, الأمور حتي هذه اللحظة تحت السيطرة, والاحتفالية جميلة والقاعة غارقة في الأضواء ومزدانة بالبالونات الضخمة المطبوع عليها انجازات الشركة, والطبيب عمل حساب كل شيء, فقد كان مريضه أثناء نوبات مرضه العصيبة يحن إلي طفولته, ويطارد البالونات حتي تنفجر بين يديه كالأطفال, لذا أمر الطبيب بملء البالونات بغاز كلوريد الهيدروجين المعروف برائحته التي تشبه رائحة البيض الفاسد, ولما تفجرت البالونة في يد مريضه وهاجمته رائحتها الفظيعة, أصبح بعدها لا يقرب البالونات, وها كلمة العضو المنتدب التي سجلوها له في مدي أشهر طويلة تبث عبر الشاشات ويصفق لها الجميع, ولم يبق إلا قائمة المنح والإمتيازات التي سيعلنها نائب العضو المنتدب وسترضي الجميع ويمر هذا الحفل بخير.

طفلة صغيرة بيدها وردة جميلة تقدمت مع امها الموظفة البسيطة تجاه الطاولة الرئيسية, نظر مدير الأمن تجاه الطبيب الذي طمأنه بايماءة, العضو المنتدب انتبه للطفلة التي تقترب, وقف مبتسما محاولا تذكرها, عندما اقتربت أكثر, تذكر انها الطفلة صديقته التي سرق من أجلها لاول مرة تفاحة من محل الفاكهة, انحني ليأخذ الوردة وهو يناديها باسم الطفلة التي في ذاكرته, لم تفهم طفلة الورد لماذا يناديها هذا الرجل باسم غير اسمها؟, جاملته بابتسامة فنزل بجسمه إليها, ربت خدها وتحسس شعرها, جفلت منه الطفلة وابتعدت قليلا, اعاد النداء عليها بحنو فتبسمت, قال لها المقولة التي كان يقولها في الماضي لصديقته: ياللا نلعب عريس وعروسة, خافت طفلة الوردة من نظرات عينيه وإشارات يده الضخم, وارتعبت من تللك العبارة بالذات التي كانت امها تحذرها دائما من قائليها, جرت, نهض العضو المنتدب حانقا ينادي عليها بصوت جهير ويعيد طلب لعب هذه اللعبة معها, وعندما قام أغلب الحاضرين لاستطلاع الأمر, اهاجه ذلك جدا وفقد سكونه وجاءته النوبة شديدة,وظل يزعق ويصرخ ويضرب بقوة كل من يقترب منه.

تمت السيطرة علي ماحدث بصعوبة, ونجح الطبيب في إخراج مريضه من المشهد, وبنبرة هادئة اعتذر نائب المدير العام عما حدث وطالب الجميع بالدعاء والصلاة من اجل صحة العضو المنتدب, واستقرت الطفلة في حضن امها مذعورة, ثم توالت المكافآت والإمتيازات التي يعلن عنها نائب العضو المنتدب, وظل التصفيق يتصاعد والصفير يعلو, بينما الوردة ملقاة اسفل إحدي الطاولات والطفلة ترقبها من بعيد, حتي تراخت يد الأم من التصفيق, ووجدت الطفلة نفسها حرة فنزلت بحذر وتحركت باتجاه وردتها, تشممتها قليلا وعادت بها تجاه مكان الأم, وعندما وجدتهم مازلوا في مشاغلهم, غيرت خطواتها نحو باب القاعة, أسفل حلق الباب بالضبط وقفت وترددت قليلا, ثم رمت بنظرة تجاه الرءوس الصلعاء والشعر الأشيب والعصي الخشبية وتجاعيد النسوة والأيدي ذات العروق البارزة التي تصفق بشدة, حسمت الطفلة أمرها وخرجت من القاعة.

المزيد من مقالات مكاوى سعيد

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل