المحتوى الرئيسى

رحيل الحزب «الطليعي»

02/23 06:23

وليد أبي مرشد

أنفجع بحزب البعث العربي الاشتراكي ولا نعزى؟

لقد غفل المعزي عن مصاب الأمة العربية الجلل، علما بأنه على قاعدة «خير الكلام ما قل ودل»، تكفي جملتان فقط لنعي حزب البعث:

«ولد ثوريا في دمشق عام 1946.. ودفن أوتوقراطيا في دمشق عام 2012».

أما سيرته السياسية بين عامي 1946 و2012، وكيفية تحوله من حزب قومي تحرري إلى آلة متقدمة للدكتاتورية العسكرية في العالم العربي، فإن «حرمة الموت» تقضي بأن تترك كتابتها للتاريخ، وتحديدا لأجيال الربيع العربي القادمة.

من سخرية القدر أن يودع حزب البعث، في مسقط رأسه، بجنازة رسمية تولى تنظيمها ما تبقى من فلوله «المناضلة» في سوريا. هؤلاء لم يكتفوا بقطع حبل سرّته المتصل بالدولة (المادة الثامنة من الدستور التي تكرسه «حزبا قائدا» للدولة والشعب)؛ بل أبلغوا الشعب السوري بأكمله موافقتهم على وأده بمادة وحيدة ضمنوها مسودة الدستور السوري الجديد تنص على أن السيادة في سوريا «هي للشعب، ولا يجوز لفرد أو لجماعة أو لحزب احتكارها أو ادعاؤها».

إذن، كان الذي خاف السوريون أن لا يكون.. إنا لله راجعون: لفظ «الحزب القائد» أنفاسه «الثورية» الأخيرة على أيدي أهل السلطة أنفسهم الذين أكرموه بدفنه باستفتاء شعبي.

قد يدعي بعض سيئي النية أن أهل السلطة في سوريا ارتأوا التضحية بالحزب الحاكم أملا في المحافظة على العائلة الحاكمة.

ربما كانت هذه المقايضة واردة بعد أحد عشر شهرا من انتفاضة الشعب السوري على الحزب والعائلة معا. مع ذلك، يصعب الافتراض أن رحيل حزب البعث يندرج في خانة «القتل الرحيم» بقدر ما يندرج في خانة «الوفاة الطبيعية» بداعي الشيخوخة السياسية والترهل العقائدي.

ستون حولا - لا أَبَا لَكُمُو - عمر ناءت بحمله الأحزاب الماركسية التي حكمت أوروبا الشرقية رغم أنها كانت أفضل تنظيما وأبعد أفقا من حزب مخضرم مزج الرومانسية القومية بالبراغماتيكية الاشتراكية فعجز عن حمل عبئيهما معا، وتنطّح لتحقيق وحدة العرب من المحيط إلى الخليج، فكان إنجازه الأبرز إحباط أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب المعاصر، ومن ثم الفشل الذريع في المحافظة حتى على وحدة صفه الداخلي.

علة حزب البعث العربي الاشتراكي لا تختلف كثيرا عن علة الأحزاب الماركسية الأوروبية: كلاهما شمولي، وكلاهما لم يصل إلى سدة الحكم في بلاده عبر صناديق الاقتراع.. فلا غرابة أن لا يكنَّ احتراما يذكر لصناديق الاقتراع وللرأي العام الشعبي.

ولكن إذا كانت الأحزاب الشيوعية الأوروبية تسلقت سلم الحكم على ظهر الدبابة السوفياتية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد تكون «ميزة» حزب البعث على الماركسيين هي امتطاؤه الدبابة العربية مدخلا للحكم.

سواء في العراق أو في سوريا - مهد التجربتين البعثيتين في العالم العربي - أتقن البعثيون فن الوصول إلى السلطة عبر عملية «تسلل» لعبت فيها المؤسسة العسكرية دور «حصان طروادة».. فركب بعثيو الانقلابات حصان العسكر ودباباتهم إلى حد التحول إلى أسرى المؤسسة العسكرية في ذهنيتهم وهواجسهم وأسلوب حكمهم، فيما حولوا بعثيي الخارج، خصوصا لبنان، من مناضلين عقائديين، إلى طابور خامس لأنظمتهم، لقاء «رواتب» شهرية في معظم الأحيان.

ما كان يوما «قدر الأمة العربية» حولته الذهنية العسكرية إلى جلاد شعوب وخانق حريات.. إلى أن وجد نفسه اليوم في المقلب الآخر من التاريخ، عوض أن يكون في طليعة قادة الربيع العربي. والأدهى من كل ذلك - بالنسبة لحزب توسل الطرح العقائدي للإقناع والتنظيم الحزبي وإطارا للنضال الجماهيري - أنه لم يلمس يوما حاجته إلى ممارسة نقد ذاتي لتصرفاته، ولو داخل إطار حزبي مغلق، فصمت صمتا مريبا على تحوله، في كل من بغداد ودمشق، من حزب عربي طليعي، إلى مجرد مطية سياسية لعائلتين فقط.

من كان يتصور، في خمسينات القرن الماضي، أن يصبح ربيع العرب.. خريف البعث العربي الاشتراكي؟



*نقلاً عن "الشرق الاوسط"

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل