المحتوى الرئيسى

السلفيون يتجملون

03/14 09:38

اسم النائب البلكيمى أغرب من فعلته، فمن الصعب نطقه أو كتابته، الأسماء لا تعلل كما يقولون، لكن لا بد أن لكل اسم جذورا ما، قد تكون فارسية أو تركية، فمن أين اشتق هذا الاسم؟ على أى حال فهو لم يعد يهمنا كفرد، لكن كعنوان لجماعة «السلف» التى دخلت بقوة إلى منطقة الضوء بعد أن ألفت العيش طويلا فى عالم الظلال، لذلك تبدو التصريحات التى تصدرها غريبة عن العالم الذى دخلته والعصر الذى تعيش فيه، وقد اختلط الأمر بالفعل على المرشحين الذين تم انتخابهم، فلم يفرقوا بين الوقوف تحت قبة البرلمان وتحت قبة المسجد، الذى دخلوه للصلاة وللاختباء من مباحث أمن الدولة، ولأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون فى هذا المكان الجديد فقد أخذوا يملؤون الجو بتصريحات مضحكة، مثل إقامة الحد وقطع يد السارق، ومنع اللغة الإنجليزية واعتبار تعلمها نوعا من المؤامرة، ووضع مِحرم بجانب كل امرأة تدخل على الإنترنت، وحجب موقع «الفيسبوك»، واتهام الثوار بأنهم عملاء، يأخذون حبوب «الترامادول» ثمنا لعمالتهم، وكالعادة يخرج المتحدث باسم حزبهم فى اليوم التالى لينفى كل ما قيل ويكذب كل ما صُوّر من «فيديوهات»، فى محاولة لإنقاذ كل ما يمكن إنقاذه.

كنت فى القاهرة وشاركت فى جمعة «استعادة الثورة»، وكنت منتشيا بتلك الدفقة الكهربائية التى بثها الثوار فأضاءت روح مصر، لكن الجمعة التى تلتها كانت «جمعة قندهار» التى أصابتنى، وأصابت الآلاف من المصريين المعتدلين بالفزع، فقد خرجت أعداد هائلة من البشر، تردد شعارات غريبة وترفع أعلاما لا تنتمى إلينا، وكانت الجماعة السلفية قد وصلت إلى ميدان الثورة متأخرة، لذلك لم يصبها شىء من وهجها السياسى، ولم تستوعب لغتها ولم تتفاعل مع مطالبها الاجتماعية، كل ما فى الأمر أنها أخذت الميدان لحسابها، ووجد أفرادها الباب مفتوحا فدخلوا، ووجدوا فراغا فملؤوه، دون أن يعرفوا ماذا سيفعلون بالمراكز التى احتلوها، فقد رفعوا هدفا بالغ العمومية، وهو تطبيق شرع الله على الأرض، دون أن يحددوا كيف يمكن أن يتحقق ذلك، ولا بأى طريقة يمكن أن نصل إلى العدل الأرضى، إذا كان هناك عدل أرضى، وكان من الممكن أن تبقى تصرفات أهل السلف فى دائرة التندر حتى وقعت حادثتان مفجعتان، أولاهما قيام واحد من شيوخهم بالحكم على تهجير ثمانى أسر مسيحية عن ديارها دون ذنب جنته، وثانيتهما كذبة المنخار الشهيرة للنائب «البلكيمى»، لقد اكتشفنا أنهم لا يقومون بهذه الأفعال من باب الطرافة، لكن جهلا بأمور هذا العالم، ولفرط جهلهم يمكن يقودوننا إلى مزالق ومآسٍ لا علم لنا بها، وستكون الكارثة عندما يأتى رئيس على شاكلتهم، فهم يحيطون أنفسهم بكمية من النواهى والحرمات تحد من تعاملهم بحرية فى العالم المعاصر، وجزء من مأساة «البلكيمى» هى رغبته الشديدة فى معالجة أنفه القبيح رغم علمه أن هناك فتوى سلفية تحرم عليه ذلك، فعمليات التجميل كلها حرام، لذلك كذب على نفسه وكذب علينا، وهم مرغمون على العيش وسط عديد من الأكاذيب المعاصرة، فقد سعوا للانتخابات وهم يدركون أن الديمقراطية حرام، ويحاولون الانفراد بكتابة الدستور رغم أنهم يؤمنون أنه لا مجال للتشريع إلا فى القرآن والسنة، ويحتم عليهم موقعهم السياسى أن يتعاملوا مع أناس كفرة، الاقتراب منهم حرام، ويرون حولهم مظاهر للانحلال، على رأسها السينما والتليفزيون، لكنهم غير قادرين على إغلاقها، كل شىء حرام تقريبا بما فيها لعبة كرة القدم، هذا الموقف المتناقض يصيبهم بحيرة شديدة، والمشكلة أن هذه التناقضات فى ازدياد.

لم تأت جماعات السلف من كوكب آخر، لكن طريقتهم فى التفكير فرضت عليهم نوعا من العزلة، فاعتمادهم على النقل من السلف الصالح وليس إعمال العقل يعطل كثيرا من ملكاتهم وقدراتهم على الاجتهاد، وتعتمد رؤيتهم على حديث للرسول الكريم يقول: «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، وهم يفسرون ذلك بأن الفكر الإسلامى قد انحصر فى القرون الثلاثة الأولى منه، لا يوجد رأى أو اجتهاد يمكن الأخذ به، وهم بذلك لا يتجاهلون 12 قرنا من الفكر الإسلامى فقط، لكنهم يتجاهلون كل الاجتهادات المعاصرة، خصوصا دعاوى الإسلام الوسطى الذى ينفتح على العالم، ويحاول أن يتماشى مع تطور العصر، فكثير من المخترعات وأنظمة الحكم وعلاقات البشر لم يكن لها وجود فى القرون الثلاثة الأولى، لذا فقد كان من السهل تحريمها بدلا من السعى للتعامل معها.

ولعل الإمام ابن تيمية الذى عاش فى القرن السابع الهجرى لم يتصور أن يكون له أتباع بهذه الكثرة فى قرننا الواحد والعشرين، فقد كان دائم الاختلاف مع فقهاء عصره، وقاده هذا للسجن أكثر من مرة، فهو لا ينتمى إلى القرون الأولى زمنيا، لكن فكريا، ولد بعد سقوط بغداد على أيدى المغول، وعاش حياة مهددة بالغزوات، مغول وصليبيون وتتار. وبالمناسبة فالمغول يختلفون عن التتار، وعاش عصر المماليك المضطرب، ورأى الأخطار التى تحيق بالإسلام، فحاول أن يعود به إلى أصوله التطهرية الأولى، وقد شارك فى معركة «شقحب» ضد التتار، وخرج مع الجيش ليشجع الجنود ويطعمهم بيديه، واكتسب شعبية جارفة، وعندما أحس بغيرة السلطان منه، فضل أن يتوارى، حتى لا تتكرر تجربة السجن، وأعلن أن الواجب هو طاعة السلطان مهما كان جنسه ومهما طغى وتكبر، نفس الموقف الذى اتخذته جماعات السلف المعاصرة حتى الآن.

لقد وعى سلف التسعينيات الأخطاء التى وقع فيها آباؤهم فى أواخر السبعينيات. كان الآباء السلفيون أكثر عنفا وصخبا، فرغم أن نظام السادات قد دعمهم ليكونوا قوة ضاربة فى مواجهة قوى اليسار الجديد، فإنهم سرعان ما استقلوا وتباعدوا عنه، تباعدوا عن المجتمع الكافر بأكمله، اختطفوا شيخ الأزهر وقتلوه، لأنه يمثل فى نظرهم كل البدع الدخيلة على الإسلام، وحاولوا الاستيلاء على الكلية الفنية العسكرية، ثم كانت ضربتهم الكبرى ضد الرئيس السادات نفسه، الرجل الذى كان سببا فى بعثهم، ومارست السلطة ضدهم شراستها المعهودة، وبالغ نظام مبارك فى ذلك بضرباته الاستباقية، تعلم أبناء السلف المعاصرون الدرس جيدا، فلم يقتربوا من لعبة السياسة الخطرة، واستطاع البعض منهم أن يجد صيغة للتفاهم مع جهاز أمن الدولة، وهناك شيوخ منهم كانوا يمدحون هذا الجهاز علنا ويشيدون بفضائله، لكن فضيلتهم الكبرى هى أنهم ألقوا بالعالم المعاصر من خلف ظهورهم، وحتى عندما نشأت فى داخلهم حركة إصلاحية هى «حفص» تحثهم على الاهتمام بدراسة الشأن العام، ودراسة المشكلات التى تعانى منها البلاد، لم تغير شيئا من توجهاتهم، واستطاعت أجهزة الأمن أن تُرحّل زعيم هذه الحركة النصف تايلاندى عن البلاد، وظل السلفيون على حذرهم التقليدى فى مواجهة الثورة، لم يشاركوا فيها، وأصدروا الفتاوى التى تحض على طاعة الحاكم، وحتى يمتصوا الطاقة الإيجابية لشباب الجماعة فقد وجهوهم إلى قضيتهم الأثيرة، البحث عن المسلمات الجدد داخل الكنائس، ثم جاءت الانتخابات لتدفعهم إلى مقدمة المشهد السياسى، الذى كانوا وما زالوا غير مستعدين له.

يحاول السلف أن يجدوا صيغة للتعامل مع الواقع الجديد، وتجميل الأنف هو جزء من هذه المحاولة، وتجميل الكلمات هو جزء آخر، لكن المفاهيم القديمة ما زالت موجودة تحت الجلد، وسوف يظهر هذا قريبا فى كل ممارسة يقومون بها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل