المحتوى الرئيسى

العالم يحتاج إلى مقياس جديد للتدفقات التجارية

03/06 11:59

شهد الاقتصاد العالمي تحولين كبيرين في السنوات العشرين الماضية. وسيستمر هذان التحولان، ومن المحتمل جداً أنهما سيتسارعان خلال السنوات العشر المقبلة.

وينطوي التحول الأول على انقلاب جذري يرتبط بالقوة المتزايدة للدول الناشئة ذات الكثافة السكانية العالية جدا، أو «الجماهير الاقتصادية».

ولم يحدث أن شهد التاريخ مثل هذه التنمية الاقتصادية الهائلة، التي يصفها البعض بـ«التحول الكبير»، والمتركزة في مساحة زمنية قصيرة للغاية. وتضاهي إنتاجية الصين اليوم أكثر من 8% من اقتصاد العالم (بالسعر الجاري للدولار)، مقابل أقل من 2% قبل 30 عاما.

وهذه الزيادة تولد بالفعل تداعيات اقتصادية وسياسية وإعلامية مهمة، ولكن بعد 20 سنة من الآن، ستصل إنتاجية الصين على الأرجح إلى 20% من الاقتصاد العالمي.

والمكانة التي تحتلها الصين على هذا النحو هي قطعاً فريدة من نوعها، وذلك لأنها تشكل أكبر وأهم الجماهير الاقتصادية النامية بسرعة، إذ تمثل الهند نحو 3% من الاقتصاد العالمي اليوم، ومن المتوقع أنها ستمثل 5% فقط بعد 20 عاماً من الآن.

وتمثل إفريقيا 2% من الاقتصاد العالمي اليوم، في حين تشكل أميركا اللاتينية 4 إلى 5%. وفي غضون 20 عاما، يتوقع لإفريقيا أن تمثل 3% من الاقتصاد العالمي، ولأميركا اللاتينية أن تحافظ على حصتها الحالية. ولذا، فإنه على الرغم من أن هذه الجماهير الاقتصادية الأخرى آخذة في التحول أيضا، فإنها لا تفعل ذلك بدرجة موازية لتحول الصين.

ويعد تراجع سلطة الغرب الاقتصادية، تعويضاً منطقياً للوزن الاقتصادي المتزايد الذي تحمله الدول الناشئة. وفي حال استمر التوجه الذي لوحظ خلال العقدين الماضيين، فإن الوزن الذي تحمله أوروبا من الاقتصاد العالمي سينخفض من 35 إلى 25% بحلول عام 2030، والوزن الذي تحمله أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) سينخفض من 30 إلى 28%. وحقيقة أن أميركا الشمالية ستصمد على الأرجح بدرجة أكبر، تعود بصفة رئيسية إلى وضعها الديموغرافي الأكثر ملاءمة من وضع أوروبا.

والتحول الرئيسي الثاني الذي شهده اقتصاد العالم خلال العقدين الماضيين، هو التغيير العميق في طبيعة التقسيم الدولي للعمل، لا سيما من حيث تقوية التخصص في جهاز التصنيع في مختلف البلدان. وتتجذر حركة التخصص هذه، في التغييرات التكنولوجية التي جعلت العالم مكانا أصغر.

ولطالما كانت التجارة الدولية مقيدة بالتكاليف المترتبة على المسافة، خصوصاً في ما يتعلق بوسائل النقل والاتصالات. وأدى ذلك إلى «تفضيل للأقرب»، وهو ما يترجم إلى دولة تختار التجارة أولاً مع جيرانها. وساهم اختراع الحاوية وشبكة الإنترنت، في تقليص عقبة المسافة إلى حد كبير في غضون بضعة عقود فقط. فبفضل الحاوية، انخفضت تكلفة نقل طن من البضائع عن طريق البحر بواقع 50 مرة في غضون سنوات قليلة، فيما كان لثورة الإنترنت تأثير في الحجم نفسه في مجال الاتصالات.

ويتركز ما نسبته 60% من التجارة العالمية للدول الآسيوية في منطقة آسيا نفسها، وهي المنطقة التي شهدت التكامل الأكثر عمقاً لسلاسل الإنتاج، من خلال تصنيعها لقطع غيار ووحدات شبه مجمعة، يتم دمجها لاحقاً مع مكونات تضم عناصر من بلدان مختلفة، ومن ثم إرسالها إلى الصين ليتم تجميعها قبل تصديرها إلى مكان آخر.

وهذه الظاهرة الكامنة، وهي عبارة عن عملية تجزئة بين مختلف البلدان وأنواع العمل، تتجلى على نحو فعال في سلسلة إنتاج منتجات رمزية معينة، مثل جهاز «آي باد» الذي يتم تجميع جزء منه في تشنغدو، غرب الصين.

ويعمل أكثر من 100 ألف شخص في مصنع يختص بتصنيع جزء واحد فقط، وهو الغلاف الخارجي للجهاز، ويتمثل ما تبقى من نشاط المصنع في المناوبة بين عمليات التجميع والفحص الفني. وتكون دوائر الخدمات اللوجستية بالغة التعقيد، ويستغرق تجميع مكونات الجهاز ثماني ساعات، بسبب وجود عدد كبير من ضوابط الجودة المطلوبة.

وتشكل القيمة المضافة الصينية التي يولدها هذا المصنع، 5% من سعر شراء جهاز «آي باد»، فيما تصل القيمة المضافة الأميركية للجهاز نفسه، الذي تم تجميعه في الصين وتصديره إلى الولايات المتحدة، إلى أكثر من 20 ضعفاً.

وتتغير سلاسل التصنيع العالمية على الدوام، وذلك في إطار حركة مستمرة تنطوي على توزيع وإعادة توزيع العمالة ورؤوس الأموال، استجابة للفرص التي تتصورها الشركات، ولبيئة تنظيمية متغيرة، ولتغييرات في الحواجز التجارية.

ويمكن الآن أن يتم تحويل تنفيذ هذه المهام، التي تم إنجازها في وقت من الأوقات في بلد معين من قبل شركة معينة، بناء على استخدام قوة عاملة ضخمة، إلى بلد آخر وشركة أخرى مع وسائل إنتاج مختلفة.

ولم تعد المسألة مسألة تجارة في السلع والخدمات، وإنما مسألة «متاجرة في المهام» التي تدخل في عملية تصنيع منتج نهائي، أو توفير خدمة نهائية. ولهذا التحول الكامن عدد من العواقب الواضحة للغاية، لأنه يرتكز على الموقع الصناعي والنقل وإعادة التوزيع، وهو ما يعطي الشركات الحوافز المادية التي تحتاجها لتحسين كفاءتها.

ولمعرفة مصدر الكفاءة في هذا التكوين الجديد للتجارة الدولية، ما علينا إلا أن نشير إلى نموذج ريكاردو ـ شومبيتر المبسط. فمن ديفيد ريكاردو، نأخذ كفاءة التصنيع المتزايدة التي يجادل بأنه يتم الحصول عليها من خلال تقسيم دولي متزايد للعمل، أما من جوزيف شومبيتر، فإننا نأخذ نظريته القائمة على أساس دورة متواصلة من تدمير نظم التصنيع وإنشائها، حيث تفسح النظم الأقل كفاءة المجال للنظم الأكثر إنتاجية. وفي هذا التكوين الجديد للتجارة الدولية، تتجاوز القضايا التجارية على نطاق واسع، قضية الاختلالات التجارية.

وعلى أية حال، فإن الاختلالات التجارية الثنائية تصبح بلا معنى، عندما تحتوي صادرات الصين إلى الولايات المتحدة على ما يقرب من 50% من القيمة المضافة الصينية، بينما تضم الصادرات الأميركية إلى الصين ما يتراوح بين 80 و90% من القيمة المضافة الأميركية.

وسيكون من الهراء الاقتصادي أن نواصل تقدير التوازنات التجارية الثنائية، بالطريقة التي نقدرها بها اليوم. وما نحتاج مراقبته هو القيمة المضافة الفعالة في كل بلد، وليس القيمة الإجمالية للسلع والخدمات. وبطبيعة الحال، فإن الصين في حالة فائض والولايات المتحدة في حالة عجز.

وتلك مشكلة اقتصادية أسبابها معروفة، وهي الإفراط في ضبط المستهلك في الحالة الأولى، والتوفير بصورة غير كافية في الحالة الثانية. ومع ذلك، فإن السياسيين يركزون على العلاقات التجارية الثنائية بين البلدين، الأمر الذي لا يعد منطقياً في الوقت الحالي.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل